فقدت الشابة روز أملها بالبقاء في مدينة تركية احتضنتها في أولى خطواتها خارج وطنها عقب نزوحها من ريف دمشق منذ أكثر من 10 سنوات، فثمة فيض من المحبة بقلبها وذاكرتها نحو المدينة مع أمنيات العيش وإكمال حياتها المهنية والاجتماعية على تلك الأرض، لكنها حزمت حقيبتها الصغيرة بعد أن حسمت أمرها مودعة بدموعها مدينة غازي عنتاب، لتشق رحلة محفوفة بالأخطار نحو لوكسمبورغ علها تجد فرصة هناك.
وبداية النهاية للبقاء حدثت حين سحبت الشرطة من الشابة السورية اللاجئة جواز سفرها مرات عدة تحت ذرائع مختلفة، وبعد مضايقات كثيرة من الشارع حول نشاطها الملاحظ في العمل الإغاثي والذي لم يسعفها، تقول "أوقفت دراسة الماجستير بعلم الاجتماع ودرست المرحلة الجامعية والدراسات العليا هنا وعلى نفقتي، لكن الواقع يزداد سوءاً والمضايقات لم تعد تحتمل وهي تطاول كل اللاجئين".
ورقة اللاجئين الناجحة
في هذه الأثناء تشهد كل المدن التركية رحلة نزوح جماعية تضم لاجئين معظمهم من فئة الشباب في أعقاب حديث يتردد بشكل لافت عن تقارب بين أنقرة ودمشق، وهنا بدأت الهواجس بقرب إعادة هؤلاء لبلدانهم، ولعل المخاوف سرت بشكل أكبر بين من يمتلكون مواقف سياسية مناهضة للسلطة في سوريا.
ويعتقد رجل أعمال سوري في تركيا طلب عدم الإفصاح عن هويته ولا يمتلك أي موقف سياسي مؤيد أو معارض للسلطة، أن "أنباء تسري عن ضغط من الشارع التركي لإعادة اللاجئين، وحزب العدالة والتنمية الحاكم يسعى إلى كسب أكبر قدر ممكن من المعارضين، وكما في الاقتصاد والمال فالمصلحة أولاً، والمناورة السياسية هي الاستدارة نحو دمشق، وأنقرة تمتلك عدداً ضخماً ليس من اللاجئين بل من المعارضين لدمشق، وأيضاً يمكن أن تفرط فيهم في مقابل نجاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال الانتخابات المقبلة".
وكان الرئيس التركي أعلن أثناء سفره بطائرته الخاصة للصحافيين في الـ 18 من أغسطس (آب) الماضي ضرورة التقارب مع دمشق، وقال إنه بحث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين سبل التواصل مع سوريا.
عدو اليوم صديق الغد
إزاء ذلك يحث النازحون ومعظمهم من الشباب وبعض العائلات خطاهم من تركيا، ويسلكون طرقاً إلى بلغاريا وصربيا، كما يتجهون بحراً بقوارب مطاطية يطلق عليها "قوارب الموت" سعياً منهم إلى حياة كريمة نحو أوروبا، مع أنها ليست أفضل حالاً اليوم مع مأزق إمدادات الطاقة التي تواجهها هذا الشتاء بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية منذ فبراير (شباط) الماضي، ورياح سبتمبر (أيلول) تذكر من قطع الأسلاك الشائكة على الحدود التركية بضرورة العجلة، فالشتاء يطرق الأبواب باكراً في القارة العجوز، وبالتالي فليس هناك متسع من الوقت لاستراحة طويلة بين أشجار السرو والبلوط الخضراء في غابات شاسعة نحو صربيا.
ويقول الشاب مازن وهو يخطو أولى خطواته في رحلة اللجوء الثانية من تركيا إلى أوروبا وكان يعمل ويدرس في إسطنبول حتى طرده صاحب العمل، إن "التوقيت مناسب ولعل التأخر أسابيع إضافية سيجعلنا عرضة لمواجهة البرد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، يجزم رئيس رابطة اللاجئين السوريين في تركيا مضر الأسعد في حديثه إلى "اندبندنت عربية" بعدم وجود "أرقام دقيقة للهجرة الآخذة بالانتعاش من تركيا، فكلها تحدث تحت جنح الظلام وبطرق غير مشروعة وعبر أقنية عرابوها شبكات تهريب البشر، لكن الأمر يكاد يصبح موجة تُعد الثانية من نوعها منذ عام 2015". ويضيف، "لعل الضائقة الاقتصادية والتضخم الأعلى نسبة منذ 24 عاماً وبخاصة بعد كورونا وما نتج منه من أوضاع صعبة، إضافة إلى ما أظهره فريق من الشعب التركي من عنصرية، كلها أسباب دفعت الشبان نحو أصقاع العالم، لا سيما أن تركيا هي ممر للمهاجرين السوريين أساساً".
عنصرية مفرطة
وإزاء هذا الواقع تتسارع وتيرة الهجرة من تركيا باستغلال الرحلة البحرية بقوارب الصيد والانتقال من الشواطئ التركية إلى اليونانية والتي تعد بوابة لدول الاتحاد الأوروبي قبل أن يباغتهم الشتاء بأمواج البحر المتلاطمة، في وقت كشفت فيه وسائل إعلام يونانية عن وصول قرابة 4 آلاف لاجئ من الجنسية السورية وجنسيات دول آسيوية.
ويعزو رئيس الرابطة ما يحدث من تغير في الشارع التركي ونظرته تلك إلى "جملة تغيرات داخلية بدأت عقب أحداث عام 2016 بانقلاب العسكريين الفاشل في هذا العام ضد نظام الحكم التركي، فبعد هذا التاريخ وفي أعقاب الإغلاق بسبب جائحة كورونا مع ما رافقه من ظروف أمنية تتعلق بالإرهاب، باتت تشوب الشارع حال عنصرية مفرطة مع ارتفاع أصوات الأحزاب المعارضة من أجل ترحيل اللاجئين، حتى وصل الأمر إلى اعتداءات وقتل".
وعلى الرغم من حصول ما يناهز الـ 200 ألف سوري على الجنسية التركية وفق بيانات وزارة الداخلية التركية، يتوقع رئيس رابطة اللاجئين السوريين "تغير هذا الوضع بعد انتخابات يونيو (حزيران) 2023، ومنها النظرة السلبية التي سادت المجتمع التركي، ونتمنى تطبيق القرارات الدولية من أجل إعادة اللاجئين والتي تسهم بإنهاء المشكلات في سوريا".
التطبيع وعودة اللاجئين
ويحاول حزب التنمية والعدالة الحاكم أن يقتنص أصوات الشارع المعارض، لا سيما نداءات الأحزاب المعارضة بطرد السوريين وإعادتهم، حيث تستضيف تركيا 3.6 مليون سوري لاجئ، وبالتالي تسحب هذه الورقة لمصلحتها بحسب مراقبين، في وقت أعلن فيه رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كيلجدار أوغلو في أغسطس (آب) عام 2021 تغيير السياسة الخارجية لبلاده واستعداده فتح علاقات مباشرة مع دمشق التي يرى فيها ضماناً لعودة اللاجئين إلى أوطانهم.
ويسهم اللاجئون في الاقتصاد التركي أو الزراعة إضافة إلى كونهم ملزمين بدفع الضرائب وجميع الفواتير من خدمات ونقل وغيرها، علاوة عن وصول دعم إغاثي من المنظمات الدولية مما يسهم في دعم الاقتصاد التركي، بحسب قوله، ولا تتكبد الحكومة التركية أعباء استضافتهم.
انحراف البوصلة
وتعد ألمانيا والسويد أكثر دول الاتحاد الأوروبي طلباً للجوء إليها، ووفق بيانات رسمية أعلن عنها بداية عام 2022، فقد وصل عدد السوريين في السويد إلى أكثر من 189 ألف سوري حاصل على إقامة وجنسية، وبذلك أصبحت الجالية السورية الأكبر في البلاد وتمثل ما نسبته 1.7 في المئة من السكان.
وهكذا تحولت بوصلة السوريين ممن يقيمون في تركيا باتجاه أوروبا، ومنذ اندلاع الحرب عام 2011 وصلت مليارات الدولارات من قبل مستثمرين سوريين مع منشآتهم ومعاملهم الثقيلة، بحكم أن البلدين متجاوران، ولعل ذلك دفع إلى أن تكون سوريا البلد الأول في حجم الاستثمار الأجنبي في تركيا، وبالتالي ترسم السياسة وتجاذباتها مصير الوجود السوري.