هناك أرقام قياسية عديدة ضربتها النيوزيلندية جين كامبيون في مسارها المهني، وذلك منذ كانت أول سينمائية امرأة تفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان عن فيلمها "بيانو" في عام 1994، وصولاً إلى كونها في عام 2021 فازت بجائزة أفضل مخرجة في أوسكارات ذلك العام لتكون المرأة الأكبر سناً بذلك الفوز، وربما الوحيدة التي فازت بجائزة الإخراج من دون أن يفوز فيلمها "قوة الكلب" بجائزة أفضل فيلم، بيد أن الغرابة الأكبر في مسارها تبقى مرتبطة برسالة الاعتذار التي وجهتها قبل فترة إلى لاعبتي كرة المضرب الأسطورتين الآن الشقيقتين سيرينا وفينوس ويليامز وقد اعتبرتا كما فعل كثر قبل ذلك أنها وجهت إليهما انتقاداً "لا يغتفر". فكيف كان ذلك؟ ببساطة قالت كامبيون في تصريح، إنه عيب على البطلتين أنهما لم تنازلا في اللعبة حتى الآن سوى لاعبات من الإناث "أما أنا فإنني في أفلامي ومهنتي نازلت الذكور وانتصرت عليهم". كان من الواضح وكما قالت جين في اعتذارها لاحقاً، إنها كانت تمزح، لكنه كان في الحقيقة مزاحاً يخفي حقيقة واضحة: نعم في كل أفلامها حتى الآن حملت جين كامبيون قضية المرأة على كاهليها وناضلت من أجلها فهي التي تعتبر أنها مكلفة الدفاع عن المرأة في كل مكان وزمان وبالخصوص ضد الرجل أو على الأقل ضد نمط سائد من الرجال!
النقد حين "يتسرع"
ومع ذلك لم يخل الأمر بين الحين والآخر من انتقادات توجه إليها، حيناً بالمبالغة في ذلك الدفاع، وحيناً بالتخلي عنه. ولعل من أطرف ما حدث في هذا المجال أن بعض النقاد، لا سيما في الصحافة الأنغلوساكسونية عمدوا حين أعلنت عن قرب عرض فيلمها "نجم ساطع" مؤكدة أنه سيحتوي على سيرة للشاعر جون كيتس إلى القول إن "السينمائية النسوية الكبيرة قد عادت إلى الحظيرة أخيراً، وها هي تحقق فيلماً عن شاعر رجل بعد انتظار طويل". وكان ذلك في عام 2009 بعد أن كانت قد أبدعت أفلاماً جاءت كلها نسوية بما فيها البوليسي "عند القطع" (2003) الذي أعطت فيه ميغ رايان دوراً استثنائياً في مسار هذه الأخيرة. ويومها أغضب تسرع الصحافيين وبعض النقاد جين كامبيون، وذلك بكل بساطة لأن "نجم ساطع" لم يأت فيلماً عن جون كيتس بل عن حبيبته فاني براون.
نساء مخبولات
إذاً في الحقيقة، فإن جين كامبيون لم تتغير يومها ولم تعد إلى أي حظيرة. كل ما في الأمر أنها في ذلك الفيلم الذي بدا لافتاً حين عرض في "كان"، لم تتحدث عن الشاعر كيتس بمقدار ما تحدثت عن حبيبته فاني براون، بل إن دور كيتس في الفيلم، بدا دوراً ثانوياً مقارنة بدور براون التي جسدتها واحدة من ألمع النجمات الجادات في السينما الأنغلو– ساكسونية المعاصرة، آبي كورنيش، بل إن فاني براون كانت من الحضور في الفيلم إلى درجة أن كثراً تعاملوا معه على أنه "سيرة لامرأة مجهولة"، خصوصاً أن تلك المرأة في الفيلم لن تختلف كثيراً، في سماتها الروحية والعامة عن بقية النساء اللاتي اعتدن أن يملأن أفلام جين كامبيون وحكاياتها، وفي هذا السياق، لا بد أن نعود سنوات إلى الوراء لنذكر كيف أنه لم يكن غريباً أن تعنون صحيفتان واحدة إنجليزية والأخرى أميركية مقالتين نشرتا في وقت واحد من العام المبكر 1993 وتحدثا تحديداً عن فيلم "البيانو" لكامبيون بعبارة "نساء كامبيون المخبولات"... ومع هذا، حتى ذلك الحين، لم يكن بعد قد تكاثرت نساء أفلام جين كامبيون، ففيلم "البيانو" كان فقط فيلمها الروائي الطويل الثالث بعد "سويتي" (1989) و"ملاك على مائدتي" (1990)... ومع هذا كان من الواضح أن كامبيون حددت توجه سينماها وإصرارها على أن تقدم في أفلامها شخصيات نسائية لهن المكان الأول في الحكاية، كما أن لهن حرية الجنون والجموح والعشق. وفي اختصار: حرية الرد على المجتمع بأقسى من مبادرته تجاههن.
لكنهن لسن مخبولات
في هذا المعنى كان واضحاً إذاً، أن النساء في أفلام كامبيون لسن مخبولات بالمعنى السيكوباتي للكلمة، بل بالمعنى الاجتماعي، ما يجعلهن بالأحرى هامشيات يتطلعن إلى أن يمسكن مصيرهن بأيديهن وربما، بالمعنى الذي يمكن أن تكون فيه جلسومينا "مخبولة" في فيلم "الطريق" لفيلليني. أي إنه الجنون الذي يستخدم لمجابهة المجتمع والرد على جنونه العنيف.
من هذه الطريق اختارت جين كامبيون أن تشق دربها لتقدم تلك السينما التي اعتبرت على الفور "نسوية" و"رؤيوية"... وهو أمر أكدته المخرجة لكاتب هذه السطور حين التقاها وحاورها في "كان" عام فوزها بالسعفة الذهبية. في ذلك الحوار قالت كامبيون إذ سألناها عن ذلك الحضور الطاغي للنساء الهامشيات في أفلامها، "ألا تعتقدون معي أن امتلاء أفلامي بشخصيات نسائية هامشية، أمر طبيعي؟ أو لا تعتقدون معي أن من مهام الفن الرئيسة أن يكشف عما هو إنساني وعميق داخل تلك الشخصيات التي نعتقدها على الدوام هامشية تغرد خارج المجتمع وخرافاته وقوانينه العبثية، فقط؟ قولوا لي على أي حال: ما هو الهامشي وما هو "الاجتماعي"؟ ومن ذا الذي يحق له أن يحدد تموضع هذا أو ذاك؟ إن الشخصيات التي أقدمها– وصدقوني أن ليس من الصدفة أن تكون شخصيات نسائية– تبدأ حياتها على الشاشة باردة بعيدة من عاطفة المتفرج ووجدانه، لكنها سرعان ما تقترب منه، تغزوه وتهيمن عليه، ما يعني بالنسبة إلي أنها شخصيات تبني إيجابيتها انطلاقاً من ذاتها، لا من اعتراف مجتمع القيم بها...". والحقيقة أن من يشاهد أفلام جين كامبيون السابقة على "البيانو" الذي كان هذا الحديث يدور لمناسبته، أو التالية له... سيدرك سريعاً كم أن المخرجة تبدو دقيقة في توصيفها وتوصيف "نسائها" المنتشرة فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السيدة الجريحة
مهما يكن من أمر، فحين أجرينا ذلك الحوار مع كامبيون، لم تكن نتائج دورة "كان" قد أعلنت بعد، ولكن كان ثمة إجماع على قوة "البيانو" وجماله، وعلى أنه لا بد سيكون فائزاً بجائزة كبيرة في نهاية الأمر، بل إن السعفة لن تكون بعيدة منه– وبالفعل سيفوز "البيانو" بالسعفة الذهبية يومها ولو شراكة مع الفيلم الصيني "وداعاً يا خليلتي" لتشن كيغي. يومها إذ عبرنا لجين كامبيون عن رأينا هذا، ابتسمت بخجل من دون أن تجيب، ولعل سبباً إضافياً كمن وراء صمتها الذي حل مكان الجواب: كانت حاملاً في شهر متقدم وكان الطقس في "كان" حاراً متعباً وكان من الواضح أن آلام السيدة لم تكن لتقل عن فرحها بالإجماع الذي ساد من حول الفيلم، وسنعرف لاحقاً أن وليد المخرجة لم يعش طويلاً بعد أن وضعته وقد استبد بها الإجهاد فقضى وهو لا يتجاوز اليوم الـ12 من عمره. بسرعة حينها عرفت جين كامبيون كيف تتجاوز محنتها... وحملت من جديد لتنجب بعد فترة طفلة صارت لاحقاً من خير الممثلات الأطفال في السينما الأنغلوساكسونية... لكن جين طلقت زوجها في الوقت نفسه، منكبة على عملها السينمائي الذي كان نجاح "البيانو" المهرجاني، ولكن الجماهيري أيضاً، قد جعله أسهل منالاً من ذي قبل.
فبفضل "البيانو" الذي جعل منها نجمة في عالم السينما العالمية، كما أضفى شهرة كبيرة على بطلته هولي هنتر وعزز من مكانة شريك هذه في البطولة، هارفي كيتل – الذي اشتهر عنه دائماً تفضيله العمل مع مخرجين من الصف الأول، لا سيما مع مارتن سكورسيزي-، صار في وسع سينما جين كامبيون أن تخرج من الإطار الضيق للمنطقة الجغرافية التي كانت تتحرك فيها من قبل: أستراليا ونيوزيلندا، أي المنطقة التي كانت حققت فيها نصف دزينة من الشرائط القصيرة– ومنها واحد كان عرف أهل "كان" عليها وهو "بييل" الذي كان باكورتها وفاز بأفضل فيلم قصير في "كان" 1982، ثم أفلامها الروائية الطويلة الثلاثة الأولى، لا سيما الفيلم الثاني "ملاك على مائدتي" الذي كان عبارة من سيرة سيكولوجية للشاعرة النيوزيلندية "الغريبة الأطوار" جانيت فريم..، وذلك قبل أن تحقق أفلاماً عديدة أخرى لعل من أبرزها "صورة سيدة" (1996) عن رواية هنري جيمس المعروفة ومن بطولة نيكول كيدمان، و"دخان مقدس" من بطولة كيت وينسليت.