انسحب وفد مصر من اجتماع وزراء الخارجية العرب احتجاجاً على تولي نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية والتعاون الدولي في حكومة عبدالحميد الدبيبة المنتهية ولايتها رئاسة الدورة الجديدة للمجلس (158) خلفاً للبنان.
والسؤال ماذا بعد؟ وهل تتغير معادلة الدعم المصري لمسار ما يجري سياسياً في ظل مقاربات جديدة أم أن الأمر مرتبط بتأكيد الوفد المصري ثوابت تحرك القاهرة التي تخضع لتقييمات كبيرة ومخطط لها جيداً؟ وماذا عن الحضور المصري الكبير في تفاصيل الملف الليبي؟ وهل سيمثل هذا الإجراء في التوقيت الراهن رسالة مهمة عربياً وإقليمياً مع تأكيد مسارات واتجاهات التحرك المصري في الملف الليبي الذي لا يزال متجاذباً بين حكومتين في ظل تأكيدات مصرية بأن مغادرة مجلس الجامعة "حق سيادي" لكل دولة، ولها الحق أيضاً أن تقدر موقفها وفقاً لرؤيتها السياسية والقانونية ومدى حاجتها لهذه الخطوة من عدمه؟
لوحظ قبل انسحاب الوفد المصري أن حكومة باشاغا دعت الجامعة العربية إلى عدم تولي حكومة الدبيبة رئاسة دورة مجلس الجامعة على المستوى الوزاري، معتبرة في بيان أن الجامعة "تخالف بهذا الإجراء دورها في التضامن الكامل مع ليبيا في أزمتها"، وهو ما وضع علامات استفهام حول حدود التحرك الراهن للجامعة في تفاصيل الملف الليبي وأن دورها يظل هامشياً، وليس فيه خطوات حقيقية يمكن الارتكان إليها بعد أن تحول الملف الليبي بكل تعقيداته إلى شأن دولي لا عربي أو إقليمي فقط، وفي ظل تنازع حكومتين في ليبيا على السلطة وهما "حكومة الوحدة" التي تسيطر على طرابلس وتلقى اعترافاً دولياً في عواصم مختلفة، والثانية "حكومة الاستقرار" برئاسة فتحي باشاغا التي تحظى بدعم برلمان البلاد المنتخب وتجادل بأن حكومة الدبيبة منتهية الولاية.
موقف محدد
استندت الخارجية المصرية إلى أن انسحابها من جلسة الجامعة العربية جاء بعد تولي وزيرة خارجية ليبيا الرئاسة، وأن موقفها من حكومة عبدالحميد الدبيبة في ليبيا هي انتهاء ولايتها الشرعية، وأن مصر تحترم الشعب الليبي واختياراته، وأن دعم مصر هو الاستمرار في تبني الحلول السياسية.
وأوردت الخارجية تحفظات على الاعتراف بحكومة عبدالحميد الدبيبة المنتهية شرعيتها، وقد طالبت القاهرة من أطراف دولية بضرورة الاعتراف بالحكومة التي صدق عليها مجلس النواب في إشارة إلى حكومة فتحي باشاغا.
وأيدت الخارجية المصرية اختيار مجلس النواب باشاغا رئيساً للحكومة معتبرة أن المجلس هو الجهة التشريعية المنتخبة والمعبرة عن الشعب الليبي والمنوط به سن القوانين ومنح الشرعية للسلطة التنفيذية، وبالتالي فإن رسالة القاهرة محددة في هذا السياق والموقف المصري لم يكن مفاجئاً بالفعل وسبقته التزامات ومواقف مسبقة، وتعلم الأمانة العامة والأمين العام أحمد أبو الغيط تفاصيل ما جرى ويجري، وأن موقف مصر محدد ومباشر وليس فيه نصف حل وشبه خيار.
موقف الجامعة
التزمت الجامعة العربية الصمت ولم تعقب بالفعل على الموقف المصري، فقد رفض الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي التعقيب على انسحاب وفد مصر الرسمي، وقال إنه لا يستطيع التعليق على تحرك دولة قامت به خلال الاجتماع لأنه أمر يتعارض مع حيادية الأمانة العامة، وهو ما ردت عليه وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية نجلاء المنقوش بأن انسحاب الوفد المصري من جلسة الجامعة العربية "مخالف لميثاق جامعة الدول العربية وقرارات مجلس الأمن".
وقالت المنقوش إن حضورها "مدعوم دولياً" عبر اتفاقات عدة بينها "اتفاق باريس" و"اتفاق الصخيرات" وغيرهما، وأضافت أن كل تلك المواثيق تؤكد أن حكومة الوحدة الوطنية هي "الحكومة الانتقالية الأخيرة وصولاً إلى الانتخابات".
ومعلوم جيداً أن مصر كانت دعمت من قبل المشير خليفة حفتر ورحبت بقرارات البرلمان الليبي في فبراير (شباط) وعلى رأسها تولي باشاغا الحكومة، كما أكدت رسمياً أن مجلس النواب الليبي هو الجهة التشريعية المنتخبة والمعبرة عن الشعب الليبي والمنوط به سن القوانين ومنح الشرعية للسلطة التنفيذية وممارسة دوره الرقابي عليها.
وعبر رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا خالد المشري عن استغرابه من تصرف وزير خارجية مصر خلال جلسة مجلس الجامعة العربية، ورأى أن ما حدث "مخالف للأعراف الدبلوماسية"، والمعنى أن هناك تبايناً كبيراً سيكون مطروحاً خلال الفترة المقبلة وقد يؤثر في النهج المصري في التعامل، بخاصة أن القاهرة لديها جميع خيوط الاتصالات مع كل الفعاليات الليبية ولم تقاطع أي طرف، بل انفتحت بالفعل على فواعل المعادلة الليبية المعقدة.
ماذا بعد؟
ورحبت القاهرة بتعيين عبدالله باتيلي مبعوثاً أممياً جديداً في ليبيا، مؤكدة دعمها لجهود الأمم المتحدة للتوصل إلى تسوية سلمية للأزمة الليبية وصولاً إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وخروج جميع المرتزقة من ليبيا، كما رحبت دول أخرى عدة بتعيين مبعوث جديد في ليبيا على غرار قطر والجزائر والمغرب، واللافت في هذا التطور الجديد داخلياً أن الدبيبة لم يعترض على تعيين باتيلي لاعتبارات تتعلق بشخصه، بل لأن الدبيبة كان يرغب في تعيين وزير الخارجية الجزائري السابق صبري بوقادوم في منصب المبعوث الأممي، بخاصة في ظل الدعم الجزائري للدبيبة مع التقدير بوجود تخوفات راهنة لدى الدبيبة من احتمال أن يضغط باتيلي على مجلسي النواب والدولة من أجل التوصل إلى توافقات قد تفضي إلى تشكيل حكومة جديدة بديلة عن حكومتي باشاغا والدبيبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواضح أن رهانات القاهرة تمضي في سياق فتحي باشاغا باعتباره المنافس الرئيس في غرب ليبيا وهو من مصراته، وتعد الأخيرة أحد أبرز مدن الغرب الليبي حيث تمتلك أسلحة كثيرة، كما أنها على استعداد للتعاون مع الجميع لتحقيق مصالحها، ويمكن أن يصبح فتحي باشاغا منافساً قوياً لمرشحي الشرق بخاصة حال استمرار التشرذم بينهم، ولعل هذا ما تسعى إليه تركيا لتفتيت الشرق الليبي، وربما هذا ما يفسر طرح اسم سيف القذافي من حين لآخر.
وتعد أبرز نقاط ضعف فتحي باشاغا محاولات أسرة الدبيبة الاستمرار في الحكم من خلال تمديد الحكومة الموقتة، ويعد شقيق رئيس الحكومة المؤقتة علي الدبيبة أحد أبرز الفاعلين في المشهد الليبي وهو مقيم في تركيا، ويقدم الدعم المالي للميليشيات العسكرية لتحقيق مصالحه، لكن يبقى احتمال قيام تنسيق بين باشاغا والشرق، بخاصة حفتر، هو الأكثر ترجيحاً للوصول إلى صفقة مقبولة للجميع، كما لا يمثل عقيلة صالح وزناً كبيراً في شرق ليبيا باستثناء داخل قبيلة "العبيدات"، وفي المقابل يمتلك حفتر دعماً كبيراً بين قبائل الشرق.
الخلاصة الأخيرة
في كل الأحوال هناك حاجة ملحة ومهمة لتوضيح ودرس قانونية متكاملة من جانب الأمانة العامة للجامعة العربية توضح مدى صلاحية الرئاسة الحالية للدورة الـ (158)لوزراء الخارجية العرب وعرض الدراسة على المندوبين الدائمين، ويتم من خلالها تحديد خطوات المرحلة المقبلة، بخاصة مع احتمالات انعقاد القمة العربية في الجزائر خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو ما سيدفع بتكرار الأزمة الراهنة وقد ينتقل إلى المحافل الدولية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي تمثيل الوفد الليبي، على الرغم من تأكيد ليبيا أنه لا يوجد خلاف على المستوى الدولي وأن الخلاف في النطاق العربي فقط.
تنتظر مصر موقف الجامعة العربية من التعامل مع الرئاسة الليبية، بخاصة أن الفترة المقبلة ستشهد استحقاقات سياسية مهمة ومنها الاجتماع الوزاري العربي الأوروبي في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وغيرها من الاستحقاقات العربية تباعاً التي تحتاج إلى حسم ولحين البت في موقف ليبيا، ولا يمكن استبعاد تجدد الاشتباكات مرة أخرى خلال الفترة المقبلة، بخاصة مع استمرار الحشود العسكرية، وربما يكون هذا السيناريو هو الأقرب حال عدم تدخل دولي حاسم لتجنب التصعيد مرة أخرى والتوصل إلى تسوية للأزمة.