من المعلوم بالضرورة في السياسة الدولية أن علاقة شديدة الخصوصية تربط بين الولايات المتحدة وإسرائيل تلعب فيها الأولى دور الراعية للأخيرة نصيرة وممولة، على رغم أن إسرائيل في بعض الأحيان قد تتبنى سياسات لا تتسق مع سياسات الولايات المتحدة، فالرعاية والمناصرة والتمويل والدعم بشتى أشكاله لا يوجب التبعية. وهذه العلاقة تثير الغضب المفهوم تماماً لدى الفلسطينيين، ولدى الشعوب في كل البلاد العربية والحكومات في بعضها، فبسبب هذه العلاقة الخاصة تنتفي في ظاهر الأمر أية فرصة للتكافؤ بين دول المنطقة سواء في الصراع أو في التفاوض.
وليس الفلسطينيون وحدهم الغاضبين من دعم الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل والمستخف في أحيان كثيرة بالأعراف والقوانين الدولية بل وبما يعرفه الأميركيون من قيم الديمقراطية، ولا يقتصر الغضب على العرب والمسلمين، فمن الأميركيين أنفسهم من يستشعر ثقل ذلك الدعم على كاهل بلده ويرى أن كلفته باهظة عليهم، سواء في الأنفس أو في المال أو في صورة أميركا في كثير من أجزاء العالم، بل إن من الكتاب ودارسي العلاقات الدولية الأميركيين من يرى تلك العلاقة الوطيدة لغزاً عصياً على الأفهام، بل لعل رفض هذه العلاقة لم يبلغ في الولايات المتحدة قط مبلغه في الآونة الأخيرة.
يقول رئيس تحرير "فورين بوليسي" السابق جوناثان تيبرمان في مقالة له على "نيويورك تايمز"، في الـ26 من أغسطس (آب)، إن محاولات كثيرة بذلت لحل هذا اللغز فأفرزت كثيراً من "نظريات المؤامرة القبيحة، وكثيراً من الكتب العظيمة".
ومن أحدث الكتب في هذا الباب كتاب للكاتب الأميركي والتر راسل ميد بعنوان "تابوت العهد: الولايات المتحدة واليهود ومصير الشعب اليهودي"، وصدر حديثاً عن دار "ألفريد آيه نوبف" في أكثر من 670 صفحة.
يقول ميد في كتابه إن "لقارئ أي كتاب الحق في التساؤل عن سبب تأليف الكتاب أصلاً، وعما إذا كان جديراً بالوجود، وعن السبب في أنه ليس أقل حجماً. ويصح هذا بصفة خاصة حينما يتعلق الأمر بالكتب التي تتناول العلاقة الأميركية - الإسرائيلية، فقليلة هي المواضيع التي تلقى في السياسة الخارجية الأميركية مثل ما لقي هذا الموضوع من اهتمام، إذ نشر فيه ملء مكتبة محترمة، فهل نحن فعلاً بحاجة إلى كتاب آخر؟".
ويجيب جوناثان تيبرمان بـ"نعم" قاطعة، وبمثل هذه القطعية تجيب أستاذة الدراسات اليهودية باميلا ناديل في مقالتها عن الكتاب بصحيفة "واشنطن بوست" في الـثاني من سبتمبر (أيلول)، ويجيب مثل إجابتهما كتاب مقالات كثيرة تناولت "تابوت العهد" بالعرض والتقريظ منذ صدوره.
يصدر ميد كتابه بعبارة للمؤرخ الأميركي اليهودي جاكوب ريدر "إن الشعب الذي لا يعي ماضيه لا يمكن أن يضمن مستقبله"، وتوجه هذه العبارة تحذيراً لشعب ينسيه انشغاله بالمستقبل ماضيه وتاريخه لدرجة تستوجب تذكيره بهذه البديهية، لكن هذه العبارة نفسها تبقى تحذيراً ملائماً أيضاً لشعب آخر غارق في وحل حياته اليومية، يلهيه حاضره عن مستقبله وينسيه ماضيه، ويبقيه حبيساً في ما بين النهار والليل، والقهر والفقر والغفلة والتغافل. تبقى هذه العبارة مهما يكن قائلها وناقلها جديرة بأن نلتفت نحن إليها ونعمل بها ما استطعنا.
قوة الحقائق البسيطة
يقول أستاذ العلاقات الخارجية والدراسات الإنسانية بكلية "بارد" الأميركية وكاتب العمود في صحيفة "وول ستريت جورنال" والتر راسل ريد إن "وطن اليهود الموروث يعني فلسطين، وقد لا يعدو نقطة على خريطة العالم لكنه يحتل في العقل الأميركي مساحة قارة يراها مليئة بالمعلومات المغلوطة معرضة للأهواء مغمورة بالعواطف، ولكي أحكي القصة مباشرة كان علي أن أحمل على كل من الخرافات المناصرة للصهيونية والمعادية لها، فهذه وتلك حجاب من دون صفاء السجل التاريخي".
إضافة إلى ذلك يكلف الكاتب نفسه مهمة مساعدة الأميركيين على فهم "التاريخ الحقيقي لعلاقتهم بالدولة اليهودية" وأهمية الصهيونية وموضع إسرائيل في استراتيجية أميركا العالمية. ولقد حقق الكاتب هذا الهدف بحسب ما ترى باميلا ناديل، فـ"أي قارئ دقيق سيخرج من هذا الكتاب مسلحاً بحقائق وتاريخ وسياق ووضوح غائب عن أغلب نقاشاتنا للموضوع".
يعالج ميد في كتابه سردية رائجة بأن عصبة من اليهود تسيطر سراً على الإدارة الأميركية وتفرض عليها سياسة خارجية محابية لإسرائيل، لكنه لا ينفي وجود هذه السياسة، بل ينفي السيطرة السرية الكامنة وراءها أو التآمر الخفي من أجل إسرائيل، فتنقل عنه باميلا ناديل بضع مفارقات يحاول بها تفنيد هذه السردية، منها مثلاً أن جورج بوش على الرغم من حربه في العراق التي "يحسب بعضهم أنها كانت لمصلحة إسرائيل" رأى اليهود يصوتون ضده بكثافة في انتخابات عامي 2000 ثم 2004، ودونالد ترمب الذي نقل السفارة الأميركية إلى القدس وأبهج بنيامين نتنياهو بنقضه الصفقة النووية مع إيران خسر أصوات اليهود بهامش كبير، لذلك فإن "لوم اليهود على سياسات يكرهونها ويتبعها رؤساء يرفضونهم" بحسب ما يكتب ميد "أمر إن لم يكن معادياً للسامية فهو على أقل تقدير يفتقر إلى المعلومات".
لكن أما من احتمالات أخرى أو تفسير آخر غير معاداة السامية أو الجهل؟ ألا يحتمل مثلاً أن لوم اليهود على سياسات أميركا الخارجية هو نتيجة ربط بسيط بين السياسة والمستفيدين منها والمؤثرين المحتملين في وضعها؟ أليس وجود إسرائيل في خانة المستفيدين ووجود مؤسسات ومراكز بحثية موالية لإسرائيل في خانة صناع السياسات الأميركية داعياً كافياً لهذا اللوم؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لو أن لهذا التفسير أي نصيب من الوجاهة فهو لا يعني ميد، لأنه يفسر موالاة سياسة أميركا لإسرائيل تفسيراً بسيطاً مفاده بأن هذه السياسة "نابعة من العملية والكفاح السياسيين اللذين ينتجان بقية سياساتنا"، ولأنه يرى أن الاستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة في العالم، ومنها علاقتها بإسرائيل قائمة على سياسات محلية يرصدها ميد من عقد إلى عقد.
يجوب ميد التاريخ الأميركي مبيناً أن الأفكار المسيحية المتعلقة بعودة اليهود إلى أرض الميعاد قد لعبت دوراً قوياً في صياغة السياسات الأميركية منذ أيام ما قبل الثورة، فـ"هناك تراث طويل من التنبؤات البروتستنتية بعودة اليهود النهائية"، ويضرب لذلك مثلاً بالقس إنكريز ماذر الذي "وقف في كنيسته سنة 1666 وقال إنه "سيحين يقيناً الوقت الذي ستتخلص فيه جمع قبائل إسرائيل الاثنتي عشرة من راهن بؤسها واستعبادها، لتنال خلاصاً مجيداً رائعاً لن يكون روحياً فقط بل ودنيوياً أيضا"، و"سوف تسترد حيازة أرض الميعاد".
في استعراضه للكتاب بمجلة "ناشونال إنتريست،" في الخامس من سبتمبر الحالي، يكتب شين ديرنس أن "دعم الصهيونية، أي الاعتقاد بحق اليهود في تقرير مصيرهم، أميركي بقدر أميركية فطيرة التفاح". ويقول إن "الولايات المتحدة منذ نشأتها كانت على علاقة فريدة مع الشعب اليهودي"، ويضيف أن "آباء الولايات المتحدة المؤسسين كانوا منغمسين في كل من الكتاب المقدس والتاريخ الكلاسيكي، ويكنون احتراماً عميقاً للحضارة اليونانية والرومانية وللحضارة العبرية القديمة".
ونقل شين ديرنس عن ميد أن الولايات المتحدة رأت نفسها منذ بداية تأسيسها قوة من قوى العناية الإلهية موكلة بمهمة فريدة هي نشر الديمقراطية في العالم، وقد أظهر هذا رغبة في إعادة الشعب اليهودي إلى موطن أسلافه، إذ كتب جون آدامز، وهو من آباء أميركا المؤسسين، إلى صديق يهودي قائلاً "إنني أجد في قلبي أمنية بأن أراك على رأس 100 ألف إسرائيلي يغزون ذلك البلد ويعيدون أمتك إلى السيطرة عليه"، ويلاحظ شين ديرنس أن هذه المعتقدات كانت واضحة قبل فترة طويلة من هجرة اليهود الجماعية إلى الولايات المتحدة في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، فـ"هي جزء من الشخصية الوطنية منذ وقت مبكر".
وتدليلاً على أن للأميركيين غراماً قديماً بـ"أراضي الكتاب المقدس تزايد بشكل كبير في القرن الـ19"، يشير ميد إلى أن ثاني أكثر الكتب مبيعاً بعد رواية "كوخ العم توم" المناهضة للعبودية للكاتبة هارييت بيتشر ستو، كان كتاباً مصوراً لرحلات إلى الأراضي المقدسة عنوانه "الأرض والكتاب"، غير أنه ينفي أن يكون دعم الصهيونية قد اقتصر على المسيحيين الأميركيين، ففي حين أن الدين كان له دوره بالتأكيد فإن عدداً من أوائل المدافعين عن الصهيونية لم يكونوا متدينين بشكل خاص ويضرب مثالاً لذلك بقس.
كان القس وليم بلاكستون الواعظ الشهير في زمنه قد قدم التماساً عام 1891 إلى الرئيس الأميركي آنذاك بنيامين هاريسن يطالب حكومة الولايات المتحدة بإقناع القادة الأوروبيين بالضغط على السلطان العثماني من أجل إنشاء وطن قومي لليهود، ويعرف هذا الالتماس في التاريخ باسم "نصب بلاكستون"، ويشار إليه كثيراً بوصفه مثالاً للصهيونية المسيحية، لكن الموقعين شملوا كما يكتب ميد مجموعة متنوعة من الأميركيين متعددي الالتزامات الدينية، "فالوثيقة بالنسبة إلى كثير من الموقعين لم تعبر إلا عن عقيدة قديمة لدى كل من المتدينين والعلمانيين في القرن الـ19 بأن اليهود، شأن اليونانيين والإيطاليين، يمكنهم استعادة بعض مجدهم وعظمتهم القديمين إذا تخلصوا من الحكم والقمع الأجنبيين".
هكذا إذاً يغوص ميد في أعماق تاريخ الولايات المتحدة، باحثاً عن الجذور المسيحية لدعم الصهيونية ليرسخ فكرة أن دعم إسرائيل الراهن ليس وليد مصلحة سياسية كالقائمة بين الدول وبعضها بعضاً، ولكنها جزء من نسيج الشخصية الأميركية، وكأنه يقول إن أميركية الأميركي لا تكتمل بغير هذا الارتباط السري بإسرائيل.
غير أن ميد يشير أيضاً إلى مجموعات عدة من اليهود الأميركيين دانت "نصب بلاكستون"، مثلما دانت لاحقاً دعم الولايات المتحدة لـ"وعد بلفور" الصادر من بريطانيا العظمى عام 1917، داعياً إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في "أرض أجدادهم". ويشير إلى أن أعضاء بارزين في الجالية اليهودية الأميركية عارضوا الصهيونية معارضة شديدة، ومن هؤلاء السفير هنري مورجنثاو الأب وأدولف أوش مالك صحيفة "نيويورك تايمز" صاحب النفوذ الكبير.
لا يكتفي ميد برصد هذه الجذور التاريخية البعيدة لمكانة اليهود الخاصة وإسرائيل بالتبعية لدى الأميركيين، لكنه يحرص على توضيح أن كثيراً من السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة واعتبرت محابية لإسرائيل لم تكن إلا سياسات أميركية محضة تستهدف المصلحة الأميركية، ولم تكن أية مصلحة جنتها إسرائيل من جرائها إلا نتيجة ثانوية غير مقصودة لذاتها. وفي هذا الصدد يقول ميد "لو أنكم نظرتم فعلياً إلى السجل التاريخي، فإن أحد أوضح الأشياء التي يمكنكم رؤيتها هو أن هذه سياسة أميركية وليست سياسة يهودية".
يناقش الكاتب قانون "جونسون – ريد" لعام 1924 الذي أدى إلى تقليص الهجرة إلى الولايات المتحدة تقليصاً كبيراً، فأدى إلى هجرة عدد من يهود أوروبا إلى فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني، وكان كثيرون منهم ليذهبوا لولا ذلك إلى الولايات المتحدة، وعليه فقد ساعد القانون عن غير قصد على تعزيز قوة إسرائيل وزيادة أعداد سكانها في ما قبل قيام الدولة، و"لو لم يتم التصويت لصالح هذا القانون الذي تشدد في منع الهجرة إلى الولايات المتحدة، ربما ما كانت إسرائيل لتوجد اليوم".
لكن الكاتب يستنتج من ذلك أن إيجاد وطن في فلسطين هو الذي أتاح لأميركا أن تحقق مصلحتها وليس العكس، فقد ساعدت أميركا الناجين من "الهولوكوست" فعلاً، لكن "من دون أن تفتح أبوابها لطوفان المهاجرين".
وفي السياق نفسه، يقدم ميد تفسيراً آخر لمسارعة بلده في الاعتراف بالدولة اليهودية عند إعلانها، فمن الشائع القول إن الممولين من يهود الولايات المتحدة ضغطوا على الرئيس هاري ترومان للاعتراف بالدولة اليهودية عام 1948، لكن الحقيقة كما تقول باميلا ناديل نقلاً عن ميد أنه "لم يكن لليهود في أربعينيات القرن الـ20 إلا سلطة ضئيلة لم تمكنهم من إقناع حكومة الولايات المتحدة بقصف السكة الحديدية المؤدية إلى معتقل (أوشفيتز) النازي"، وأن "ستالين لعب دوراً أهم كثيراً من أي دور لعبه ترومان"، فاعتراف أميركا السريع بالدولة الوليدة كانت غايته سبق روسيا إلى المكانة التي أخلتها بريطانيا العظمى في العالم.
يناقش ميد أيضاً في هذا الصدد قرار الولايات المتحدة في ظل إدارة دونالد ترمب نقل سفارتها في إسرائيل إلى القدس بكل ما كان ينتظر أن يثيره ذلك القرار من غضب في العالم الإسلامي، ويقول إن قراراً صدر عام 1995 عن "الكونغرس" يقضي بنقل السفارة في غضون خمس سنوات، غير أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تقاعست عن تلك الخطوة إلى أن خطاها ترمب، مستهدفاً بها أن يثبت لأنصاره قدرته على ما لم تقدر عليه المؤسسة الرسمية بجمهورييها، ناهيكم عن ديمقراطييها.
كم ثمن الصراع؟
يخص ميد أيضاً الاستثمار الأميركي الاستثنائي في عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية باهتمام كبير، فيذهب ابتداء إلى أنه في حين تم اتخاذ قرار الاعتراف بإسرائيل على عهد ترومان وسط معارضة أليمة من كثيرين داخل الإدارة والمؤسسة الحاكمة، وفي حين أن دعم إسرائيل بقي بعد ذلك فاتراً في أفضل الحالات، ثم انخفض بشدة في ظل إدارتي أيزنهاور وكينيدي، إذ أراد كلاهما التودد إلى أعداء إسرائيل العرب ليكونوا حلفاء محتملين في الحرب الباردة، فإن دعم أميركا للصهيونية لن يسود حقاً إلا بعد انتصار إسرائيل في حرب عام 1967، إذ زادت الولايات المتحدة من دعمها للدولة اليهودية بعد أن أثبتت الأخيرة قوتها في ميدان المعركة، فتحتم على الرئيس ريتشارد نيكسن، "وهو رجل له تاريخ من الأقوال المعادية للسامية"، أن يعترف بقيمة إسرائيل شريكاً استراتيجياً في منطقة متزايدة الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة.
يرى ميد غرابة كبيرة في اهتمام الولايات المتحدة بالاستثمار في الصراع العربي - الإسرائيلي على الرغم من ما شهدته عملية السلام من إخفاقات، فـ"لم يحدث في التاريخ الأميركي أن بذل كل هذا العدد من الرؤساء بكل هذه الكثرة من وجهات النظر كل ذلك الجهد ورأس المال السياسي من أجل غرض واحد، ولم يحدث لفشل واحد في السياسة الخارجية الأميركية أن قوبل بمثل هذا القدر الضئيل من التفكير والتغيير".
وفي محاولة لتفسير ضخامة ذلك الاهتمام، يرجع ميد السبب إلى سمة أميركية وطنية، وليس إلى حرص خاص على إسرائيل، هي "التفاؤلية القدرية الساذجة" في ما يتعلق بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط "أدت إلى الخطأ الجسيم تلو الآخر"، وذلك لأن الأميركيين في ما يرى ميد يغالون في تقدير فرص المفاوضات في التوصل إلى سلام دائم، وهي ليست كذلك، ويلومون الأطراف المتفاوضة على عنادها بدلاً من الاعتراف بما لديها من تحديات داخلية، ويتبنون فكرة غير واقعية عن قدرة أميركا على توجيه قادة البلاد الصغيرة المكافحة من أجل بقائها.
مع أن ميد ينفي على مدار الكتاب وجود ضغوط من يهود أميركا النافذين هي التي ترسم السياسة الخارجية الأميركية المنحازة لإسرائيل، فإنه يقول بوضوح إن اليهود الأميركيين من شتى الاتجاهات السياسية يحاولون أن يؤثروا في السياسة بتبرعاتهم للمشرعين الذين يشاركونهم رؤاهم، لكن هذه في ما يرى هي الطريقة المتبعة في أميركا، وأي أثر لليهود إنما يعتمد على تقبل الإدارة الأميركية لهذه الرؤى ودعم الرأي العام الأميركي لها، وكأنه بذلك يبقي الباب موارباً، فإن ظهرت أدلة قاطعة على هذا التأثير فهي الطريقة الأميركية، وإلا فهي العقائد المسيحية الموروثة منذ القدم، أو هي سمات أصيلة في الشخصية الأميركية.
والحق أن العالم معقد، وأننا قد ننفق أعمارنا وراء أطروحات كالتي يقدمها ميد في كتابه هذا، محاولين أن ندرس كل قرار وكل سياسة وكل موقف، باحثين وسط ركام أنصاف المعلومات بل شذراتها عمن تقدم بالاقتراح وعمن روج له وعمن ضغط من أجل تبنيه، وهل نبعت فكرة قرار ما من تل أبيب أم من "آيباك" أم من "الكونغرس" الأميركي؟ وهل اتخذ القرار الفلاني لاتساقه مع القيم الأميركية ولخدمته مصالح الشعب الأميركي، أم لأنه خدم تل أبيب ومصالح إسرائيل؟ وهل وجود إسرائيل وازدهارها يخدم أميركا في منطقة من العالم لا يبدو أنها تفقد أهميتها أبداً، أم يخدم أحلاماً مسيحية وقناعات بعالم لم يحن أوانه بعد؟
ولا غضاضة في أن ينفق من يشاؤون أعمارهم في هذا البحث الذي لا نقول إنه عقيم، ولكننا ننتظر أن نرى جدواه الواقعية، وفي الوقت نفسه لا نملك إلا أن نلحظ أن في الشوارع والميادين والجامعات وفي المخيمات أيضاً في شتى البلاد العربية وفي كثير من بلاد العالم أشخاصاً غير مسلحين بالأكاديمية، لكنهم مسلحون ربما بفطرة سليمة وتقدير بسيط لما يرونه في نشرات الأخبار، فيخصون بمعاملة واحدة كلا العلمين الأميركي والإسرائيلي في تظاهراتهم ضد إسرائيل، كما في تظاهراتهم ضد الولايات المتحدة سواء بسواء.
عنوان الكتاب: THE ARC OF A COVENANT: The United States، Israel، and the Fate of the Jewish People
تأليف: Walter Russell Mead
الناشر: Alfred A. Knopf