على بعد سبعة أسابيع من انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، وبعد أسبوعين من بدء المهلة الدستورية المحددة لانتخاب الرئيس الجديد، التي بدأت في الأول من سبتمبر (أيلول)، وقبل حوالى شهر على بلوغ الأيام العشرة التي يصبح فيها مجلس النواب حكماً هيئة ناخبة من دون الحاجة إلى دعوة يوجهها رئيس المجلس النيابي نبيه بري لجلسة الانتخاب، لا يزال مصير الاستحقاق الرئاسي مبهماً وسط غياب أي اتفاق على هوية الرئيس الـ 14 لبلاد الأرز، لا في صفوف المعارضة المكونة من النواب السياديين والتغييريين والمستقلين ولا في مقلب "حزب الله" وحلفائه. أما في الوقت المستقطع فقد قرر رئيس مجلس النواب الدعوة إلى جلسات عامة لمناقشة الموازنة سينشغل بها المجلس حتى منتصف سبتمبر وربما أكثر، ما يعني أن لا جلسة قريبة لانتخاب رئيس للجمهورية. لكن مصادر مقربة من رئيس مجلس النواب كشفت لـ "اندبندنت عربية" أن بري سيجد نفسه ملزماً بالدعوة إلى جلسة انتخاب رئيس للبلاد قبل انقضاء النصف الأول من المهلة الدستورية أي قبل نهاية شهر سبتمبر الحالي.
في الانتظار، بدأت في الأيام الماضية دينامية لافتة في صفوف المعارضة النيابية على قاعدة أهمية التوافق لإنقاذ الاستحقاق الرئاسي و"لبننته" وفق ما أعلن عضو كتلة التغييريين الـ 13 النائب ملحم خلف. وفي هذا الإطار، سجلت حركة مشاورات تنسيقية لا تزال في بداياتها، بين النواب التغييريين والكتل الحزبية السيادية والمستقلين، وبدت مساعي توحيد الموقف، في المرحلة الأولى، محصورة بالاتفاق على مواصفات الرئيس قبل الدخول في الأسماء، ربما تجنباً للاختلاف، فكان مطلب أن يحافظ الرئيس الجديد على سيادة الدولة وأن يستردها القاسم المشترك بين هذه القوى. في المقابل، ما زال الغموض يلف موقف "حزب الله" وحلفائه، فالحزب لم يتبنَّ بعد ترشيح أحد، حتى مرشحه الطبيعي رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية لم يبلّغ بدعم رسمي له، وأوساط فرنجية تؤكد أن دعم الحزب لـ "البيك" (أي فرنجية) محسوم لكنه يتجنب ذلك لعدم حرقه.
ويعتبر كثيرون أن "حزب الله" غير قادر على تكرار سيناريو انتخابات عام 2016 عندما عطّل البلد لإيصال ميشال عون، خصوصاً أنه يحتاج إلى كل من "التيار الوطني الحر" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" لنصاب الأكثرية، وهو محرج بين وعده السابق لحليفه سليمان فرنجية وبين الحليف المسيحي رئيس "التيار الوطني الحرّ" جبران باسيل الذي لا يريد إغضابه في المرحلة الحالية قبل انتهاء العهد الحالي، والتي قد تحسم فيها ملفات أساسية بدءاً من ترسيم الحدود البحرية. وعلى عكس قوى المعارضة التي تعمل على حصول انتخابات رئاسة الجمهورية قبل 31 أكتوبر (تشرين الأول)، يراهن "حزب الله"، بحسب أوساط مقربة منه، على أن يطول الفراغ الرئاسي أشهراً عدة، فيتمكن خلال فترة الشغور الرئاسي من تليين موقف باسيل الذي سيجد نفسه مضطراً، بحسب قراءة الحزب، إلى إعادة حساباته بعد مغادرة الرئيس عون قصر بعبدا ما قد يسمح للحزب بايصال مرشحه.
تشاور أوروبي- أميركي- عربي... ماذا عن فرنسا؟
في موازاة التشاور الحثيث بين القوى التغييرية الإصلاحية السيادية توصلاً للاتفاق على الأسماء بعد توضيح المواصفات والأولويات لأي رئيس أو رئيسة للبنان، برزت بعض الإشارات عن اهتمام دولي وعربي بالاستحقاق الرئاسي اللبناني. وكشفت مصادر دبلوماسية عن مواكبة دولية وعربية دقيقة لانتخابات رئيس الجمهورية العتيد، وعلمت "اندبندنت عربية" أن تشاوراً فاتيكانياً أميركياً عربياً أوروبياً بدأ منذ مدة، شمل عن أوروبا بريطانيا وألمانيا، وعن العالم العربي السعودية ومصر، فيما بدت فرنسا متمايزة في مواقفها انطلاقاً من علاقتها بإيران وحوارها الدائم مع "حزب الله". وكشفت المعلومات أن اللقاء الأخير الذي حصل في باريس بين مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل والمستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا والسفير السعودي في لبنان وليد البخاري قد عكس تبايناً في شأن الملف اللبناني لجهة رفض كل المساعي الفرنسية لتدوير الزوايا مع "حزب الله". وأبلغ الوفد السعودي المسؤولين الفرنسيين باهتمام المملكة بلبنان ورفضها المطلق لانتخاب رئيس من قوى الثامن من آذار الحليفة للحزب، وهي تصرّ على رئيس سيادي يعيد إنتاج علاقات لبنان العربية والدولية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن التشاور الأميركي الفاتيكاني الأوروبي والعربي أيضاً، كشفت المصادر الدبلوماسية أنه انطلق من قناعة استنتاجية مفادها بأن الخطر على الهوية اللبنانية القائمة على الحرية والتعددية والنظام الديمقراطي وحقوق الإنسان والعيش المشترك يتعاظم، بالتالي فإن استكمال استعادة التوازن إلى المؤسسات الدستورية بعد الانتخابات النيابية مدخله الأساس انتخاب رئيس إنقاذي للهوية وإحيائي للدولة. وانطلاقاً من هذه القناعة تأتي مساعي مجموعة الدعم الدولية الخاصة بلبنان، التي شكلتها الأمم المتحدة عام 2013، لتثبيت استقرار لبنان الدستوري والأمني بالتنسيق مع جامعة الدول العربية. وفي هذا السياق، يأتي التعديل الذي أدخل على القرار 1701 الخاص بمهام القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان في جلسة لمجلس الأمن عقدت في أغسطس (آب) الفائت، والذي كرّس قواعد اشتباك جديدة تحدّ من دور "حزب الله" في المنطقة الحدودية، ما دفع نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم إلى اعتبار التعديل الدولي بأنه يحوّل القوات الدولية إلى قوة احتلال.
المجتمع الدولي: لرئيس غير صدامي
وتؤكد مصادر دبلوماسية أن المرحلة المقبلة ستشهد على عودة عربية دولية متشددة لوقف الانقلاب على الدستور اللبناني، بالتالي تحفيز القوى التغييرية الإصلاحية السيادية على التقاط اللحظة المصيرية والاتفاق على رئيس "غير صدامي" لكن ثابت في مسار صون لبنان الدولة السيدة الحرة المستقلة، وقادر على تنفيذ الإصلاحات البنيوية والقطاعية الضرورية. وتعتبر المصادر نفسها أن المقاربات المتعلقة بالستاتيكو أو الخضوع لمعادلة الاستقرار لم تعد قائمة، وأن الستاتيكو الوحيد في لبنان يجب أن يكون بناء الدولة الجدية والبعيدة من المحاور والتي تهتم بشعبها وتحمي سيادتها بقواها العسكرية والأمنية الشرعية.
اللحظة اللبنانية تتطلب وقفة شجاعة
وفي موازاة الدينامية الداخلية التي بدأت تتطور في الأيام الماضية، ونظيرتها الدبلوماسية التي تنشط بصمت وثبات، تسجل ثالثة صامتة للقوى المجتمعية الحية المتمسكة بثوابت ثورة "17 تشرين" على قاعدة أن الفعل التغييري هو عمل تراكمي. وأكد المدير التنفيذي لـ "ملتقى التأثير المدني" زياد الصايغ أن "اللحظة تاريخية ولا مكان فيها لترف التكتيك السياسي، ولا لمنزلقات الطموحات الشخصية أو لاندفاعات الخنوع تحت التهويل بالويل وعظائم الأمور، بل اللحظة الآن تتطلب من قوى التغيير والسيادة والإصلاح وقفة شجاعة لانتخاب رئيسة أو رئيس يستحق لبنان الرسالة في الحرية والأخوة". وبحسب الصائغ أيضاً، "الرئيس الجديد أو الرئيسة يجب أن يعي نموذجية الهوية الحضارية للبنان، وأن يلتزم إعادته إلى عمقه الحيوي العربي وبعده الدولي الجامع". وعن دور قوى المجتمع المدني ومواكبتها للاستحقاق الرئاسي، قال "القوى المجتمعية الحية فاعلة في دينامية إنقاذ لبنان وهي تؤدي دوراً صامتاً في الداخل ومع الاغتراب اللبناني لبلوغ هذا الهدف النبيل، وأساسه تحديد دقيق لمعنى أمن لبنان القومي وأمان شعبه الإنساني، بالتالي العمل بأخلاقية الخير العام في ظل تدمير ممنهج لفرادة لبنان وعروبته كما امتداده العالمي".
وبحسب قوى المجتمع المدني، فإن لبنان يحتاج إلى رئيس أو رئيسة، وإلى حكمة وحوار ودستور وقانون، قوته، بحسب الصايغ، في انتمائه إلى الحرية والميثاق والشرعية والعدالة الاجتماعية والسيادة غير المنقوصة، والعمل لدور لبناني سلامي بنّاء للجسور والحوار، "لنعود جزءاً من السلام الإقليمي والدولي، هذه حقيقة لبنان الأبعد من وطن بل رسالة".