في محاولة أخيرة لتجنب النزاع وخوض الحروب يضطر بعض الدول إلى تبني سياسة الترضية بتقديم تنازلات سياسية أو مادية للقوى المهددة لمصالحها، والتي يمكن من جانب آخر، الاستفادة منها كسلاح في مواجهة خطر مماثل أو أشد ضراوة، كما هو الحال مع النازية والشيوعية. في هذا الصدد قدمت بريطانيا نموذجاً صالحا لتقييم مثل هذا النوع من التنازلات، لا سيما في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وتصاعد التوتر في شأن تكرار التجربة التي ما برحوا يتجرعون مراراتها، لكن تشارلز سبايسر، رجل الأعمال الذي أصبح مؤرخاً، يستخرج في كتابه الأول "قهوة مع هتلر" الصادر حديثاً عن دار بيغاسوس 2022، فصلاً مهملاً من سجل التاريخ، نسيه المؤرخون، أو تناسوه، على رغم ما يطرحه من بديل لافت للتسويات السياسية، لا يحتاج إلى موائد مستديرة وسلسلة من المناقشات المرهقة، بل هو على النقيض، يتطلب خلق أجواء حميمية مع الوحش المتربص ببلاده، عبر مآدب العشاء المريحة وحفلات الكوكتيل والتبادل الثقافي. وعلى غرار شخصيات ألن فورست، المشهور بروايات الجاسوسية، فإن من يضطلعون بهذه الدبلوماسية، عادة ما يوصفون بغريبي الأطوار، كما يظهر على الغلاف، رجل مجهول يعتمر قبعة ويرتدي معطفاً ويسير بمفرده عبر شوارع مدينة رمادية اللون في مهمة سرية.
ثلاثة رجال في مهمة سرية
كان على سبايسر أن يمضي ثماني سنوات في البحث المضني بين الرسائل وتقارير الاستخبارات ومصادر أخرى فقد عديد منها أو أهملت على مدار الـ 80 عاماً الماضية، ليخرج برسالة دكتوراه في غاية الدقة بحسب رأي الأكاديميين، وقصة مثيرة في رأي النقاد، عن هؤلاء الهواة الذين طمحوا إلى تجنيب أوروبا حرباً ثانية، وقادتهم "نياتهم الحسنة" إلى محاولة تقليم أظافر الهمجية، بتدريبها على استعمال مبرد أنيق وردي اللون، أو بمعنى مباشر، محاولة تمدين البرابرة، لكن الطريق إلى الجحيم، لطالما كان مفروشاً بالنيات الحسنة.
عندما وصل هتلر إلى السلطة في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، لم تكن شرور النظام النازي خافية على أحد. كان من الممكن استقراؤها عبر وسائله في تصفية أعدائه بشراسة، قيادات الميليشيات والسياسيين واليهود والبلاشفة، ونقضه لمعاهدة فرساي، ووعده بتوسيع حدود ألمانيا، لتصبح عروس أوروبا أو وفق كلماته "سيدة أوروبا". وبينما وجد البعض أن من الأنسب تجاهله، أو الترفع عن نزقه الطفولي المتغطرس، أو حتى ازدرائه، تحمست بعض الشخصيات البارزة في المجتمع البريطاني للقائد الطليعي الذي تسبب في هزة عنيفة لبلاده، وسايرها عديد من الصحف، منها صحيفة "روثرمير ديلي ميل"، بنشرها مقالات تشيد بهتلر، وإفراط في تصدير عناوين من مثل "مرحى بالقمصان السوداء".
وسط الفريقين، ظهر فريق ثالث، ذهب إلى الاعتقاد أن خير الحلول يتمثل في التخفيف من حدة النازية من طريق ما يسمى الزمالة الأنغلو - ألمانية. أصحاب هذه الدبلوماسية هم من يتقفى سبايسر أثرهم، ملقياً في طريقه الضوء على دور رابطة الزمالة الأنغلو - ألمانية التي تأسست في بريطانيا في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، بفضل شخصيات متزنة من ذوي النفوذ والعلاقات القوية. وكان طموحها ترويض الوحش المتربص، بدلاً من مواجهته، وراحت تجتهد في ابتكار طرق لتحقيق ذلك على أرض الواقع، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان بمثابة رد قاس على الجهود المبذولة وعلاقتها بالهدف المرجو، وهو ما هدم الرابطة من أساسها، بل وذهب إلى التشكيك في نياتها، ليبقي أثرها في دائرة الصراع المحتوم مجرد درس في التعامل مع أي طاغية.
يركز كتاب سبايسر على ثلاث شحصيات من أعضاء الرابطة، سياسي يساري من ويلز من دعاة السلام ورجل أعمال محافظ يجمع الفراشات ورائد مقاتل في الحرب العظمى، عملوا في فترة عصيبة على مد الجسور مع الرايخ الثالث من خلال الاندماج في مناسبات اجتماعية ومآدب ومؤتمرات وتبادلات ثقافية، وزيارات شبه رسمية بين شخصيات سياسية بريطانية معروفة ونازيين على مستوى رفيع. حتى ساد الاعتقاد أن بريطانيا استطاعت النجاة بنفسها من المجزرة التي تحيق بأوروبا، أو على الأقل، تم تقليل خطرها، وبخاصة حين أعلن هتلر عن رغبته في السلام مع بريطانيا تحديداً. ومن هنا أمكن لسبايسر أن يوجه تحذيراً من قلب التاريخ، يصلح للحظة الراهنة بعد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، وما لمسناه من تداعيات مؤسفة طاولت الجميع حتى العامل البسيط في مصنعه.
كيف يمكنك ترويض طاغية؟
اطمأن الفرسان الثلاثة لويد جورج وتينانت وهاملتون (أسماؤهم الأكثر شيوعاً) لدورهم كعامل مهدئ، وقدرتهم الناعمة على تذويب طبقات الثلوج وتدفئة المجال العام بين حكومتهم والقيادة الألمانية، لكن وجودهم الدائم في حضن النازيين أعطى لبعض الشخصيات مثل هيملر وريبنتروب، السفير الألماني في بريطانيا، صورة مطمئنة للمعارضة المحتملة التي سيواجهها، كما جلب عليهم استياء الرأي العام، وغضب المناهضين لهتلر إلى حد أن بلغ الأمر وصفهم بالخونة.
يركز سبايسر على اللاعبين الصغار في الدراما الرهيبة لانحدار أوروبا، وإن كان لديهم أو لدى بعضهم على الأقل مصالح شخصية، لا سيما أنهم تجار واقتصاديون وما تعنيه الحرب بالنسبة لهم في المقام الأول، هو خسارتهم المادية. هنا يجادل سبايسر الأمر، ففي حين أن التهدئة كانت "تفاعلية وسلبية"، فإن الجهود المبذولة لـ"جذب النظام النازي ومحاولة تمدينه والتواصل معه"، كانت "استباقية وديناميكية". ووفقاً لرؤيته الجديدة، فعلى رغم كل هذا، تمكن هؤلاء بجدارة من توفير أدق المعلومات الاستخباراتية عن الصعود المروع للنازيين، مقارنة بغيرهم من العملاء المحترفين. يستخدم سبايسر، مصادر جديدة لإظهار أنه على رغم أن الثلاثة يمكن إدانتهم "بالسذاجة"، فإنهم أدوا خدمة جليلة كعملاء استخبارات، وكان لطريقة تسللهم على امتداد الحدود المليئة بالثغرات بين الدبلوماسية الصلبة والناعمة دور في تغذية التوتر بين الهواة والدبلوماسيين المحترفين، في لندن وبرلين، لا سيما بعد أن اقتربوا من الرئيس فرانكلين دي روزفلت، بهدف تسليم تلك المعلومات إليه مباشرة، مما مهد الطريق للدعم العسكري الأميركي لبريطانيا العظمى ضد التهديد النازي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لسوء الحظ، لم يكن هذا التسلل طريقاً ذا اتجاه واحد. ففي حين أن عديد من الأعضاء البريطانيين في الزمالة الأنغلو - ألمانية، بل وحتى معظمهم، كانوا من أشد المعجبين بالألمان، وإن لم يتعاطفوا مع النازية، ظل هناك خيط رفيع بين التقدير الثقافي لأدب البلاد وفنها، والأفكار الأكثر غموضاً التي عبرت عنها شخصيات مثل المؤرخ تي بي كونويل إيفانز، الرجل الذي وصفه لويد جورج مازحاً بأنه "نازي" وعضو قيادي في الزمالة. ونظراً إلى أن جهودهم تلخصت في حفلات الشاي في داونينغ ستريت، والمآدب في أفضل الفنادق في لندن، وتتويج جورج السادس في حفلة قهوة وكعك في منزل هتلر الجبلي، واحتفالات الشمبانيا في أولمبياد برلين، وحفلات الاستقبال بعد الظهر في رالي نورمبرغ... إضافة إلى كثير من اللقاءات الحميمية بين النخب في كلتا القوتين، المصحوبة بإطلاق النار في عطلات نهاية الأسبوع في المنازل الريفية الإنجليزية، وجلسات شرب الويسكي في العقارات الألمانية، والاجتماعات السرية في شقق لندن، والهمسات المتبادلة في أروقة السفارات ووزارات الخارجية، فقد أكسبهم التاريخ صبغة التحالف مع النازية.
لكن سبايسر يخلص في كتابه إلى أن معظم أعضاء الرابطة كانوا "من محبي الثقافة الألمانية وليسوا هتلريين بشكل واضح"، في حين يرى برادلي دبليو هارت، مؤلف كتاب "أصدقاء هتلر الأميركيون، أنصار الرايخ الثالث في الولايات المتحدة"، أن تشارلز سبايسر يحكي قصة مخيفة عن تحويل الرجال والنساء المحترمين إلى بيادق في لعبة المكائد الدولية مع نظام مستهجن. ومن خلال سرد مثير، يأخذ القراء من صالونات المنازل الفخمة ونوادي مايفير، إلى التجمعات الجماهيرية وغرف دبلوماسية خلفية في ألمانيا النازية. وقد أوجد كثير من الجواسيس والمحتالين والمفسدين على طول الطريق، ليروي لنا قصة تم اقتطاعها من صفحات الرواية.