لم تكتب النهاية السعيدة لمشروع الموازنة العامة (2022) الحالي في لبنان بعد أن رفعت جلسة مجلس النواب إلى الـ26 من سبتمبر (أيلول) الحالي بسبب غياب النصاب القانوني للجلسة، أي نصف النواب زائد واحد (65 نائباً من أصل 128 نائباً أعضاء).
جاء المشروع متأخراً ففي الشهر التاسع من العام الحالي وصل قانون الموازنة إلى الهيئة العامة لمجلس النواب من أجل المناقشة والتصويت عليه، وبعد يومين من المناقشة كانت السجالات سيدة الموقف، فيما طغت تداعيات الانهيار على ما سواها من مشاريع إصلاحية، وأدى "الدولار الجمركي" إلى تطيير الجلسة بعد الخلاف بين المجلس والحكومة على قيمته التي طالب رئيس الحكومة بأن تكون بـ15 ألف ليرة لبنانية.
الدستور في الثلاجة
حدد الدستور اللبناني مواعيد وأصولاً ثابتة لمناقشة الموازنة العامة. بحسب المادة 83 منه فإن "كل سنة في بدء عقد أكتوبر (تشرين الأول) تقدم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة المقبلة ويقترع على الموازنة بنداً بنداً". وفي المادة 84 فإنه "لا يجوز للمجلس في خلال المناقشة بالميزانية وبمشاريع الاعتمادات الإضافية أو الاستثنائية أن يزيد الاعتمادات المقترحة عليه في مشروع الموازنة أو في بقية المشاريع. غير أنه يمكنه بعد الانتهاء من تلك المناقشة أن يقرر بطريقة الاقتراح قوانين من شأنها إحداث نفقات جديدة". اليوم وفي النصف الثاني من سبتمبر، أي بتأخير 11 شهراً يصل مشروع الموازنة إلى مجلس النواب.
يرى رجال القانون أنه "يضرب مبدأ أساساً تقوم عليه الموازنة" بحسب المتخصصة في القانون المالي سابين الكك التي توضح أن الموازنة هي "مجموع أرقام الواردات والنفقات لسنة من السنوات المقبلة وهو صك تشريعي يحمل طالع المشروع التقديري للأرقام بصورة مسبقة عن العام المالي المقبل، وعليه تلتزم الحكومة بتقديم قطع حساب عن العام السابق قبل عرض الموازنة الجديدة حيث تقدم الحسابات التي صرفتها والواردات الفعلية التي حققتها، وصولاً إلى مصادقة السلطة التشريعية عليها".
تستهجن الكك كيف أن مجلس النواب يناقش حالياً موازنة تقديرية لسنة مضت، وقامت الحكومية بالإنفاق على القاعدة الـ12، بعد أن مضت تسعة أشهر من أصل أشهر السنة، وصلت موازنتها إلى المجلس بعد أن باتت الأرقام واقعية بسبب إتمام عمليات الصرف والجباية، بما يخالف الأرقام التقديرية للموازنة.
تدافع الكك عن طرحها من خلال تقديم مثال يتصل بـ"جباية الرسوم الجمركية على سعر دولار جمركي جديد (14 ألف أكثر أو أقل)، فيما تمت الجباية على أساس دولار 1500 ليرة لبنانية"، من هنا فإنها تعتقد أنه من "الخطورة مناقشة المجلس لموازنة لا تلتزم بالشروط الدستورية، على (قاعدة أفضل الممكن) ما يخالف المنطق". من هنا، تعتبر الكك أنه "كان الأجدر بالحكومة أن تقول إنها مشروع تقديري لعام 2023 احتراماً للمسار القانوني العام، وهو ما تنتهجه الدول والشركات وعدم ارتكاب مخالفة جوهرية للدستور".
الاقتصاد لا يتعافى بالأرقام
تضيف المتخصصة في القانون المالي، أن المقاربة الاقتصادية والإصلاحية غائبة عن المشروع الحالي، وتأسف أن المشروع منفصل عن "خطة التعافي المالي التي وضعتها الحكومة ومن ثم عدلتها"، مشيرة إلى "ضعف" وغياب البنود الاستثمارية عن الموازنة، كما تتطرق إلى تعدد أسعار الصرف، مما يضرب وحدة الموازنة التي تفترض تطبيق معيار واحد ومقياس حسابي واحد، ناهيك بفرض ضرائب بالعملات الأجنبية على بعض السلع، مما يحول دون الوصول إلى رقم واحد في تحديد الواردات في الموازنة.
لجنة المال تتحفظ
أبدت لجنة المال والموازنة النيابية ملاحظاتها قبل إرسالها إلى الهيئة العامة، فاعتبرت أنها وردت خارج المهلة الدستورية المحددة لتقديم مشروع الموازنة إلى المجلس النيابي كما تقضي أحكام المادة 83 من الدستور، كما أن مشروع القانون تضمن "147 مادة موزعة على أربعة فصول، يختص الفصل الأول منها بمواد الموازنة وفقاً لعنوان وروده، في حين وردت في الفصول الثلاثة الأخرى مواد دخيلة على نطاق قانون الموازنة كما حددته المادة الخامسة من قانون المحاسبة العمومية"، فالفصل الأول هو الوحيد المتعلق بالموازنة، و"افتقاره إلى الشمول المكرس دستورياً. فلا القروض أدخلت في الموازنة، ولا نفقات الهيئات والمؤسسات والمجالس التي تعمل لصالح الدولة اقتصر إدخالها في الموازنة على تخصيصها بمساهمة أدرجت في فصل مستقل".
مناقشة فلكلورية
في الربع الأخير من العام المالي يأتي إقرار الموازنة في لبنان، ما دفع النواب إلى شن هجمات شعواء على الحكومة المستقيلة. حملت كلمات النواب طوال يومين من المناقشة تشخيصاً لواقع الانهيار البلاد. وتراوحت بين انتقاد تأخير الموازنة بما يخالف النصوص الدستورية، وصولاً إلى تسليط الضوء على انهيار قطاعات الصحة والكهرباء والتضخم المفرط وتلاشي القيمة الفعلية للأجور وانهيار القطاع العام وغياب الرؤية الإصلاحية. وخلال الجلسة التي خصصها رئيس مجلس النواب نبيه بري لرد الحكومة، تحدث رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي ووزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل.
أرجع ميقاتي غياب الخطط الإصلاحية البنيوية إلى عدم التوافق السياسي، وهو أمر أدى خلال السنوات الماضية بدءاً من 2000 إلى فشل جميع المشاريع الإصلاحية التي تقدمت بها الحكومات. وطالب النواب بإعلاء البعد الوطني على الشعبوي، واضعاً إياهم بين خيار التعطيل أو إقرار الموازنة التي تقدمت بها الحكومة، معبراً عن استعداد حكومته إلى تعديل بعض البنود وزيادة الإنفاق في بعض الأبواب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لاحظ رئيس الحكومة المستقيلة تراجع قيمة الموازنة من 17 مليار دولار في الأعوام السابقة 2018- 2019 إلى مليار دولار في الموازنة الحالية، كما تطرق ميقاتي في كلمته إلى سلسلة وعود بزيادة الإنفاق في باب الجامعة اللبنانية لتأمين استمراريتها، إضافة إلى زيادة تعرفة الكهرباء التي وقعها وزير الطاقة والمالية، وبانتظار توقيع رئيس الجمهورية والحكومة من أجل بدء مشروع استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر، وتأمين التمويل لشراء الفيول للمعامل القائمة من أجل تشغيلها بصورة جزئية.
كما اقترح ميقاتي إقرار زيادات على أجور موظفي القطاع العام لتصل إلى ثلاثة أضعاف الحالية، ووعد بتنظيم سوق الأدوية ومكننته والسير بمشروع وزير الصحة فراس أبيض لإيصال الأدوية لمستحقيها، كاشفاً عن تهريب جزء كبير من الأدوية. وأكد أن رئاسة مجلس الخدمة المدنية قدمت دراسة لوضع القطاع العام، مما يظهر حجم التوظيف والشغور، وقد أرسلت إلى مجلس النواب لاطلاع النواب عليها.
خلال كلمته كشف ميقاتي عن "سرقة تتعرض لها الدولة" يقوم بها بعض التجار، حيث تقدر الزيادة في الاستيراد خلال الفترة بأربعة مليارات دولار، وبحسب رئيس الحكومة "يقوم البعض باستيراد البضائع من الخارج لملء المستودعات استباقاً لرفع الدولار الجمركي، من أجل طرح البضائع بعد إقراره وتحقيق الأرباح على حساب مداخيل الدولة".
وعد الرئيس نجيب ميقاتي بتقديم الموازنة الجديدة لعام 2023، حيث تقوم وزارة المالية بواجبها من أجل الالتزام بالمهل الدستورية وعسى أن يتمكن المجلس من مناقشتها في شهر أكتوبر المقبل.
وزير المالية: انتظروا الإصلاح لاحقاً
أقر وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل أن مناقشة الموازنة متأخرة، وأن أرقامها النظرية لا تنطبق مع الواقع المستجد، وأن "الإيرادات لن تحصل بالكامل ريثما يتم إقرار الإجراءات المتضمنة في الموازنة"، و"اعتماد سعر صرف أدنى من المقترح في الموازنة 20 ألف ليرة لبنانية".
شبه خليل واقع لبنان بما مرت به الدول الكبرى والصناعية بعد كورونا، حيث تقدمت الحاجة إلى الإصلاحات الماكرواقتصادية الكلية، حيث كان الاهتمام بمسائل الطبابة والمعيشة لأن 2022 حمل زيادة في مؤشرات البطالة والتضخم ولبنان "الدولة غير الغنية مثل الدول الصناعية، تتجه إلى العمل على الإصلاحات في الاقتصاد الكلي لأن هناك واجباً للوقوف إلى جانب المرضى والفقراء، إلا أننا في المقابل أصحاب مصادر محدودة، تعجز عن تمويل المشاريع وبناء المصانع وزيادة التوظيف".
توقع الوزير يوسف خليل أن تكون سنة 2023 "سنة رائدة في الإصلاح بالبلاد لناحية الطبابة وتوزيع الثروة ومعالجة التضخم"، كما نوه خليل إلى أن انهيار سعر الصرف، وتعدده كبد الخزانة والمالية العامة خسائر كبيرة على مستوى الإيرادات، التي تراجعت من معدل وسطي 22 إلى 10 في المئة من الناتج المحلي في عام 2021، لافتاً إلى أن "الإيرادات الداخلية تعتبر المصدر الأبرز للدولة بسبب عدم القدرة للجوء إلى الأسواق العالمية للاستدانة بعد التعثر المالي وامتناع لبنان عن دفع الديون المستحقة إبان حكومة حسان دياب".
كما تحدث عن تراجع الإنفاق العام من نحو 30 في المئة خلال عام 2018 إلى 12 في المئة من الناتج المحلي 2021، ملاحظاً أن التراجع 50 في المئة بجميع الأرقام بما فيها الأجور مما انعكس سلباً على إنتاجية الموظفين في القطاع العام وقدرتها على تأمين الخدمات للمواطنين وسوء الخدمات، كما أن الإنفاق الاستثماري بلغ 0.1 في المئة فقط مما يدل على عدم الثقة للاستثمار في لبنان مما حال دون النهوض الاقتصادي أو تحقيق النمو وتأمين فرص عمل كافية. وضع خليل موازنة 2022 ضمن الخطة لمرحلة الطارئة، ريثما تبدأ الإصلاحات الهادفة لتحقيق التعافي المالي على المدى البعيد والمتوسط.