"من أنا؟"، قد يبدو هذا السؤال بسيطاً للوهلة الأولى، وقد يبدو الجواب عليه بديهياً، إذ إن أسهل طريقة للتعريف من خلالها عن ذاتنا وأكثرها عفوية هي الانطلاق من المعلومات الواردة في بطاقة هويتنا، ومن مكانتنا الاجتماعية، ومن وظيفتنا وسواها، ولكن في الواقع إنه السؤال الأكثر تعقيداً الذي شغل الفلاسفة منذ العصور القديمة، وما زال يشغل الإنسان في كل مراحل حياته. "اعرف نفسك" هي العبارة المنقوشة على مدخل أهم المعابد في اليونان القديمة، وهو معبد دلفي الذي كان يقصده حتى الملوك ليأخذوا نصائح لحياتهم من سيدة سكنت فيه. لقد استعاد سقراط هذه العبارة لتتخطى الحضارة اليونانية القديمة وتشغل كل إنسان في كل زمان وكل مكان. إن مسألة الهوية التي احتلت مكانة أساسية في الميتافيزيقا والفلسفة القديمة، وأثارت جدالات كثيرة بين الفلاسفة وما زالت، إشكالية فلسفية مطروحة حتى اليوم، تخطت هذا الإطار لتطاول ميادين أخرى وتطاول العلوم الأخرى كعلم النفس، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وحتى علوم الطبيعة وعلوم الحياة والطب وغيرها من العلوم المعاصرة.
مفهوم مركّب
وانطلاقاً من شمولية مفهوم "الهوية" وإدراك أنه مفهوم مركب على الرغم من دلالته على وحدة الذات في ظل كل التغيرات، قام بعض الباحثين في مجالات مختلفة، منهم فلاسفة وعلماء متخصصون في علوم الطبيعة والحياة ومحللون نفسيون وعاملون في مجال العلوم الاجتماعية، بإصدار "معجم موسوعي" حول مسألة الهوية، بإشراف جان غايون (1949-2018) الفيلسوف المتخصص بالبيولوجيا وتاريخ العلوم والإبستمولوجيا، الذي كرس الأيام الأخيرة من حياته ليتمم مشروع هذا المعجم الذي يجمع أبحاثاً متعددة الاختصاصات، ويبين أن مفهوم "الهوية" حاضر في كل المجالات على الرغم من تعدد معانيه وأساليب استخدامه. يتمتع هذا المفهوم بديناميكية كبيرة بحسب استخدامه السياسي أو الاجتماعي أو الديني أو الإثني. وإذا نظرنا إلى هذا المفهوم من الناحية الفلسفية، نجد أنفسنا أمام مسألة الفرد والجوهر والعينية، أي ما يبقى ثابتاً على الرغم من كل التغيرات، وإذا تناولناه من ناحية علم النفس والتحليل النفسي، نعود إلى ما يكون هوية الفرد انطلاقاً من اللاوعي والجهاز النفسي كما صوره فرويد، هذا الجهاز يتكون من مستويات ثلاثة هي الهو والأنا والأنا الأعلى.
وتكون شخصية الذات حصيلة التفاعل والصراع بين هذه الدرجات الثلاث. أما من جهة البيولوجيا فنتحدث عن الهندسة الجينية والتقدم في ميدان الجينات ودورها في تحديد هوية الفرد. ومن ناحية الطب، بينت الدراسات والأبحاث أن تلفاً في الدماغ يؤثر في شخصية الإنسان وفي تحديد هويته. على سبيل المثال، عام 1848 أصيب فينياس غاج رئيس العمال في بناء خطوط السكك الحديدية في الفيرمون في رأسه. استعاد غاج وظائفه الحركية بشكل شبه تام، ولكن تبين أنه، وبحسب طبيب الأمراض العصبية أنطونيو داماسيو، فقد "التوازن بين قدراته الفكرية وغرائزه الحيوانية" فبدأ مزاجه يتغير وأخذ يتفوه بالشتائم، ولم يعد يحترم أصدقاءه كالسابق، وبحسب قول من يعرفونه، "غاج لم يعد غاج". ويستنتج أنطونيو داماسيو في كتابه "خطأ ديكارت" الصادر عام 1994 أن "حالة غاج تدل على أن شيئاً في الدماغ متصل بطريقة محددة بسمات خاصة بالإنسان، منها: القدرة على توقع المستقبل ووضع خطط عمل وفقاً لمحيط اجتماعي مركب، والشعور بالمسؤولية تجاه ذاته عينها وتجاه الآخرين، وإمكانية تنظيم بقائه طبقاً لإرادته الحرة". ويضعنا علم الاجتماع أمام مسألة الآخر المختلف والغريب.
معجم موسوعي
وتتجلى مسألة الهوية في مجال الأدب من خلال السيرة الذاتية، وتاريخياً من خلال الهوية السردية التي تطرقت إليها الفيلسوفة حنة آرندت (1906-1975) كما الفيلسوف بول ريكور (1913-2005). يعتبر ريكور أن الهوية السردية هي التي تحدد إنية ipséité الذات الفاعلة التي تصنع حياتها وهي مسؤولة عما تقوله وتفعله، ولكن هذه الهوية السردية لا تقتصر على الذات وحدها بما هي فرد، بل تنطبق أيضاً على الجماعات في مختلف أشكالها وتجلياتها: السياسية والدينية والعرقية وسواها.
تكمن أهمية هذا المعجم الموسوعي في أنه يجمع بين مختلف الميادين، بين ميادين قد تبدو غريبة بعضها عن بعض، ولا علاقة لها بعضها ببعض، ويشكل خطاباً متعدداً ومتقاطع الأصوات والاختصاصات حول الهوية التي لا يمكن أن نتناولها بطريقة مبسطة تحد من أهميتها ومن دلالاتها ومن مكوناتها الشخصية والتاريخية والعلمية والاجتماعية، وتجعل الهوية جامدة كما اعتدنا على تصورها في حين أنها تتمتع بحركة ودينامية خاصة، فردية وجماعية في آن واحد.
نلاحظ انطلاقاً مما تقدم أن موضوع الهوية يبقى معاصراً ويطرح تساؤلات عدة إلى جانب السؤال الأول والبديهي "من أنا؟". فنحن نتساءل اليوم عن مكونات الهوية -بعد أن كانت هذه محصورة في العصور الوسطى، على سبيل المثال، بالدور الذي يلعبه الإنسان في المجتمع- وعن كيفية بنائها، وعن مدى حرية الإنسان ومسؤوليته في بناء هويته، وعن دور العوامل الخارجية وتعدد الحضارات في بناء هوية الفرد والجماعة. وقد يكون السؤال الأهم اليوم في ظل مختلف الأحداث التي تحصل باسم الهوية، هو معرفة ما إذا كانت هذه الأخيرة مصدر لقاء بين البشر أو مصدر حروب وصراعات ورفض للآخر المختلف، أي إذا كانت الهويات بناءة في قلب المجتمع أو "قاتلة" بحسب تعبير أمين معلوف الكاتب اللبناني - الفرنسي، العضو في الأكاديمية الفرنسية منذ عام 2011.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد لاقى كتاب أمين معلوف "الهويات القاتلة" عند صدوره عام 1998 استقبالاً حاراً لدى قراء من مختلف الثقافات، وتمت ترجمته إلى ما لا يقل عن ست عشرة لغة من ضمنها العربية. أراد أمين معلوف من خلال هذه المحاولة أن يهدم فكرة اختزال الهوية بانتماء واحد، وأن يستبعد كل تعصب وتطرف ديني، وذلك في سبيل أن ينتمي الإنسان إلى الإنسانية وحدها. ويتم بالتالي بناء تراث يجمع الإنسانية بكليتها ويولد لدى كل إنسان "الشعور بالانتماء إلى المغامرة الإنسانية"، بحسب تعبيره.
الهوية بين الأنا والنحن
من هنا، يمكننا القول إن الأنا تبقى فارغة من دون الإنسان الآخر، من دون الأنت. فعلى سؤال "من أنا؟" أن يلتقي سؤال "من أنت؟". من دون هذا السؤال تقع الذات في الأنانية والفردانية والنرجسية التي يمكن أن تقتل الأنا وتهدد الآخر، هذا الآخر الذي يضع الذات أمام ذاتها ويحثها على التساؤل حول ذاتها وحول أفعالها. أليس "الجحيم هو الآخرين" على حد تعبير جان-بول سارتر في مسرحية "لا مخرج" التي كتبها حول الوجود عام 1944؟ أي إن نظرة الآخر هي التي تجعلني أدرك صفات متعلقة بذاتي وأنتبه إليها. لكي ننقذ المجتمع من خطورة الفردانية من الضروري ألا نبحث فقط عما يميزنا عن الآخر ولكن أيضاً عما يجمعنا به. يجب أن نفكر في الهوية كظاهرة علائقية، وذلك لأنها بجوهرها إنسانية والإنسان بطبيعته كائن علائقي لا يحقق ذاته من دون الآخر، من دون الـ"نحن" التي تحافظ على هوية ووجود الأنا والأنت والهو. وهذا ما يحملنا على التعاطف مع الآخر والتعاضد معه، ويقودنا تحديداً إلى التسامح الذي يقبل باختلاف الآخر ويلغي كل فوقية وهرمية.
استقبال الآخر
وتكمن الهوية في المسؤولية، هذه "المسؤولية -من أجل- الآخر" التي يتحدث عنها إيمانويل لفيناس. فالأنا هي قبل كل شيء مسؤولة. يقول لفيناس، "كلمة أنا تعني هأنذا"، أي إن الأنا حضور من أجل الإنسان الآخر واستقبال لوجه الآخر الذي يأمرني قبل كل شيء بعدم قتله أي بعدم تشييئه، وعدم النظر إليه كموضوع مثل سائر موضوعات هذا العالم، لا هوية له، بل كذات تتمتع بهوية خاصة وتحمل في ذاتها في آن واحد، البشرية جمعاء. حينئذ فقط تكون الهويات بناءة للفرد وللجماعة، وتلغي كل تعصب وكره للآخر الغريب والمختلف. فعندما تكون الإنسانية هي الهوية التي تشمل كل الهويات يتبدد كل خطر على الذات وعلى الآخر وعلى المجتمع والحضارة، ولا تعود الهوية عبئاً بل مشروع مستمر لإثبات وجودنا في قلب عالم، يلعب دوراً رئيساً في بناء هوية الشخص. فكل هوية هي في وقت واحد موضوعية وذاتية. إنها موضوعية بما أنها تحدد انطلاقاً من مقاييس اجتماعية ودينية وعرقية وسياسية ومؤسساتية، وذاتية بما هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإدراكات الشخص ومشاعره واختباراته الداخلية الفريدة التي لا يمكن أن تأتيه من الخارج، وهي تكون وحدته واستمراريته في ظل عالم متقطع.
وأخيراً، وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يقال عن الهوية، فهي تبقى في عمقها سراً ولغزاً إذ تحمل الذات فوق كل موضوع قابل للتقسيم والتجزيء والتحديد.