"أولاً في تونس والآن في مصر، لقد تكلم الشعب وأوضح أنه لا يريد العيش في ظل حكم استبدادي، لقد سئم الأنظمة التي تسيطر منذ عقود. في النهاية، سيكون صوت الشعب هو الحاسم، وعلى النخب العربية والدول المجاورة لمصر والقوى العالمية أن تتفهم ذلك وتضعه في حساباتها السياسية".
هذه العبارات كانت مقدمة مقالة كتبها ميخائيل غورباتشوف، الزعيم السوفياتي الذي وافته المنية الأسبوع الماضي عن عمر 92 سنة، ونشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تعليقاً على رحيل الرئيس المصري حسني مبارك في فبراير (شباط) 2011 على أثر احتجاجات شعبية.
عبارات غورباتشوف لتحليل المشهد في العالم العربي تعكس شخصاً ثورياً مناسباً تماماً للمهمة التي أغضبت منه الروس، وأهمهم الرئيس الحالي فلاديمير بوتين الذي يعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين".
يشير الزعيم السوفياتي في مقالته إلى أن المصريين ملأوا ميدان التحرير وشوارع المدن الأخرى لينهوا "مهزلة" تمثلت في العيش لأعوام في ظل حال الطوارئ التي "بموجبها تم تعليق جميع الحقوق والحريات ومنحت السلطة التنفيذية صلاحيات غير محدودة وترخيصاً بالحكم التعسفي".
لم يكتف غورباتشوف بهذا القدر من الدعم للمحتجين في العالم العربي، لا سيما مصر، فكضيف محبوب لدى وسائل الإعلام الغربية يتفق مع ليبراليتها وخطابها المؤيد للديمقراطية، ظهر الزعيم السوفياتي مجدداً في مقابلة مع وكالة "أسوشييتد برس" في أكتوبر (تشرين الأول) 2011 ليدعم الاحتجاجات ضد المجلس العسكري في مصر، ويتحدث عن غيرها من الدول العربية قائلاً إنه "لا يوجد حل واحد يناسب الجميع في المنطقة".
سبقت تلك المقابلة، تعليقات في صحيفة "أرغيومينتي إي فاكتي" الروسية في مارس (آذار) من العام ذاته، اتهم فيها قادة روسيا بدحر الديمقراطية ونصح بوتين بالتعلم من التجربة العربية وعدم الترشح للانتخابات الرئاسية 2012، إذ إن بوتين كان رئيساً للوزراء آنذاك وخدم بالفعل فترتين رئاسيتين.
في التعليقات ذاتها، تحدث مجدداً عن مبارك قائلاً "لقد بقي طويلاً (في الحكم)، حتى سئم الناس منه"، لكن ذلك لا يعني أن غورباتشوف كان ينظر إلى الرئيس المصري نظرة سلبية. فعلى طريقة الأميركيين، أشاد في المقالة المنشورة بـ"نيويورك تايمز" بدور مبارك "الذي لا يمكن إنكاره" في عملية السلام بالشرق الأوسط. وعلى المستوى الشخصي أشار إلى اللقاء الذي جمعهما عام 1990، فكان مبارك أول رئيس مصري يزور الاتحاد السوفياتي منذ 18 عاماً، لافتاً إلى أنه يتمتع بشخصية قوية، كما رأى أن مبارك كان بإمكانه أن يلعب دوراً في المرحلة الانتقالية الصعبة في بلاده، لولا رفض المصريين.
تناقض أم ثورية؟
لم يجمع غورباتشوف ومبارك سوى لقاء وحيد وقائمة اغتيال وضعتها مجموعة إرهابية بقيادة عمر عبدالرحمن وتساؤل غربي عما إذا كان جمال مبارك الذي كان أبوه يعده لوراثة الحكم، يشبه غورباتشوف وسيقود عملية تحديث للنظام السياسي والاقتصادي.
ربما يعتقد أحد أن إشادة غورباتشوف بمبارك في المقالة نفسها التي يدعم فيها الثوار أمراً متناقضاً، كما قد يذهب آخرون للتساؤل: كيف لم يتعلم الرجل الدرس مما آلت إليه الأوضاع في بلاده بعد ثورته؟.
يمكن القول إن الأمر يتعلق فقط بالجانب الثوري في شخصية الزعيم السوفياتي، صاحب دعوة "غلاسنوست" التي أنهت الرقابة ومنحت المواطنين السوفيات حرية الرأي والتعبير، ومطلق عملية "بيريسترويكا" أو "إعادة البناء"، وهي برنامج الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي اعتبره الروس الثغرة التي انهار بسببها الاتحاد السوفياتي، ففي المقالة ذاتها أفرد غورباتشوف جزءًا كافياً للحديث عن "المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الحادة" في الدول العربية، إذ "أدى ركود الاقتصادات وتفشي الفساد واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وحياة الإحباط بين ملايين الشباب إلى تأجيج الاضطرابات الاجتماعية"، ومن ثم سقوط الأنظمة العربية. فلم يكن غورباتشوف إذاً ضد مبارك الذي بقي في السلطة نحو 30 عاماً، ولكن ضد ما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في مصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع ذلك، لم يكن موقفه كهذا حيال الزعيم الليبي معمر القذافي. ففي 21 فبراير 2011، أي بعد أيام قليلة من اشتعال الاحتجاجات في ليبيا، سرعان ما حذر الزعيم السوفياتي السابق، الحائز على جائزة "نوبل" للسلام، من استخدام العنف ضد شعبه وتسريع نهاية حكمه، وفي مؤتمر صحافي حافل للإعلان عن المرشحين لجوائز تحمل اسمه، كان غورباتشوف قوياً وصريحاً في انتقاده النظام الليبي، داعياً الولايات المتحدة وأوروبا إلى التعامل مع الوضع بمسؤولية كبيرة.
بمراجعة الموقف التاريخي لغورباتشوف، فإنه على الصعيدين الدبلوماسي والعلني تضامن مع ليبيا ودان الولايات المتحدة "كمعتد إمبريالي" عندما وجهت ضربات عسكرية إلى العاصمة الليبية طرابلس ومناطق أخرى بما في ذلك المجتمع السكني الذي كان يقيم فيه القذافي عام 1986، على أثر اتهام واشنطن للأخير بالوقوف وراء الهجوم الإرهابي على ملهى ليلي في العاصمة الألمانية برلين، مما أسفر عن مقتل جنديين أميركيين وإصابة 22 آخرين.
مع ذلك، كشف بافيل سترويلوف في كتابه "ما وراء عاصفة الصحراء: أرشيف سري مسروق من الكرملين يلقي ضوءاً جديداً على الثورات العربية في الشرق الأوسط" الذي صدر عام 2011، أن غورباتشوف لم يكن لديه شك في أن القذافي متورط، كما كشف الكتاب عن العلاقة المتوترة بين زعيم الاتحاد السوفياتي والزعيم الليبي بسبب استفزاز الأخير للولايات المتحدة، حتى إن غورباتشوف حذره من عدم استعداده لخوض حرب عالمية ثالثة بسببه، وكذلك كانت الحال في علاقته بصدام حسين في العراق وياسر عرفات في فلسطين والإيرانيين.
إرث معقد وتناقض تاريخي
يقول أستاذ التاريخ والعلوم السياسية بجامعة "ميشيغان" رونالد صني إن غورباتشوف كان بالفعل شخصية متناقضة، كما أن إرثه معقد، لقد تم الترحيب به في الغرب باعتباره ديمقراطياً ومحرراً لشعبه، وهو ما كان عليه حقاً، وأصبح محتقراً بشكل متزايد من قبل كثيرين داخل روسيا لتسبب سياساته في تدمير الاتحاد السوفياتي وتفكيك قوة عظمى. فكان غورباتشوف مصلحاً يطمح لأن يكون ثورياً يرغب في تحرير بلاده وإضفاء الطابع الديمقراطي عليها لإنقاذ الاشتراكية، لكن انتهى به الأمر إلى تقويض الاشتراكية، وتجاوزت إصلاحاته المتسرعة لتحديث الاتحاد السوفياتي التطورات على الأرض التي شهدت سقوط المشروع الاشتراكي لتحل محله حقبة جديدة في روسيا تميزت بالنزعة القومية المتنامية والاستبداد.
ولد غورباتشوف عام 1931 في جنوب روسيا لأبوين فلاحين، حيث استمع إلى قصص القمع في عهد ستالين من أجداده الذين عانوا السجن. وكرجل درس القانون ومسؤول في الحزب الشيوعي، كان غورباتشوف يعرف أمراض النظام، ومن ثم فإنه بمجرد حصوله على أعلى منصب في الحزب عام 1985 شرع في إطلاق برنامج الإصلاح، لكن منذ البداية ثبت أن الإصلاحات الاقتصادية معيبة وتواصلت مشكلات ضخمة بما في ذلك انخفاض أسعار النفط عالمياً، أكبر مصدر للعملات الأجنبية في الاتحاد السوفياتي، والزلزال المدمر في أرمينيا وكارثة "تشيرنوبيل" النووية، مما أدى إلى إفقار البلاد وتآكل شعبية غورباتشوف في الداخل.
وفي حين أكسبته إنجازاته على صعيد السياسة الخارجية، الانسحاب من الحرب في أفغانستان وتحرير الدول التابعة للاتحاد السوفياتي في شرق أوروبا وتقليص الأسلحة النووية، أصدقاء في الخارج، فإن الحال لم تكن هكذا بين عدد من رفاقه المقربين في الداخل، لا سيما في الجيش وجهاز الاستخبارات "كيه جي بي".
يقول أندريه كوليسنيكوف الزميل لدى "مؤسسة كارنيغي للسلام" في واشنطن إن غورباتشوف لم يكن ليتصور أن عملية التحول الديمقراطي التي طرحها ستنتهي بانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن جميع الإمبراطوريات تنهار في نهاية المطاف، وفي حال الاتحاد السوفياتي أدى فجر الديمقراطية أيضاً إلى ظهور حركات وطنية داخل الجمهوريات الفردية، ومن ثم كان من المستحيل وقف عملية انهيار الاتحاد وهذا هو منطق التاريخ.
ويضيف أن غورباتشوف تصور ثورة اشتراكية تجمع بين لينين والديمقراطية واقتصاد السوق، لكن كان هذا تناقضاً تاريخياً لم ينجح، وفي الواقع لم يكن من الممكن أن ينجح أبداً. فكلما زادت الحريات التي حصل عليها الشعب السوفياتي قلت شعبية غورباتشوف في الداخل. والقائد نفسه لم يستطع أن يرى حدود هذا التوسع في الحرية، أو كيف لا يفقد السلطة بينما يبشر بالديمقراطية.