عادت الميليشيات المسلحة في ليبيا وصراعاتها الدامية على السلطة والنفوذ والثروة إلى دائرة الضوء، منذ بداية العام الحالي، بعد عامين من التواري عن الأنظار، في انتظار وجهة الأحداث السياسية التي ارتبط بها مصيرها، مؤثرة ومتأثرة، منذ سقوط نظام معمر القذافي في عام 2011.
تعتبر معضلة التشكيلات المسلحة التي لا تعد خارجة عن سلطة الدولة فقط بل ومهيمنة عليها، واحدة من أهم الأسباب التي أسهمت في تشكل الأزمة الليبية منذ بدايتها، وعطلت كل الجهود المحلية والدولية لحلها، خصوصاً مع ارتباطها مع كثير من أطراف الصراع السياسي، التي كثيراً ما استخدمتها للبقاء في السلطة أو للوصول إليها.
تشكل في زمن الفوضى
بدأت الميليشيات الليبية المسلحة في الظهور والتكون في مرحلة الثورة على نظام الرئيس الراحل معمر القذافي في شباط (فبراير) 2011، عندما اضطر المتظاهرون ضد النظام في مدن ليبية مختلفة إلى حمل السلاح لمواجهة قمعه، وبدأت تظهر ما عرفت بـ"كتائب الثوار" في مدن كثيرة، أهمها بنغازي ومصراتة والزنتان، في الوقت الذي كانت فيه طرابلس في قبضة القذافي.
كانت الكتائب المسلحة في تلك الفترة تتشكل بشكل سريع وعشوائي، ويتولى المجلس الانتقالي في بنغازي، الذي شكل الجسم السياسي لقيادة "الثوار"، دعم هذه الكتائب بالسلاح وتدريبها على يد ضباط منشقين من الجيش أو خبراء عسكريين جاءوا من الخارج لهذا الغرض.
يقول الصحافي الليبي، أحمد سالم، الذي عاصر تلك الفترة من خلال تغطيته لأحداث "الثورة"، "تشكلت الكتائب المسلحة لمواجهة نظام القذافي في سياق الثورة بالعشرات، وكان كل من لديه الرغبة في حمل السلاح وتشكيل كتيبة مسلحة ينال الدعم من المجلس الانتقالي، وكانت كل مجموعة صغيرة مشكلة من مدنيين زج بها إلى خطوط القتال وبعد تدريب قصير يكلف لها قائد وتسمى كتيبة".
وأضاف، "هذه الفوضى التي شكلت بها الكتائب المسلحة في بنغازي ومصراتة والزنتان ظهرت نتائجها، بعد سقوط نظام القذافي وتدمير قوات الناتو للجيش وبنيته التحتية تماماً، حيث قفزت هذه الكتائب لملء هذا الفراغ، ومنحت تصريحات من الدولة الجديدة، أعطتها الشرعية، والأخطر أنها ألزمت نفسها من خلالها بتقديم الدعم المالي لكل التشكيلات المسلحة التي كانت تتوالد كالفطر، حتى بلغت أعدادها الآلاف من التشكيلات المسلحة متنوعة التوجهات، على مستوى ليبيا".
ظهور كتائب العاصمة
ويشير سالم إلى أن "الخطوة التي اتخذها المجلس الانتقالي من دون دراسة بتقديم الدعم المالي للكتائب المسلحة قبل دمجها في الجيش، وصرف ما عرف بمكافآت الثوار، تسبب في تشكل الكتائب النفعية التي تسعى لحصد قسط من هذه الغنيمة، حتى قفزت أعداد المقاتلين من بضعة آلاف إلى عشرات الآلاف في غضون أشهر قليلة".
ويخلص إلى أن "هذه الفترة التي اتسمت بالفوضى العارمة شهدت ظهور كتائب العاصمة التي كانت أعداد منتسبيها ضخمة جداً، رغم أن طرابلس كانت تحت سيطرة النظام، وعدد الذين انتفضوا ضده فيها بداية الثورة لا يتجاوز المئات الذين تم قمع تمردهم بسرعة وسهولة".
شهادة خطيرة
السؤال الكبير الذي ما زال يطرح حتى اليوم ويثير نقاشات حادة بين أنصار نظرية المؤامرة والرافضين لها، لماذا لم تضع السلطات الليبية الناشئة والمجتمع الدولي الذي كان يدعمها خطة لجمع السلاح وبناء الجيش وتسريح المقاتلين من المدنيين الذين حملوا السلاح لمواجهة النظام بعد سقوطه، وهل كان غض الطرف عن هذا الملف الحساس وقتها مقصوداً لترك البلاد بعد ذلك فريسة للفوضى؟
في هذا السياق، أدلى رئيس أول حكومة ليبية بعد الثورة، الراحل محمود جبريل، بتصريح خطير تسبب بجدل واسع حينما قال في مقابلة تلفزيونية عام 2018، إنه "في سبتمبر (أيلول) 2011 كان هناك قرار من المكتب التنفيذي الذي رأسته في تلك الفترة بحل الميليشيات العسكرية، وكان هناك آنذاك 18 ميليشيا فقط في طرابلس، وللأسف ألغي هذا القرار من المجلس الانتقالي بسبب ضغط خارجي لا أعلم مصدره، ولكن المجلس يعلم هذا المصدر جيداً".
وتابع، "كلفت شخصيات أخرى لرئاسة الحكومة، ثم بعد ذلك رفضت أو فسخت مذكرة التفاهم التي وقعتها مع الأمم المتحدة والبنك الدولي للإبقاء على تجميد الأموال الليبية وعدم التصرف فيها، فتم الإفراج عن أكثر من 100 مليار دينار ليبي، (77 مليار دولار بحسب السعر الرسمي وقتها)، وانتشر تشكيل الميليشيات انتشار النار في الهشيم، ما دمر الاقتصاد الليبي، وحوله إلى اقتصاد ميليشياوي واقتصاد إرهاب بامتياز يقوم على تهريب البشر والسلاح وتهريب المخدرات وغسيل الأموال".
وأشار إلى أن هناك عاملاً غير مرئي لكثيرين أسهم بتمدد انتشار الميليشيات وسطوتها، وهو ارتباط بعضها بمخابرات خارجية في فترة لاحقة، "ارتبطت هذه الميليشيات ببعض دوائر المخابرات الأجنبية، فأصبح هناك ارتباط حقيقي بين من يهرب البشر ويهرب الوقود والبنزين مثلاً من الزاوية ومن صبراتة وأماكن أخرى إلى مالطا وإيطاليا، لأن لهم شركاء على الأرض الأوروبية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تشكل الكتائب الدينية
الخطر الأكبر الذي واجهته ليبيا والمنطقة المحيطة بها برمتها، في فترة تشكيل الميليشيات المسلحة، كان ظهور الكتائب التي ينتمي عناصرها لتنظيمات دينية متطرفة مثل "القاعدة" وفي فترة لاحقة "داعش"، والتي سلطت تقارير دولية الضوء عليها حتى أثناء الثورة وقبل سقوط النظام.
وسبب هذه المخاوف كان انتشار الفكر المتطرف لتنظيم "القاعدة" في ليبيا حتى قبل الانتفاضة الشعبية، وخصوصاً في مدينة درنة، التي كانت تحوي العشرات من العناصر الخطيرة التابعة لتنظيم "الجماعة الليبية المقاتلة"، التي حاربت النظام ثم تصالحت معه مضطرة بعد مراجعات إجبارية، وبعض هذه العناصر سبق لها القتال مع تنظيم القاعدة في أفغانستان في أوج قوته وانتشاره.
يقول جبريل، عن تسلل العناصر المتطرفة لصفوف "الثوار" في تلك الفترة، "قضية وجود عناصر متطرفة داخل الجبهات أو داخل الثوار، هذا الأمر لم يبدأ في الظهور إلا تقريباً في أواخر أبريل (نيسان) وبداية مايو (أيار) 2011، وكان هناك جلسة مع، مصطفى عبدالجليل، الذي كان يرأس المجلس الوطني الانتقالي لأنني كنت مع زملائي نتنقل في عواصم دولية كثيرة وكنا أحياناً نسأل عن هذا الأمر، فننفي وجود هذه العناصر، لماذا؟ لأن مصدرنا كان مصطفى عبد الجليل، كان ينفي بشدة وجود هذه العناصر، وأن هذه كانت دعاية من إعلام معمر القذافي، إلى أن كانت جلسة داخل المجلس الانتقالي تقريباً في بداية مايو وذكر هذا الأمر، وقيادتهم كانت حوالى 18 عنصراً وأنا أعرفهم بالاسم، لأنني كنت وزير العدل".
بداية الصدام
بعد عام واحد من سقوط القذافي عمت الفوضى في ليبيا، وبدأت الميليشيات التي قاتلت متحدة ضد نظامه، تقاتل بعضها منذ رحيله، وكثرت أعدادها بشكل كبير حيث قدرت أعداد عناصر الميليشيات بعد عامين من الثورة بأكثر من 20 ألف عنصر في طرابلس و17 ألف عنصر في مصراتة و12 ألف في بنغازي.
وقعت أكثر وأخطر الصدامات في تلك الفترة في طرابلس، التي تحولت مركزاً للصراع على السلطة والثروة، خصوصاً بعد تكون تحالف "فجر ليبيا" من كتائب مدينة مصراتة ومقاتلين من معاقل أخرى لثورة 17 فبراير، تضم أيضاً قوى إسلامية، وتحالف يخضع لقيادة ميليشيات الزنتان، إضافة إلى الفيدراليين في الشرق، وفلول الجيش القديم والنخب القبلية، بما في ذلك الجماعات المقربة من النظام السابق.
قويت شوكة الميليشيات لدرجة أن دور الحكومة المركزية بات لا يلحظ في كل أرجاء ليبيا، وعلى الرغم من انتخاب أول برلمان في ليبيا في يوليو (تموز) 2012، فإنه لم ينل اعتراف جميع الفصائل، إذ فقد الإسلاميون أغلبية أصوات الناخبين وأعلنت تلك الفصائل عن مقاطعاتها للبرلمان غير الشرعي في نظرها.
وشهدت تلك الفترة أحداث خطيرة بينت سطوة الميليشيات على القرار السياسي للدولة بفرض قانون "العزل السياسي" بقوة السلاح وتحت التهديد لأعضاء البرلمان، حيث وضعت ميليشيات من مصراتة وبنغازي ومدن أخرى 200 تابوت للموتى أمام مبنى المجلس أثناء التصويت على القرار، لترهيب أعضائه وإجبارهم على الموافقة على القانون وهو ما حدث.
كما تم في نفس الفترة، اختطاف رئيس الوزراء الأسبق علي زيدان في أواخر عام 2013 من قبل مسلحي غرفة عمليات ثوار ليبيا ووحدة مكافحة الجرائم والغريب أنهما كانتا تابعتين لوزارة الداخلية الليبية، في تلك الفترة.
بعد فرض الميليشيات المسلحة سطوتها على الدولة وتغولها على دور مؤسساتها والتحكم بكل مفاصلها جملة وتفصيلاً، سيطرت على مقدراتها وتحول قادتها إلى أثرياء في فترات وجيزة، وتفرغت بعد ذلك لبعضها البعض واندلع صراعها على النفوذ الذي ما زال مستمراً حتى اليوم.
وكان أشهر الصدامات التي وقعت بينها في السنوات اللاحقة حرب "المطار" كما اشتهرت في طرابلس عام 2013 والتي أدت إلى خروج قوات الزنتان من طرابلس بشكل نهائي، وأحرق بسببها أكبر مطارات البلاد الذي ما زال مدمراً حتى يومنا هذا.
السيطرة على النفط
في شرق ليبيا، كان هناك صراع محتدم بين ثلاث فصائل، الكتائب الموالية للإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة، الميليشيات الفيدرالية وبقايا الجيش النظامي، خصوصاً كتيبة الصاعقة الجسم العسكري النظامي الوحيد الذي صمد بعد "الثورة"، بسبب مناصرته لها في بنغازي التي اندلعت منها.
في عام 2013 نجحت الكتائب الفيدرالية، بقيادة إبراهيم الجضران، في السيطرة على موانئ النفط الأكبر وسط البلاد، مما أدى إلى توقف عمليات التصدير لسنوات، في أكبر ضربة تلقاها الاقتصاد الليبي خلال العقد الأخير، وما زال يعاني من أثارها حتى يومنا هذا.
حولت هذه الخطوة النفط إلى الورقة الأولى في الصراع منذ ذلك الحين، وكان شرارة الصدامات بين الشرق والغرب التي احتدمت في السنوات التالية.
حرب طرابلس الكبرى
في عام 2014 شكل ظهور رئيس الأركان الليبي السابق في زمن القذافي، خليفة حفتر، الحدث الأبرز الذي غير وجهة الأحداث بعد ذلك، حيث عينه البرلمان الجديد، الذي انتخب في منتصف ذلك العام، قائداً للجيش وفوضه بالحرب على الميليشيات المسلحة والعناصر المتطرفة في بنغازي ودرنة، التي امتدت لسنوات وانتهت بسيطرة قواته عليهما في عام 2018.
بعد بنغازي ودرنة، وضع حفتر عينه على طرابلس، مقر الإدارة للمؤسسات السياسية والاقتصادية، وبالفعل توجه إليها في أبريل 2019 وأخفق في دخولها بعد معارك امتدت لعام كامل، كان لها الدور البارز في فتح باب التدخلات العسكرية الأجنبية في ليبيا، التي حجمت من تأثير الميليشيات من دون أن تنهيه بشكل كامل.
هذه الحرب التي كانت أكبر الحروب التي شهدتها طرابلس منذ بداية الأزمة، وحدت كل الميليشيات المسلحة وقيادتها لمواجهة حفتر لأول مرة منذ سنوات، وعززت من شرعيتها بعد أن أصبحت تتبع رسمياً لوزارة الدفاع في العاصمة، التي كافأتها بالأموال وباتت تصرف شهرياً مرتبات لعناصرها.
هدوء يسبق العاصفة
بعد توقيع وقف إطلاق النار في طرابلس عام 2020، شهدت ليبيا أكثر فترات الهدوء الأمني في السنوات الأخيرة، بعد إعلان موعد للانتخابات في ديسمبر (كانون الأول) 2021، لكن الإخفاق في تنفيذ الاستحقاق الانتخابي بموعده أعاد الميليشيات المسلحة إلى المشهد، في غرب البلاد، بشكل أكبر من ذي قبل.
ومع عودة الانقسام الحكومي بتشكيل البرلمان لحكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، وإقالة سابقتها التي شكلت بموجب الاتفاق السياسي في جنيف برئاسة عبدالحميد الدبيبة، الذي رفض تسليم السلطة للحكومة الجديدة، استعادت الميليشيات المسلحة نفوذها وأهميتها، بعد لجوء فتحي باشاغا المعين من قبل البرلمان والدبيبة إليها كل لمواجهة خصمه.
لكن هذه التحولات الجديدة فرضت تغييراً لافتاً في خريطة التحالفات بين هذه التشكيلات المسلحة التي كانت قبل عامين في حلف واحد، لكنها منذ منتصف العام الحالي تواجه بعضها البعض في سياق الصراع الجديد الذي حصدت منه امتيازات جديدة أمنية ومادية، عززت من سطوتها وخطورتها على مستقبل البلاد، التي تعيش تحت تهديدها ورحمة صراعاتها التي لا تنتهي حتى تبدأ من جديد.