منذ توليه الأمانة العامة للحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي، مارس (آذار) عام 1985، حتى استقالته من رئاسة الاتحاد، ديسمبر (كانون الأول) عام 1991، سينظر التاريخ إلى الزعيم الراحل ميخائيل غورباتشوف على أنه الرجل الذي أنهى قوة عظمى بنفسه بطرح برامج إصلاح بلغت من الجرأة أن مناوئيه ما كانوا يحلمون بها.
وعلى الرغم من أن روسيا، وهي المكون الأكبر في الاتحاد السوفياتي، سيطرت على مناجم الذهب والماس والإنتاج النفطي والغازي قبل إعلان نهاية الاتحاد، 26 ديسمبر 1991، فإن التدهور الاقتصادي الذي كان مبرر إصلاحات غورباتشوف في البداية تحول إلى فوضى تعمقت أكثر مع فترة حكم الرئيس الروسي بوريس يلتسين.
تولى غورباتشوف رئاسة الاتحاد السوفياتي والناتج المحلي الإجمالي له يزيد على تريليونين و200 مليار دولار تمثل نسبة معقولة من حجم الاقتصاد العالمي، وتركه ليصبح حجم الاقتصاد في منتصف حكم فترة يلتسين للاتحاد الروسي أقل من 200 مليار دولار، وبالطبع كان كثير من دول الاتحاد السوفياتي السابق في وسط آسيا وأوروبا الشرقية استقلت وخرج اقتصادها من الاقتصاد السوفياتي.
وإذا كان العالم يتذكر التظاهرات والإضطرابات العنيفة بسبب غلاء المعيشة في فترة حكم يلتسين نتيجة برامج الإصلاح الاقتصادي الصادمة والتحول من اقتصاد اشتراكي مركزي إلى اقتصاد السوق، وعمليات الخصخصة الواسعة لأصول الدولة، فإن كل ذلك بدأ بالفعل في حكم غورباتشوف قبل انهيار الاتحاد.
السياسة قبل الاقتصاد
يحاول بعض الكتاب الآن تبرئة غورباتشوف مما يلومه عليه بعض الروس من أنه كان السبب في انهيار البلاد وإضعافها اقتصادياً والتمهيد لنهب ثرواتها من قبل فئة صغيرة من الأثرياء الجدد الذين حولوا مئات المليارات من أصول البلاد المنهوبة إلى بنوك الغرب، وفي هذا السياق يرون أنه كان "إصلاحياً حسن النية، وقدم الإصلاح السياسي على الاقتصادي فكانت النتيجة سلبية".
على الرغم من أن الاقتصاد السوفياتي كان في حال من الضعف والجمود بعد 70 عاماً من حكم الحزب الشيوعي ومركزية الدولة، فإن الأوضاع المعيشية للمواطنين في دول الاتحاد لم تكن بالسوء الذي أصبحت عليه بعد عامين من تولي غورباتشوف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكما يقول أستاذ في جامعة أوكسفورد فإن "هناك خرافة في الغرب بأن الاتحاد السوفياتي كان قد وصل إلى قمة الأزمة عام 1985، وأن المكتب السياسي للحزب الشيوعي اختار غورباتشوف لأنه إصلاحي، بالتالي لم يكن أمامه خيار إلا أن ينفذ إصلاحاً جذرياً، لكن النظام الشمولي يصل إلى مرحلة أزمة حينما لا يطيع الناس قيادته وقوانينه، وحين تصبح الاحتجاجات الشعبية دائمة وتصاحبها اضطرابات اجتماعية، وهو ما لم يكن موجوداً في 1985. والواقع أنه لم يبدأ إلا بعد سنوات من إصلاحات (البريسترويكا) التي أطلقها غورباتشوف".
تعني "البريسترويكا" الإصلاح الجذري بإعادة الهيكلة، لكن غورباتشوف استبقها من أول يوم لتوليه السلطة بشعاره الآخر "غلاسنوست" أي المكاشفة والشفافية المطلقة، وكان هدفه تحرير النظام السوفياتي من الجمود ثم البدء في إعادة هيكلة الاقتصاد، لكن "الأمور أفلتت من يده" كما يكتب الآن كثير من المتابعين الغربيين لتلك الفترة.
فوضى الخصخصة
كانت المحصلة بعد سبع سنوات في السلطة أنه لم يتمكن من الإبقاء على الاتحاد السوفياتي باقتصاده المركزي وسيطرة الدولة على كل شيء، ولا هو تمكن من تحويل البلاد إلى اقتصاد السوق على أسس غربية كما كان يستهدف، وحين لم يتبق من الاتحاد السوفياتي سوى الاتحاد الروسي، الذي كان يضم روسيا وبيلاروس وأوكرانيا وقتها وترأسه بوريس يلتسين، كان الاقتصاد السوفياتي تشرذم بين دول عدة، وذهب كثير من الأصول إلى الدول المستقلة الجديدة، وما بقي أصبح مرتعاً للفوضى الاقتصادية العارمة في فترة حكم يلتسين حتى 1999.
ما فعله يلتسين ومعه مستشاروه الاقتصاديون المتأثرون بـ"بريسترويكا" غورباتشوف، هو "تغيير الصدمة"، ولم تتحمل روسيا صدمة يلتسين بعد صدمة غورباتشوف السوفياتية، إذ أدخل يلتسين البورصة وغير القوانين، وبدأ في التخلص من ملكية الدولة للأصول الاقتصادية عبر برنامج خصخصة شابته عمليات فساد رهيبة.
وبدأ الناس في روسيا يتحسرون على الاقتصاد الاشتراكي بفقره وجموده، فقد كان على الأقل يضمن لهم الحد الأدنى من مستويات المعيشة، واستولت مجموعات قليلة من الأثرياء الجدد الذي سيسمون في ما بعد في الإعلام الغربي "أوليغارك" على أغلب أصول البلاد ويهربون الثروات إلى الخارج.
وتصاعدت التظاهرات والاحتجاجات الشعبية على ارتفاع معدلات التضخم ونسبة البطالة والفقر. ووصلت الاحتجاجات في بعض الأحيان إلى اشتباكات دموية بين السلطات والناس الذين يعانون الأزمات الاقتصادية الطاحنة. وكان ذلك المناخ الذي تولى فيه الرئيس الحالي فلاديمير بوتين السلطة بعد استقالة يلتسين نهاية القرن الماضي، ولأن بوتين كان آخر رئيس وزراء خلال رئاسة يلتسين، فقد كان مدركاً أن الصدمات التي بدأها غورباتشوف تحتاج إلى "فرملة" كي يتمكن من إعادة التوازن للبلاد.