يدخل في الـ19 من سبتمبر (أيلول) حيز التطبيق قرار دول البلطيق وبولندا وقف إصدار تأشيرات الدخول (شينغن)، وخصوصاً السياحية للرعايا الروس، وإلغاء تلك الصادرة مسبقاً (أي منع دخول الروس عبر حدودهم) مع بعض الاستثناءات (الدبلوماسيون والمعارضون وموظفو شركات النقل وأخيراً أقارب مواطني الاتحاد الأوروبي)، وجاء هذا القرار بعد أسابيع من قيام المفوضية الأوروبية بتجميد اتفاق تسهيل منح التأشيرات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، كما انضمت بعض الدول الأوروبية الأخرى للقرار، وهي جمهورية التشيك وسلوفاكيا والدنمارك وهولندا وبلجيكا.
اقتراح الحد من إصدار التأشيرات كان مطروحاً منذ بداية الحرب، ولكنه وضع على نار حامية بعد دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الشهر الماضي إلى وقف منح التأشيرات للمواطنين الروس قائلاً "لا ينبغي لأوروبا أن تتحول إلى سوبر ماركت أبوابه مفتوحة لأي كان ما دام يدفع"، وكما نعلم فقد تجاوبت الدول المذكورة أعلاه مع هذا النداء وبشكل أقل الدول الأوروبية الأخرى، ومما قاله المستشار الألماني أولاف شولتز "كل القرارات التي نتخذها يجب ألا تعقد عملية حصول [المواطنين الروس] على الحرية ومغادرة البلاد هرباً من الديكتاتور في روسيا. هذه ليست حرب الشعب الروسي... هذه حرب بوتين".
وزيرة الداخلية الليتوانية أغنه بيلوتايته وفي تفنيدها للقرار قالت "العدوان العسكري الروسي في أوكرانيا مستمر، وما يصل إلى ثلاثة أرباع من المواطنين الروس يدعمون الحرب، ومن بين هذه الفئة الأخيرة من يدخلون إلى ليتوانيا ويسعون إلى الإضرار بأمننا وأمن دول الاتحاد الأوروبي المجاورة. تخلق هذه المخاطر تهديدات للمصالح الوطنية، وأسس لمزيد من الفحص الفردي الصارم للمواطنين الروس القادمين".
من جهتها وعلى رغم تهديدها في بادئ الأمر بالرد بالمثل قررت موسكو عدم فرض تقييدات على دخول الأوروبيين إلى البلاد، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية "لن نعزل أنفسنا عن سكان الاتحاد الأوروبي. روسيا بلد مفتوح وحر فعلاً ويعامل جميع الشعوب باحترام، بغض النظر عن القدرات الفكرية لنخبهم".
لفهم سبب المواقف الحازمة لدول البلطيق ومعها بولندا علينا أن نتذكر بأنها الدول الأوروبية الوحيدة تقريباً التي تمتلك حدوداً مشتركة مع روسيا وبيلاروس، (لطالما امتلكت فنلندا مقاربة مختلفة اتسمت بالحياد في علاقتها مع روسيا، وهو ما لبث أن تغير بانضمامها إلى الناتو كأحد مفاعيل الحرب الروسية على أوكرانيا)، مع ما يمثله هذا من تحديات أمنية على هذه البلاد الصغيرة الأعضاء في الناتو والاتحاد الأوروبي. وزير الخارجية اللاتفي إدغار رينكيفيتشس ذكر بأن العملاء الروس الذين نفذوا عملية تسميم سيرغي سكريبال في بريطانيا ودمروا مخزن الذخيرة في تشيكياً كانوا يسافرون بالتأشيرات السياحية.
ثانياً إضافة إلى الجانب الأمني للقرار تحدث المسؤولون الأوروبيون عن الجانب الأخلاقي، ففي حين يدفع المواطن الأوكراني لترك بيته وبلاده ويتكبد العناء لإيجاد مأوى في أوروبا ترى المواطنون الروس، وبينما تشن حكومتهم حرباً شعواء، يسرحون ويمرحون في البلاد الأوروبية نفسها، وهو مشهد لا يقبله المواطن الأوروبي ولديه كل الحق في ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثالثاً هناك واقع عرقي دقيق جداً في دولتي لاتفيا واستونيا ولا شيء يمنع من استغلاله في أوقات الأزمة كالتي نعيش فيها، هاتان الدولتان تحتضنان عدداً كبيراً من السكان الروس نسبة لعدد السكان الكلي، والجزء الأكبر من هؤلاء الروس لم يحصلوا على الجنسية عقب استقلال الدولتين في 1991، وهو ما أثر طبعاً في ميولهم وولائهم، لا بل حتى نسبة غير صغيرة ممن حصلوا على الجنسية يدعمون موقف الكرملين، وهو ما تراه يحدث في المدن ذات الغالبية الروسية في شرق البلدين، مثل داوغافبيلس في لاتفيا ونارفا في أستونيا، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالرموز والنصب التذكارية من الزمن السوفياتي، وبشكل حاد تلك المخصصة للانتصار على النازية. وتزيد نسبة السكان من الأصول الروسية في العاصمتين تالين وريغا على الثلث.
أخيراً هذه المعطيات والتاريخ الصعب والمؤلم مع روسيا الذي تجلى في عقود من السيطرة تحت الإمبراطورية الروسية تلاه حقبة قصيرة من الاستقلال ليأتي الاتحاد السوفياتي ويفرض احتلاله المصاحب بتهجير عشرات الآلاف في الأسابيع الأولى، وتجهير ثان إلى المعتقلات الستالينية بعد طرد النازيين، واستمرت حتى وفاة الدكتاتور السوفياتي في 1953. وأخيراً نضال الجمهوريات للاستقلال في عامي 1990 و1991 الذي لم يخل من سكب للدماء. هذه المعطيات وحدها كافية لمنح السلطات وحتى الشعب شعوراً بالقلق، وهو شعور لا بد أنه انتفخ أضعافاً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ناهيك عن السجل الاستبدادي الداخلي الحافل لدى الجار الروسي.
هل هو عقاب جماعي للمواطنين الروس العاديين؟ كلا، ولكنها خطوة طبيعية في لحظة تشهد فيها أوروبا أكبر نزاع عسكري منذ الحرب العالمية الثانية. وفي حين لا يجوز فرض مسؤولية جماعية على كامل الشعب الروسي عن أفعال حكومته، فإن هناك حدوداً أخلاقية وتقييدات منطقية. الفكرة الأوروبية بسيطة جداً، لا يجوز أن يتمتع مواطنو دولة شنت عدواناً بالرفاهية الأوروبية بينما يعاني الأوكرانيون ويلات الحرب.
طبعاً قرار جدلي نسبياً مثل هذا ما كان ليمر من دون استغلال الأبواق الإعلامية الروسية التي تروج للغرب المتوحش والمعادي للروس، واعتبرته خطوة أخرى تدل على "روسافوبيا"، أي الكراهية للروس، وهو مصطلح يتكرر يومياً في الإعلام الروسي. وهذا على رغم حقيقة أن ريغا وفيلنيوس في الآونة الأخيرة تحولتا إلى مركزين رئيسين للمعارضين لنظام بوتين ولوكاشينكو. وتحتضن ريغا عدداً من المؤسسات الإعلامية الروسية أو الموجهة إلى روسيا، فيما تتركز المعارضة السياسية البيلاروسية وبعض الروسية في فيلنيوس. هو ببساطة عداء للنظام الروسي وما يروج له من قيم مضادة لتلك الأوروبية، وليس للروس الذين تمتلئ دول البلطيق بحضورهم الاجتماعي والثقافي.
وقد لا تطاول هذه الإجراءات النخبة الحاكمة أو تضرها، ولكن على رغم استبعادي حصول ذلك فإن على الشعب [الروسي] أيضاً أن يعي أن هذه الإجراءات هي نتيجة مباشرة لسياسات حكومته التي تجر البلاد إلى القعر.
ويصف أحد المواطنين في ليتوانيا الأمر كالتالي، "تخيلوا مثلاً لو دولة أوروبية تقود حرباً وتغزو بيلاروس والأخيرة تتلقى دعماً ومساندة من روسيا، ثم يقوم مواطنو تلك الدولة الأوروبية بأعداد غفيرة بزيارات سياحية لروسيا، بينما يشعر الروس بالقلق والألم لما يجري في الدولة الجارة ويصعقون لمشاهد الدمار والقتل التهجير الذي يتعرض له المواطنون البيلاروس الذين هربوا بالملايين إلى روسيا من الوحش الأوروبي. وتخيل هؤلاء اللاجئين البيلاروس يلتقون بهؤلاء السياح الأوروبيين الذين لا يخفي عديد منهم لامبالاته بما تقوم به دولته في بيلاروس، لا بل بعضهم يصدح وهو مخموراً باسم رئيس بلاده واصفاً إياه بالبطل"، وأضاف "تقريباً الأمر نفسه يجري بشكل معكوس عندنا".