على عكس الغالبية العظمى من الكتاب والمفكرين لم يحب الكاتب والمفكر الفرنسي ألبير كامو رواية "الإخوة كارامازوف" للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، بل بالأحرى كثيراً ما عبر عن مقته لها قائلاً إنها عابقة بالثرثرة وذات "شطحات" وفواصل لا تحتمل، لكن هذا لا يعني أنه لم يحب أدب سلفه الروسي الكبير إلى حد الشغف أحياناً معتبراً صاحب "الجريمة والعقاب" أحد كبار صانعي الحداثة الروائية في العالم، بل أحد مؤسسي الفكر الوجودي وطارحي الأسئلة الشائكة بشأن علاقة الإنسان الفرد بالوجود. بل هو أحب أدب دوستويفسكي إلى درجة أنه أقدم في عام 1959 على اقتباس رواية "الشياطين"، وهي في الترجمة الفرنسية "الممسوسون"، في عمل مسرحي يمكن اعتباره اليوم جزءاً من ثلاثية مسرحية اختتم بها كامو مساره ككاتب مسرحي إضافة إلى كونه روائياً وفيلسوفاً ومفكراً سياسياً. ولعل الغريب في الأمر أن المسرحيات الثلاث تتناول بشكل أو بآخر قضية الأطفال، عبر التساؤل عما إذا كان ثمة في الوجود ما يبرر قتل طفل مهما كانت الذرائع؟
ما يهم كامو
كان العمل الأول في ترتيب كامو التاريخي لإنتاجه هذه "الثلاثية" مسرحية "العادلون" أو "البررة" في ترجمة عربية أخرى في عام 1949، وهي تستعير حكاية مجموعة من العدميين الروس الذين تآمروا لاغتيال الأرشيدوق الروسي إبان ثورة عام 1905 التي أجهضت. أما العمل التالي فكان في عام 1956 حين اقتبس كامو رواية "صلاة من أجل بتول" عن الرواية المعروفة بالعنوان نفسه للكاتب لأميركي ويليام فوكنر، ليعود بعد ذلك في عام 1959 إلى روسيا ولكن هذه المرة من خلال تحفة دوستويفسكي التي تدور حول مجموعة من الثوار العدميين الذين ستؤول ثورتهم إلى الفشل، ولكن ما ينبغي قوله هنا هو أنه ليس الثورة العدمية ولا فشلها أو نجاحها ما كان ما يهم كامو حتى وإن كان لن يقف مكتوف اليدين أمام مواضيع كهذه. ما يهمه وجعله يقرب هذين العملين الروسيين كثيراً من رواية فوكنر التي اعتبرها تعالج الموضوع نفسه، كان كما أشرنا قضية الثورة في مواجهة التضحية بالصغار وقضية مسؤولية الطفل عما يقترفه هو نفسه ومن شأنه أن يعتبر شراً إن أتى من البالغين، وأخيراً قضية الذنب في مواجهة معاناة الصغار حتى الموت.
الثورة أم الطفولة
طبعاً من المنطقي القول إن ساعتي العرض المسرحي لا يمكنهما أن تستوعبا رواية في أكثر من ألف صفحة كـ"الممسوسين" أو صفحة طويلة من حكاية ثورة 1905 الروسية تحتاج إلى تفسيرات وشروح لو كان الأمر يتطلب الحديث عن الثورة نفسها بالنسبة إلى "العادلين" هنا أو تناول أحداث رواية دوستويفسكي الحافلة بمئات الأحداث ومئات الشخصيات وعشرات القلبات المسرحية هناك، أو بينهما استعراض كل تلك العوالم المنتمية أحياناً إلى نوع خاص من تيار الوعي في نص فوكنر. ومن هنا كان من الطبيعي لاقتباس مسرحي أن يتناول من كل عمل من أعمال هذه "الثلاثية" التي لا يبدو أنها كتبت مقصودة كذلك جوهراً محدداً يخدم الخطاب الفكري الذي يتطلع الكاتب إلى التعبير عنه. وهكذا نراه مثلاً في "العادلون" يتوقف عند مشهد أساسي هو عبارة عن اللحظة التي يفترض بالمتآمرين العدميين فيها أن يرموا قنبلة على عربة الأرشيدوق لقتله ضمن إطار حراكهم الثوري الإرهابي، ولكن هنا تبرز المشكلة الأساسية هناك في رفقة الأرشيدوق أطفال، فهل يكمل الثوار العملية فيلقون قنابلهم معتبرين هؤلاء خسائر جانبية أم يتراجعون لأن ما من شيء يبرر قتل طفل ولا حتى أكثر القضايا سمواً كما سيقول جان لوك غودار لاحقاً في مناسبة أخرى؟ تلكم هي إذاً القضية الرئيسة التي صاغ كامو مسرحيته لطرحها من منطقه الوجودي الإنساني. والحقيقة أن هذه كانت واحدة من أعقد القضايا التي طرحت في مسرحية، بالتالي لم يكن غريباً في زمن السجالات الإنسانية الكبرى أن تحوز "العادلون" نجاحاً كبيراً وسجالات عميقة.
العقاب المريح
أما بالنسبة إلى "صلاة من أجل بتول" فإنها جاءت أكثر تعقيداً من ناحية طرحها لقضية مسؤولية الطفولة، بالتالي جاءت أقل وضوحاً، وهي تبعت أسلوب فوكنر نفسه الذي يبدو أن لا شيء لديه واضحاً أو مطلقاً. فهنا لدينا الخادمة نانسي وهي زنجية تعمل لدى آل ستيفنس السيدة تمبل والسيد غوون، وهي قتلت طفل سيديها والآن قيد المحاكمة. وها هي المحكمة تحكم عليها بالإعدام، فإذا بها تصلي شكراً للرب لأن الحكم أتى ليعاقبها جسدياً ويخلصها روحياً من آلام لا شك في أنها كانت ستكون أعظم لو لم تعدم! بالنسبة إلى كامو كما الحال أصلاً بالنسبة إلى فوكنر لا شك في أن نانسي مجرمة وقديسة في الوقت نفسه، بالتالي فهي تنتصر بالحصول على المصير الذي فشل ستافروجين في الحصول عليه في "الممسوسين"، العقاب الذي يخلصه من آلام سببتها له جريمته التي اقترفها حين ترك الطفلة التي أغواها تنتحر من دون أن يمد لها يد العون (وهذا هو موضوع الفصل الذي تحدثنا عنه في هذه الزاوية قبل أيام وأشرنا إلى غيابه عن النص الأصلي لرواية دوستويفسكي على رغم أهميته). ففي اقتباسه لرواية "الممسوسين" ها هو كامو في واحد من أقوى أعماله المسرحية، يتوقف بشكل أساسي عند ذلك الفصل معتبراً إياه استكمالاً لطرحه قضية الطفولة والمسؤولية. فستافروجين حين قصد الراهب تيخون في الفصل المستبعد إنما كان يريد من هذا الرجل القديس أن يعاقبه على الذنب الذي اقترفه، لكن الراهب يبدو وكأنه ينصحه بالاستغفار والخلاص. وبالنسبة إلى ستافروجين كان الخلاص عقاباً أشد قسوة بكثير، وأقسى طبعاً من العقاب الجسدي أو حتى الروحي. وتلك هي القضية التي استخلصها كامو من الرواية، مفضلاً الاشتغال عليها بدلاً من الانشغال بالمواضيع العريضة والمتشابكة التي تملأ الرواية الأصلية.
عجز إنساني
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع ذلك، فإن كامو هنا بالتحديد لم يبتعد عن ربط قضية ستافروجين بقضية الطفولة، وذلك ضمن إطار العلاقة بالغة التعقيد التي تلمسها بين ستافروجين نفسه وبين الموضوع "الآخر" الذي يشغل بال دوستويفسكي في الرواية، العدميون وثورتهم المناوئة للمجتمع. ففي نهاية الأمر كان كامو يرى حتى وهو يشتغل على قضية ستافروجين والطفلة المنتحرة أن هذه القضية الأخيرة هي من الشفافية بحيث تطرح على القارئ والمتفرج، بالتالي مسألة لم يكف هو أي كامو عن الإحساس بأهميتها وأهمية بعدها التنبؤي "من حيث استعراضها ليس لأشخاص يستبقون ظهور العدمية الحديثة التي ازدادت ظهوراً في أواسط القرن الـ20 فحسب، بل كذلك ظهور أفراد يريدون أن يؤمنوا ويتصرفوا تبعاً لإيمانهم لكنهم عاجزون عن هذا، عجز العدد الأكبر من أفراد معاصرين لنا يملؤون مجتمعاتنا وعوالمنا الروحية معاً". وهو يتحدث هنا بالطبع عن ستافروجين الذي من الواضح أن عجزه يتجلى في عدم قيامه بأي مسعى لإنقاذ ضحيته الطفلة من الانتحار أي العدم، ومن ثم يتجلى لاحقاً في عجزه عن العثور على خلاصه في العقاب!
رؤيوية دوستويفسكي
من هنا لن يكون من المبالغة القول إن كامو إذ جعل من هذه المسرحية خاتمة لمساره ككاتب مسرحي، كان منطقياً مع نفسه وهو صاحب "أسطورة سيزيف" كتاب فلسفة الانتحار بامتياز، أن يستبق مصير ستافروجين بذلك المشهد مع الراهب، وكأن كامو وجد هنا الوعاء الروائي الأكثر ملاءمة للتعبير عن فلسفته المتعلقة بخواء الشرط الإنساني. ونعرف أن كامو حين سئل عن مقاربته هذه لنص دوستويفسكي أو لجزء "بسيط من النص" اعترف بسهولة أن تقنيات الكاتب الروسي السردية تتناسب جيداً مع التكييف المسرحي، مضيفاً أن "الممسوسون" هي "واحدة من أربعة أو خمسة أعمال أضعها فوق كل الأعمال الأخرى. بل أستطيع أن أقول إنني اغتذيت بهذه الرواية". وأعلن للمرة الأولى حينها أن هذه الرواية كانت هي التي صاغت رؤيته للوجود، مضيفاً أن دوستويفسكي يمتلك في رواياته تقنية مسرحية، "إنه ينتقل بالحوار مع بعض المؤشرات عن الأماكن والحركات، ثم إن هذه الرواية بالنسبة إليه رواية تنبؤية، ليس لأنها تعلن عدميتنا فحسب، بل لأنها تصور أرواحاً ممزقة أو ميتة أيضاً غير قادرة على المحبة والمعاناة"، بالتالي فإن كامو كان يرى أن مسرحيته هذه "حتى وإن كانت من إبداع دوستويفسكي وعالمه الروسي وسجالاته الفكرية، فإنها تبدو لنا اليوم جزءاً من عالمنا ومعاناتنا، جزءاً يكشف لنا كم أن دوستويفسكي نفسه كان رؤيوياً بصورة عجائبية".