مع بداية العام الدراسي الجديد تنتشر إعلانات من نوع خاص على صفحات التواصل الاجتماعي الموريتاني على شاكلة، مدرس ابتدائي في أقصى الشرق يبحث عن زميل له ليتبادل معه مكان العمل في العاصمة، وآخر في الشمال يريد العمل في الجنوب بشدة، ومستعد لدفع 3 آلاف دولار لكي يفوز بمكان عمل جديد.
شكلت هذه الظاهرة مصدر قلق لوزارة التعليم وللقائمين عليها، حيث أخلّت بتوازن تموضع المدرسين في بلد ما زال أغلب مدنه الداخلية وقراه النائية ينقصها الكادر التعليمي، إذ إن جل المحافظات في العمق الموريتاني تبحث عن مدرسين، لا يريدون في الغالب أن يخدموا في بيئات بعيدة تعاني العزلة والبعد عن العاصمة، حيث "الفردوس الموعود" لآلاف المدرسين المتخرجين حديثاً والباحثين عن مدارس التعليم الخاص في نواكشوط التي تدفع بشكل ممتاز.
تطويع السوشيال ميديا
يجلس مدرس الابتدائي عبد الرحمن أحمد في مقهى غير بعيد من وزارة التعليم الموريتاني، ينتظر لقاء زميل افتراضي اتفق معه على عقد صفقة تبادل أماكن التدريس، حيث تم بموجب هذا الاتفاق أن يدفع عبد الرحمن الحالم بالعمل في العاصمة، ما قيمته 1000 دولار لزميله كي يقبل أن يخلفه في قسمه الدراسي النائي الذي يبعد عن العاصمة 900 كيلومتر في محافظة الحوض الغربي شرق موريتانيا.
يقول عبدالرحمن "تمت العملية بنجاح، حيث لم يبق لنا الآن، سوى إضفاء صبغة رسمية على اتفاقنا العرفي المبرم في السر، وذلك بتسجيل هذا التبادل في مصالح الوزارة، قبل أن تفتح السنة الدراسية أبوابها بعد أيام لكي يصبح ساري المفعول" .
يعترف عبدالرحمن أن "هذه السوق الافتراضية لتبادل مئات المعلمين سنوياً، ما كانت لتزدهر لولا ما توفره لنا صفحات السوشيال ميديا من تعارف وتبادل لوجهات النظر".
الكل يريد العاصمة
تحول التدريس في العاصمة إلى حلم يراود أغلب المدرسين الموريتانيين، حيث وفرة الفرص في مهن التعليم الخاص ودروس التقوية في البيوت وكذلك القرب من الخدمات المتمركزة بها.
يشرح منصور محمد يحيى أمين التكوين بالنقابة الحرة للمعلمين الموريتانيين سبب إقبال المعلمين لدخول العاصمة والعمل فيها، "يمثل نمط العيش في العاصمة، الذي يعتبر الأفضل على المستوى الوطني، عامل جذب إضافة إلى أن النساء يمثلن نسبة معتبرة ممن يلجأون إلى مهنة التدريس، بالتالي فظروفهن لا تسمح لهن بالتنقل بعيداً من عائلاتهن والعمل في القرى النائية والصعبة من حيث ظروف المعيشة".
ويؤكد النقابي منصور أن "التبادل حق للمدرسين"، ويعلل بروز الظاهرة في الآونة الأخيرة بالبلاد بأنها "الطريقة الوحيدة للتحويل إلى العاصمة نواكشوط".
التعليم الخاص مكسب
يعدد عمر الزايد، مدير مدرسة خاصة في نواكشوط، أسباب بحث المعلمين عن مدرس يقبل التبادل معه للعمل في العاصمة "بإمكان المعلم في نواكشوط أن يوزع وقته للعمل في عدة مدارس في حيز جغرافي واحد، فكثرة الخيارات وإغراء الدخل المرتفع تدفع هؤلاء لدفع مبالغ كبيرة للحصول على هذه الفرصة".
هذا الواقع دفع بنقابات التعليم الابتدائي في موريتانيا إلى رفع أصواتهن للمطالبة بمراجعة رواتب المدرسين لتحسين ظروفهم المعيشية، بخاصة أن أسعار المواد الغذائية شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى عضو نقابة المعلمين في موريتانيا الفاتح أن "منح الأولوية لظروف المدرسين سيجعل ظاهرة السعي الشاق لمزاولة العمل في نواكشوط يختفي، فحين يجد المدرس راتباً محترماً سيرضى بالعمل في أي مكان ترسله إليه مصالح الوزارة". يضيف "ما دام راتب المدرس لا يتعدى 300 دولار في الشهر سيظل مستعداً لدفع أضعاف أضعاف راتبه من أجل أن يزاول عمله في العاصمة أو إحدى المدن الكبرى".
ماركة موريتانية
سوق تبادل المدرسين في موريتانيا أصبحت فرصة لبعض أصحاب المنصات الإلكترونية الذين يخصصون ركناً في صفحاتهم لإعلانات المدرسين الراغبين في التبادل. يقول المدون محمد صاحب منصة على "فيسبوك"، "يزخر بريد منصتنا بعديد من رسائل المدرسين الذين يبحثون عمن يقبل التبادل معهم، وقد خصصت مبلغاً رمزياً لنشر الإعلانات وأفكر برفع الرسوم، لأن قيمة الصفقات أصبحت وقبل عقد من الزمن وشيوع استخدام الموريتانيين لمنصة فيسبوك كانت أروقة وزارة التعليم الموريتاني والمندوبيات الجهوية للتعليم في الداخل هما الملاذ للمدرسين الباحثين عن التبادل".
طموح مشروع
تنامي تلك الظاهرة في صفوف المدرسين تفسرها عدة عوامل متداخلة. ويرى مفتش التعليم الأساس محمد عبدالله ببن، أن سبيها بحسب الدراسات التي قام بها شخصياً، "عائد إلى الرغبة في تحسين الأوضاع المادية للمدرسين، حيث تتوافر الفرص للعمل في المدارس الخاصة، وتوظيف فراغات الوقت للتدريس في المنازل لدى البعض وكذلك فرص الترقية متاحة للمدرسين في نواكشوط، حيث يجدون مراكز لتحضير المسابقات التي يمنح التفوق فيها الولوج للمدرسة العليا للتعليم".
خطر محدق
ويخشى خبراء التربية في موريتانيا أن تؤثر انتقالات المدرسين بهذه الطريقة في تموضع الكوادر التعليمية في البلد المترامي الأطراف، الذي يبلغ أعداد تلاميذ المرحلة الابتدائية فيه 632307، تشكل نسبة البنات 50.15 في المئة. بحسب إحصاءات وزارة التعليم لعام 2020.
في المقابل، يرى منصور محمد يحيى أن ظاهرة التبادل "لا تؤثر في الخريطة المدرسية، إذ يعتبر من أفضل خيارات التحويل، نظراً إلى أنه لا يخضع للوساطة والنفوذ ولا يتسبب في زيادة أو نقص الطواقم التربوية في بعض المناطق".
كما أن للظاهرة انعكاساً على العملية التعليمية من ناحية أخرى يرصدها المفتش محمد عبدالله، "إذا كان الانتقال خلال السنة الدراسية فهو شديد التأثير في تحصيل المتعلمين ويشكل حاجزاً أمام متابعة تدرج البرامج وتقييم المكتسبات".