قوبلت أخبار وفاة الملكة بمشاعر مختلطة في بعض أنحاء البلاد لا سيما في أوساط السود، وكذلك داخل البلدان التي استعمرتها بريطانيا ذات يوم، فتراوحت هذه المشاعر بين اللامبالاة والاحتفال.
لا ينبغي أن يفاجئكم ذلك فقد كان للملكة الراحلة كثير من الرعايا، ومن المنطقي أن تختلف وجهات النظر إزاء إرثها في ضوء فظائع الإمبراطورية البريطانية والجرائم الاستعمارية المرتكبة باسم العائلة المالكة. لا شك في أنني أتعاطف مع الملك الجديد لفقدان أمه إذ اختبرت ذلك بنفسي، ولكن إن رفض بعضهم الحداد بطبيعة الحال، ولا سيما أولئك الذين يجهلون من هي إليزابيث الثانية كامرأة، فأنا أعتقد أن ذلك حقهم الطبيعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن الأمر ليس بهذه البساطة، فما بين التغطية الإعلامية المتواصلة وإغلاق بنوك الطعام [التي تقدم مجاناً للمحتاجين] التي لا غنى عنها، وإلغاء مواعيد المرضى في المستشفيات، وتأجيل جنازات كان من المقرر إجراؤها يوم الإثنين المقبل [موعد الجنازة الرسمية للملكة] وكذلك صور الملكة المتناثرة عبر لوحات الإعلان، يعاد تذكيرنا باستمرار بأن الأمة في حال حداد. وللأسف بالنسبة إلى السود والآسيويين فإن العنصريين يشمرون عن سواعدهم في أوقات الأزمات الوطنية، هذا ما يخبرنا به التاريخ.
فما شهدته وخبرته من انتقادات لاذعة خلال الأيام القليلة الماضية لم يسبق أن رأيت له مثيلاً من قبل، إذ وصل عديد من الشكاوى إلى "اندبندنت" تتضمن الاعتراض على تقاريري التي تتناول عديداً من ردود الفعل المختلطة إزاء وفاة الملكة، وقد طلب مني "الذهاب إلى المنزل" كما تلقيت تهديدات لسلامتي.
وبالمناسبة لست الوحيدة التي تتعرض لهذا، فعديد من الصحافيين السود والآسيويين الآخرين الذين تتمثل مهمتهم في تسليط الضوء على الحقيقة ووضع إرث الملكة في السياق الكامل لديهم تجارب مماثلة. وقد تحدث بعضهم بصراحة عن حجم الإساءة التي تلقوها أو خبِروها منذ وفاة الملكة، وهذا في رأيي يقول كثيراً عن البلد الذي نعيش فيه.
فقد قالت المحررة المساهمة في "نوفارا ميديا" Novara Media آش ساركر، "منذ وفاة الملكة استمرت الإساءات العنصرية من دون توقف (في الغالب من قبيل دعوات ’عودوا إلى بلدانكم‘ بمختلف تعبيراتها، ولكن أيضاً من خلال الإهانات الصريحة)، ولست وحدي من يواجه هذه المشكلة فعلى رغم كل التوبيخ الموجه إلى التيارات اليسارية لعدم كونها حزينة بما فيه الكفاية، يبدو أن قليلاً من الصحافيين منزعجون من هذا الوضع".
وقد شهد على هذه الحملة صحافيون آخرون وشخصيات عامة كناتالي موريس الكاتبة في صحيفة مترو، والمحامية البريطانية - النيجيرية والناشطة السياسية والنسوية الدكتورة شولا موس شوغباميمو.
ولم تكن الإهانات وحدها ما تعرض لها هؤلاء، فلقد تعرضت وظائف كثيرين أيضاً للخطر لمجرد أن قاموا بالتعبير عن وجهات نظر معارضة حول النظام الملكي، وذلك في عالم يرجح فيه أصلاً أن يكون السود والآسيويون عاطلين عن العمل أو مجبرين على ترك وظائفهم بسبب العنصرية. وما تعرض لاعب كرة القدم الإنجليزي السابق تريفور سنكلير لهجوم عنصري على شبكة الإنترنت وإيقافه عن برنامج "توك سبورت" TalkSPORT حيث يعمل، إلا مثال عن ذلك. سنكلير كان قد نشر تغريدة تضمنت تساؤلاً حول وفاة الملكة ضمن سياق العنصرية في بريطانيا.
برغم قرون من المناشدات، لم تدفع بريطانيا تعويضات عن تجارة العبيد التي شهدت اختطاف ما لا يقل عن 12 مليون أفريقي، ومن ثم الإتجار بهم واستعبادهم
أوجو آنيا، الأستاذة في جامعة كارنيجي ميلون في الولايات المتحدة، غردت قائلة عندما علمت بتدهور صحة الملكة يوم الخميس [اليوم الذي توفيت فيه]: "سمعت أن ملكة إمبراطورية السرقة والاغتصاب والإبادة الجماعية تحتضر أخيراً. ليكن ألمها مبرحاً، أقول لمن يتوقع مني أن أعرب عن أي شيء سوى الازدراء للملكة التي أشرفت على حكومة رعت الإبادة الجماعية وذبحت وشردت نصف عائلتي وتركت آخرين آحياء يكابدون تبعاتها، تستطيعون التمني كما تشاؤون".
وقد واجهت الأكاديمية ردود فعل عنصرية وكارهة للنساء مثل نعتها بكلمة "زنجية" واعتبارها شخصاً أقل شأناً [بسبب لون بشرتها]، إضافة إلى شكاوى وصلت إلى الجامعة التي تعمل بها، حتى أن رجل الأعمال الملياردير جيف بيزوس مالك شركة أمازون دعا إلى التكاتف ضدها.
وقيل للسياسية الأسترالية مهرين فاروقي "احزمي حقائبك وارجعي إلى باكستان"، وذلك بلسان عضو مجلس الشيوخ الأسترالي اليميني بولين هانسون، بعد تغريدها بأنها "ﻻ تستطيع أن تدخل في حداد على زعيمة إمبراطورية عنصرية".
وتعرض كل من الكتاب تيرهاكا لوف والبروفيسورة مايا جاسانوف من جامعة هارفارد وجيميل هيل، وجميعهم من غير البيض، للهجوم والتشهير بهم على شبكة الإنترنت بسبب ما قالوه عن وفاة الملكة.
ويبدو لي أن السود الذين رفضوا بذل أي جهد ليزجوا بأنفسهم في هذا النهج الموحد إزاء موت الملكة أُستهدفوا أكثر من نظرائهم المعترضين من البيض.
الموت قدرنا جميعاً وما نتركه من أثر سيكون موضع تدقيق، ومن الطبيعي أن يختلف الناس في تقييم ذلك الأثر، إلا أن التقييم النزيه يمكن أن يساعد في تعزيز الازدهار والمصالحة بالنسبة لأولئك المتبقين.
يمثل رحيل إليزابيث الثانية نهاية عصر، ولكن من المستحيل أن نفصل إرث الملكة عن إرث المؤسسة التي كانت جزءاً منها، فمثلاً وعلى رغم قرون من المناشدات لم تدفع بريطانيا قط تعويضات عن تجارة العبيد العابرة للمحيط الأطلسي التي شهدت اختطاف ما لا يقل عن 12 مليون أفريقي، بعضهم كانوا من أسلافي، ومن ثم الاتجار بهم واستعبادهم.
وبدلاً من ذلك عوضت الحكومة والعائلة المالكة ملاك الرقيق السابقين عن "خسارة الممتلكات"، بما يعادل 300 مليار جنيه إسترليني اليوم، وهو المبلغ الذي أنهى دافعو الضرائب البريطانيون سداده في عام 2015.
والملكة نفسها، على الرغم من جاذبيتها الشخصية وابتسامتها التي لازمتها، لم تكن مجرد متفرج على الممارسات الجائرة المعاصرة، بل لا جدال في أن عهدها كان محفوفاً بمعاناة السود والسمر، مروراً بعدم المساواة المتجذرة إلى سحق التمرد الكيني [بين عامي 1952 – 1960]، إلى التورط في الحرب الأهلية النيجيرية [1967 – 1970]، وكذلك رفض دفع تعويضات عن مرحلة العبودية.
كثيرون منا، لا سيما السود والملونون المنحدرون من رعايا المستعمرين، لديهم القدرة على تحمل مستويات من الحقائق المعقدة بنحو يشق على نظرائنا من أصحاب الامتيازات [البيض].
من الممكن مثلاً أن نتعاطف مع آل وندسور بسبب الخسارة الشخصية لأمهم الملكة على الصعيد الإنساني من دون النواح في الشوارع على "صاحبة الجلالة" أو مؤسسة الحكم، ومع ذلك نؤمر نحن "اﻵخرين" ﺑـــــ"إظهار اﻻحترام"، وكأن قولنا الحقيقة أمر مشين، ما من شرف أعظم في رأيي من قول الحقيقة في وجه السلطة.
لا يجب أن نتعرض للإساءة العنصرية لكوننا صادقين، وحقيقة أننا نتعرض لذلك إنما تقول كثيراً عن حال هذه البلاد والمجتمع ككل، بالنظر إلى أن الشيء نفسه يحصل في بلدان أخرى يبدو لي أن المؤسسة التي عملت بدأب لتجاهل هذه الحقائق تواجه الآن الحقيقة، مع هذا الفيض غير المسبوق من الصادحين بالحقائق الذين يصعب فعل أي شيء لخفت أصواتهم.
هذا فجر يوم جديد.
© The Independent