عندما اندلعت حرب العراق وبدأت تصل إلى أوجها في عام 2003 قرأ المخرج التشيكي الأصل ميلوش فورمان تصريحاً لنائب الرئيس الأميركي ديك تشيني يعلن فيه أننا "نحن الأميركيين إنما نسعى كما فعل نابليون حين غزا إسبانيا إلى دخولها كمحرر لا كغاز". أمام هذا القول أغرق فورمان في الضحك والدهشة وقال لمن حوله إن هذه الجملة بحذافيرها واردة في السيناريو الذي انتهى لتوه من كتابته. الطريف أن ذلك السيناريو لم يكن على أية علاقة بالحرب العراقية بل بإسبانيا تحديداً، وأنه إنما يريد فيه أن يستقصي حول واقع يقول إن "نابليون قد أدخل جذور الديمقراطية حقاً إلى إسبانيا لكن ذلك لم يكن كافياً". ولقد أضاف فورمان يومها أن ذلك ما حدث حقاً في العراق عند بدايات القرن الـ21 حيث "زرعنا بذور الديمقراطية ولكن في التربة الخطأ، التربة التي لم تكن مسمدة إلى درجة تمكن تلك البذور من النمو". ومن هنا لن يكون غريباً أن يعدل فورمان نهاية السيناريو الذي لم يكن قد صوره بعد، ليرينا مجموعة من الكهنة الإسبان وهم ينظرون إلى الرسوم المريعة التي كان الرسام غويا ينجزها وهم يتمتمون "هكذا ينظر إلينا العالم إذاً!". وسوف يكون من الطبيعي للنقاد الأكثر وعياً أن يروا في ذلك إشارة من الفيلم إلى ما كان يحدث من أمور فضائحية في سجن أبي غريب.
خليط سينمائي خالص
وهنا لكي لا تبدو الأمور مختلطة بعضها ببعض، إذ قد يتساءل القارئ عما يجمع بين ديك تشيني وغويا ونابليون وسجن أبي غريب وحرب العراق، لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها. صحيح أن الموضوع الذي نتناوله هو في الأساس موضوع عن الرسام الإسباني فرنشيسكو غويا ورسومه الرهيبة التي صور فيها ممارسات محاكم التفتيش، كما عن خيبة أمله إزاء الغزو النابليوني لبلاده بعد أن كان مثل عدد كبير من كبار المبدعين الأوروبيين يرى في القائد الفرنسي صورة المحرر معبراً عن ذلك في رسوم أخرى له، كل هذا صحيح، لكن صحيح أيضاً أن الفيلم الذي حققه ميلوش فورمان من كتابته وجان كلود كاريير، إنما أراد أن يضيء بشكل غير متوقع على ما فعله الأميركيون في العراق زمن إنجاز الفيلم، حيث إن الصدفة جعلت المناسبة تفرض نفسها. كان عنوان الفيلم "أشباح غويا"، وحققه فورمان في عام 2006 ليكون آخر أفلامه ولكن كذلك أقلها نجاحاً من الناحية الجماهيرية، وكذلك من الناحية النقدية، وهذا على الرغم من أن فورمان سيعيش دزينة أخرى من السنوات وسنلتقيه رئيساً للجنة تحكيم المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش في المغرب أيام كان لهذا المهرجان مجده الكبير.
وهو في مراكش لن يتوقف عن الحديث عن تلك الصدفة التي جعلت موضوع "أشباح غويا" يبدو متطابقاً تقريباً مع تلك الظروف السياسية التي "أكملت في العراق على يد الأميركيين دمار هذا البلد الذي كان قد شرع به صدام حسين بالتواطؤ مع الأميركيين أنفسهم" على حد تعبيره، ولكن الحقيقة أن ميلوش فورمان حين التقيناه في مراكش كان يعيش على التكريم المتحفي وصارت وراءه أفلامه العظيمة التي بوأته يوماً عرش نوع سينمائي رائع كما سنرى.
محطات في تاريخ السينما
ودام مجد فورمان السينمائي الذي يمكن توزيعه على قسمين تبعاً لـ"جغرافيته" ما يزيد على 40 عاماً على أية حال ليختتم بـ"أشباح غويا". فهناك القسم الأول "التشيكي" الذي سادت فيه أفلام حققها في مسقط رأسه قبل أن "ينشق" آخر سنوات الـ60 بعد أن شارك في "ربيع براغ" عام 1968، بل كانت أفلامه مثل "غراميات شقراء" و"إلى النار أيها الإطفائيون!" من المحركات الأساسية لذلك الربيع، ويرحل إلى الولايات المتحدة حيث سيحقق تسعة أفلام خلال ثلث قرن لا يزال بعضها يعتبر حتى اليوم من قمم السينما الهوليوودية، من "إقلاع" (1971) إلى "رجل فوق القمر" (1999)، ومن "واحد طار فوق عش الوقواق" (1975) إلى "الشعب ضد لاري فلنت" (1969)، مروراً طبعاً بـ"هير" (1979) و"راغتايم" (1981) و"أماديوس" (1984) و"فالمونت" (1989). ويعرف محبو السينما أن أكثر من نصف هذه الأفلام تعتبر علامات في مسار الفن السابع بل تحمل نظرة ناقدة وعنيفة إلى المجتمع الأميركي على رغم أن فورمان لم يكن قد اكتشفه إلا حديثاً. أما "أشباح غويا" الذي ختم تلك المسيرة كلها فإنه إن لم يحمل تلك النظرة القاسية في ثناياه وحبكته التاريخية فإنه حملها بالتأكيد في ارتباطه مع ظروف إنتاجه وحديث مخرجه عنه.
من محاكم التفتيش إلى نابليون
كما أشرنا أعلاه، تدور أحداث الفيلم أيام محاكم التفتيش الإسبانية ولكن كذلك أيام الحملة النابليونية على إسبانيا، ولكثرة مساوئ تلك المحاكم التي عاثت اضطهاداً وتعذيباً بكل من يريد أن يتفتح على الحياة في إسبانيا منذ قرون، كان كبيراً عدد المثقفين التنويريين والمبدعين بل حتى أبناء الفئات المتقدمة من الشعب الإسباني الذين ينتظرون مجيء بونابرت حاملاً إليهم أنوار الثورة الفرنسية، ليخلصهم من ذلك التعسف الذي يتم باسم الكنيسة. وكان من بين أولئك المبدعين الرسام فرانشيسكو غويا الذي راح يراقب بعين الغضب ما تتعرض له ملهمته الحسناء "إينيس" (ناتالي بورتمان) من تعذيب واضطهاد من قبل رجال التفتيش الذي يسعون إلى تدميرها نفسياً وجسدياً لأسباب غير واضحة، بل ربما لمجرد أنها مختلفة وتريد أن تعيش حياتها من دون أن تخضع لأعراف تراها ظالمة وبائدة فاعتبرت مهرطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان غويا يراقب ذلك كله من دون أن يكون قادراً على التدخل ولا حتى حين تبلغ الشراسة بواحد من محققي التفتيش أن يقرر رمي الفتاة في السجن كي تمضي فيه بقية حياتها، ولكن بعد ذلك بسنوات وحين تصل قوات نابليون إلى إسبانيا حاملة آمالاً عريضة، وإذ كان الناس جميعاً بمن فيهم غويا نفسه، يعتقدون أن "إينيس" قد ماتت في سجنها، تعود للظهور ولكن على صورة أخرى غير التي اعتادت أن تتسم بها، باتت اليوم منهكة من التعذيب والاضطهاد، هالكة من سوء التغذية، شبه ضريرة جراء السنوات التي أمضتها في العتمة. وهي على تلك الحال تظهر ذات يوم أمام غويا لتخبره أنها كانت حاملاً حين قبض عليها وسجنت، وأنها وضعت طفلتها داخل السجن وأن الطفلة انتزعت منها.
مساع ورسوم
يسرع الرسام إلى تقديم يد العون بالطبع ويساعد "إينيس" على السعي إلى العثور على الطفلة، لكنه في الوقت نفسه ينكب على إنجاز تلك الرسوم الرهيبة التي تصور معاناتها في سجون محاكم التفتيش أو تبدو على علاقة ولو بعيدة بتلك المعاناة، لكنه في الوقت نفسه وأمام ما تحول إليه "الإنقاذ الفرنسي" والقائد الفرنسي بالتالي، ينصرف الرسام إلى تحقيق رسوم تكاد تكون متطابقة مع تلك المتعلقة بأهوال محاكم التفتيش، في موقف سيذكر الناس لاحقاً بالخيبة التي أصابت كبار المبدعين الأوروبيين في ألمانيا بخاصة (هيغل، بيتهوفن، وغوته) إزاء ما كانوا يأملونه من "المحرر" الفرنسي! غير أن ما بدا في الحالة الألمانية حالة فكرية عميقة المعاني، بدت هنا في فيلم "أشباح غويا" تبسيطية ومفتعلة، بل إنها بدت إلى حد كبير غير متطابقة بما يكفي مع الوقائع التاريخية المتداولة، بحيث بدا الربط بين محاكم التفتيش والغزو النابليوني من خلال حكاية غويا وفتاته ميلودرامياً خالصاً وغير مقنع.
ومن هنا حقق الفيلم فشلاً ذريعاً إلى درجة أنه في وقت كلف إنتاجه أكثر من 40 مليون دولار لم يتمكن من أن يحصل في عروضه كلها أكثر من ربع ذلك المبلغ، في وقت راح فيه النقاد يتساءلون عما حدث لصاحب "واحد طار فوق عش الوقواق" الذي يعتبر من أقوى الأفلام التي تتعاطى مع مساوئ معالجة المرضى النفسانيين، أو "أماديوس" الذي سحر عشرات ملايين المتفرجين من خلال روايته حكاية الموسيقي موتسارت، أو بخاصة فيلم "هير" الذي اعتبر واحداً من أعظم الأفلام المناوئة للحرب عموماً وللحرب الفيتنامية بخاصة من خلال اقتباس رائع لتلك الكوميديا الموسيقية الشهيرة، التي يرى كثر أنها أسهمت في نشر ثقافة مضادة للحرب في أميركا السبعينيات ولا يزال لها مفعولها الأكيد حتى اليوم.