في مقدمة كتابه "قطيعة التاريخ" الصادر حديثاً عن دار برودسايد في أكثر من 500 صفحة موزعة على 59 فصلاً، يكتب جاريد كوشنر مستشار وصهر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب "أن هذا الكتاب يحكي بالدرجة الأساسية تجربتي كمستشار للرئيس، لكنني أستهله بلحظات قليلة مؤثرة من حياتي هي التي صاغتني وهيأتني لهذه الفرصة الاستثنائية لخدمة بلدي".
وفي فصول قصيرة متلاحقة يحكي وقائع من قبيل تعرض أبيه للملاحقة القانونية في قضية تهرب ضريبي، فتكشف هذه الواقعة عن طبيعة الأب والأعمام الذين نشأ مستشار ترمب في كنفهم وكبر على تآمر بعضهم على بعض، وتبين أية بيئة لقنت جاريد دروسه الأولى قبل دراسته القانون، أو تدربه في مكتب نائب نيويورك العام، أو تحوله إلى رجل أعمال متخصص في شراء المباني القديمة وبيعها.
يحكي كوشنر أيضاً كيف بدأ حياته العملية بينما والده في السجن، وكيف التقى إيفانكا ترمب وأحبها، وكيف كانت لقاءتهما الغرامية نزهات حول مباني نيويورك القديمة، فهي لقاءات غرام وقنص لفرص الصفقات على طريقة تذكر بنكتة "كوهين ينعى ولده"، وكيف أن ابنة دونالد ترمب اعتنقت اليهودية من أجل الزواج به، وموقف ترمب الذي "لم يبال بالأمر"، ثم انضمامه إلى حملة ترشح ترمب للرئاسة ثم إدارته.
لا تخلو هذه الفصول من تسلية لمحبي التلصص على حياة المشاهير، أو لمصدقي رواياتهم، لكنها لا تخدم وعدنا لقراء "اندبندنت عربية" في تقريرنا عن الكتاب قبيل صدوره الذي عرض بعض ما رصدته الصحافة الغربية في الكتاب، وخلاله تناول الاتفاقات الإبراهيمية والقضية الفلسطينية، فهذا ما تحاول قراءتنا الراهنة للكتاب أن تستكمله.
المحطة التي شهدت بداية العمل على الموجة الأخيرة من السلام العربي - الإسرائيلي، لم تتمثل في لقاء ترمب بنيامين نتنياهو، وإنما في لقائه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فقد حرصت الدائرة المحيطة بترمب على الترتيب لفشل هذا اللقاء، إذ عرض السفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمن فيديو لعباس يضم "تهديدات للشعب الإسرائيلي"، وقال لترمب "احذر عباس إنه يكلمك عن السلام بالإنجليزية، لكن تابع جيداً ما يقوله بالعربية"، ولما استاء وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي سيقال من منصبه بعد أكثر بقليل من عام على توليه المنصب، ووصف الفيديو بـ"غير الأمين" وقال إن لغضب عباس أسبابه، تدخل المحيطون لتفنيد كلامه، وكلام "رجال أعمال كثيرين ومحترمين" كانوا قالوا لترمب إن عباس "رجل جاد ومخلص في رغبته بالسلام"، فنجم عن هذا الحصار أن فشل لقاء ترمب عباس قبل انعقاده.
كرر عباس بحسب رواية كوشنر ما قاله من قبل في لقائه ترمب بالبيت الأبيض، أي إنه مستعد للتفاوض وواثق في الرئيس ترمب حكماً بين الفلسطينيين وإسرائيل. يقول كوشنر، "لكننا كنا في انتظار أن نسمع مزيداً". والحق أن المرء يتساءل ما المزيد الذي كان منتظراً من الرئيس عباس؟ هل كان ينبغي أن يقدم قبل بدء التفاوض ما ينبغي أن ينتهي إليه التفاوض؟ وفي مقابل ماذا؟ ما الذي عرضه عليه الحكم الأميركي من تنازلات الطرف الآخر؟
لقد أبدى عباس استعداده للتفاوض ورضاه بالوساطة الأميركية، وكان ينبغي أن يكون ذلك كافياً لبداية، لكن ترمب غضب وقال له "إنك تدفع للذين يقتلون الإسرائيليين. هذه سياسة حكومية رسمية. لا بد أن توقف هذا. بوسعنا أن نتوصل إلى اتفاق في ثانيتين. لقد كلفت أفضل رجالي بهذه المهمة، لكنني أريد أن أرى أفعالاً. وأريد أن أراها بسرعة. وأنا لا أصدق أنك تريد التوصل إلى اتفاق". ولما تراجع عباس و"اشتكى من أمن إسرائيل". رد ترمب قائلاً "لحظة، إسرائيل عظيمة في الأمن، وتقول إنك لا تريد أن تحصل منهم على الأمن بالمجان؟ أأنت مجنون؟ لولا إسرائيل، يمكن أن تستولي داعش على أراضيك في 20 دقيقة".
وفي حين قد يخرج قارئ هذا الحوار، إن جاز وصفه بالحوار، بأن عباس مخير بأن يسمع إسرائيل وهو يتحدث مع إسرائيل، أو أن يسمع إسرائيل وهو يتحدث مع أميركا، فإن كوشنر يخرج منه وقد ازداد فهماً بعد مشاهدة "عناد عباس" لسبب "فشل 12 رئيساً أميركيا متعاقباً في التوصل إلى اتفاق سلام"!
وثائق الأمس
لم تكد طائرة ترمب الرئاسية تحط في واشنطن منهية زيارته الرئاسية الخارجية الأولى، حتى شرع كوشنر في العمل على الملف الذي كلفه به حموه: ملف الشرق الأوسط. استعداداً لأداء الدور الموكول إليه، استعرض كوشنر كل وثائق الاتفاقات الموقعة وغيرها والفاشلة ونصوص المبادرات المختلفة.
فهذه الوثائق المؤلفة من الصفحة أو الصفحتين احتوت مفاهيم رفيعة مثقلة بصياغات ملتفة لاجتناب المواضيع الخلافية من قبيل تقسيم القدس وعودة اللاجئين. ومن أشد ما أدهش كوشنر في تلك الوثائق أن الفلسطينيين يقيمون "زعمهم بأحقيتهم في القدس" على إعلانهم إياها عاصمة لدولتهم في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1988 وليس قبل ذلك، فأذهله أن المجتمع الدولي ظل 30 سنة يتقبل زعماً لا يقوم إلا على هذه القاعدة الهشة. في المقابل لا يبحث كوشنر عن أصول المزاعم الإسرائيلية، من ناحية، لأنه على الأرجح يعرفها بكونه يهودياً، ومن ناحية لأن الملف الذي يعمل فيه لا يقتضي استغلال هشاشتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خرج كوشنر من دراسته للوثائق بأن "أحداً لم يقترب قط من حل حقيقي يمكن توقيعه وتنفيذه". وعلى رغم أنه يتفضل على الجهود التي بذلها دبلوماسيون من بلاد عدة طوال قرابة نصف القرن فيصفها بالإخلاص، لكنه في الجملة نفسها يقول إن أولئك الدبلوماسيين "كانوا أكثر تركيزاً على رد الفعل السياسي لمفاوضاتهم منهم على تقديم اقتراحات تفصيلية من شأنها أن تترك تأثيراً حقيقياً". وبدلاً من ذلك النهج "قررت ألا أحاول تحاشي التفاصيل وإنما أن أحتضنها، فطلبت من فريقي إعداد قائمة قضايا شاملة بنقاط الاختلاف بين الجانبين"، بهدف عرض هذه النقاط على قادة الشرق الأوسط للمساعدة في العثور على "حلول ملموسة. كذلك كان نهجنا في المعاملات التجارية، فبدا تطبيق التكنيك نفسه منطقياً".
نتنياهو في بيت كوشنر
يحكي جاريد أن أباه الداعم للقضايا الإسرائيلية استضاف نتنياهو، وهو في زيارة إلى الولايات المتحدة قبل سنين من رئاسة ترمب، ودعاه إلى قضاء أيام في منزله، فاحتل نتنياهو خلال إقامته غرفة نوم جاريد، ذلك كان لقاء قديم بين جاريد ونتنياهو، حين كان الأول طالباً في الثانوي، والثاني مواطناً إسرائيلياً عادياً يؤسس لمستقبله السياسي. والتقى الاثنان مجدداً في يونيو (حزيران) 2021، في مستهل استطلاع كوشنر آراء قادة الشرق الأوسط في قائمة النقاط الإشكالية، طلب نتنياهو إرجاء العمل على الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني برمته لانشغاله ببعض القضايا الداخلية، لكن جاريد نجح في إقناعه بالقبول على مضض، ثم التقى جاريد محمود عباس في السياق نفسه، ولم يكن عباس قد حل ضيفاً على أبيه من قبل. والحق أن كوشنر لا يكاد يضيع فرصة لانتقاد الرئيس عباس، فيظهره في كتابه المدخن الشره الهرم الذي ينتظر من مرافقيه إشعال سجائره، وكأنه "ملك" وليس "ممثلاً لشعب من اللاجئين مطحون تاريخياً".
وطن على الورق
قال عباس في اللقاء إنه مستعد لاتخاذ خطوات لم يتخذها من قبل، وإنه سيكون في غاية المرونة في ما يتعلق بالأرض، وإنه لا يريد من إسرائيل إلا خريطة تحدد الأرض تفصيلياً، وكل شيء بعد هذه الخريطة سيكون يسيراً. وعلى رغم أن عباس أبدى قبوله بوطن على الورق، أصر جاريد أن يستفزه، "سأرجع إلى الرئيس، وهو رجل غير عظيم الصبر، سيسألني إلى أين وصلت في الصفقة، وسأقول له إنني وجدت الإسرائيليين مشاركين وبنائين وإنكم لا تريدون أن تتحلوا بأي قدر من المرونة، فهل تريدني أن أنقل هذه الرسالة؟". فما كان من عباس إلا أن قال إنه مستعد لأن يتخلى للولايات المتحدة عن مفاتيح الضفة الغربية لتديرها هي إن لم ترق لجاريد طريقته في إدارة المحادثات.
قال له جاريد "انظر إذا أرجعت المفاتيح واستقلت، سنعمل مع الأمم المتحدة وحلفائنا المحليين ونضع حكومة موقتة، وسنضخ كثيراً من المال لإقامة البنية الأساسية لكم ولتنمية اقتصادكم. سنخلق أطناناً من فرص العمل ونقيم نظاماً قضائياً نزيهاً ومستقلاً. وفي غضون خمس سنين، سنرسم حدوداً منصفة، وسنجري انتخابات، وسيكون لشعبك قائد جديد وحياة أفضل وبداية جديدة. وأنا يرضيني هذا الطريق الجديد، إن كان هذا ما ستفعله بحق. قد يكون هذا أسهل طريق لنا، وقد يكون أفضل للشعب الفلسطيني".
ويتدنى كوشنر إلى حد القول إن سر "جمود" عباس و"تقاعس" الفلسطينيين عن التعاون إنما سببه أن التوصل إلى اتفاق مع الإسرائيليين سينهي تيار المساعدات التي تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً من المجتمع الدولي.
يقول كوشنر "بدأت أفقد إيماني بأننا يمكن أن نتوصل معه إلى أي شيء"، وفور عودته من الشرق الأوسط قرر أن يضع خطة سلام تفصيلية وأن يستشير فيها الزعماء العرب، فطلب من جيسون غرينبلات مستشار الرئيس ترمب لشؤون إسرائيل الذي وصفته جيروزاليم بوست في عنوان لها أخيراً بأنه "ألطف الرجال في إدارة بايدن"، "الشروع في وضع مسودة" لخطة سلام بين إسرائيل والفلسطينيين تقوم على ثلاثة مبادئ، هي: ضمان وصول جميع الأديان إلى مواقعها المقدسة، وتحقيق حياة أفضل وأثرى للفلسطينيين، وضمان حق إسرائيل في تأمين نفسها. واجتناباً للفشل السابق أو لإبداع فشل جديد تقرر أن تكون الخطة تفصيلية شاملة كل المواضيع الخلافية، وبدأ كوشنر جولة لعرض خطته على الزعماء العرب.
"السلام من أجل الرخاء"
يعنون كوشنر الفصل الـ28 من كتابه "لمن يجد الصبر، أو الماسوخية"، فيتقدم إلى هذا الحد بكلمة واحدة: "وجدتها". لقد بدت الصورة في فبراير (شباط) من عام 2019 لأرشميدس السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترمب معتمة بعد نقل السفارة الأميركية إلى القدس، بما أغضب الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحمله على قول تصريحات اعتبرت معادية للسامية بل ومتعاطفة مع النازية، وبدا نتنياهو في انتظار انتخابات عسيرة، في وقت توصل فيه فريق كوشنر إلى ما عرف بخطة "السلام من أجل الرخاء" التي تعد باستثمار 50 مليار دولار في فلسطين. عرض كوشنر الخطة على ميركل وماكرون فلم يجد لديهما حماساً للخروج عما اعتبره المألوف والقديم و"الفاشل" في السياسة الخارجية، فبدأ في 23 فبراير جولة في الشرق الأوسط.
يكتب كوشنر "ربما السبب في عدم حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني هو أنه صراعان وليس صراعاً واحداً، هناك نزاع على الأرض بين إسرائيل والفلسطينيين، وهناك صراع أوسع بين إسرائيل وجميع البلاد العربية حول الوصول إلى المسجد الأقصى. وعلى مدار عقود جعل تعارض هاتين القضيتين الصراع غير قابل للحل، فلو ركزنا على كل قضية بمفردها ربما يكون التقدم ممكناً".
طلب كوشنر من جيسون غرينبلات "أن يدخل تغييرين على خطة السلام، أولاً عليه أن يعيد صياغة قضية الوصول إلى المسجد الأقصى، فيحيلها من موضوع للتفاوض مع الفلسطينيين إلى مرتكز لاتفاقات سلام أوسع بين إسرائيل والعالم الإسلامي، وثانياً علينا أن ننهي حدود القدس والضفة الغربية بطريقة عقلانية قائمة على الواقع الحديث لا على قرار الأمم المتحدة الصادر سنة 1967. كان كلا المفهومين يضرب بجذوره في حل برغماتي يمكن أن ينهي الصراع ويتجاوز نموذج الماضي الفاشل. ولو رفضته القيادة الفلسطينية، ويكاد يكون مؤكداً أنهم سيرفضونه، سيدرك القادة العرب أن التعنت الفلسطيني يقوض مصالحهم في وقت تتزايد فيه الأخطار والفرص المشتركة".
و"بعد سنتين من بناء الثقة في المنطقة، شجعني أن القادة العرب بدوا متأهبين للتحرك قدماً مع نموذج جديد للشرق الأوسط. ولو أقر رئيس وزراء إسرائيل الخطة بعد انتخابات أبريل (نيسان)، سيكون العرب وإسرائيل أقرب مما كانوا من قبل حيال عديد من القضايا الرئيسة، ومنها الطريق إلى دولة فلسطينية والوصول إلى المسجد الأقصى. ومن شأن هذا أن يزعزع الوضع الراهن ويحرك استراتيجيتنا حديثة الصياغة فيشجع الفلسطينيين على المجيء إلى الطاولة، في الوقت الذي سلكنا فيه مساراً موازياً للسلام بين إسرائيل والبلاد العربية".
تلك إن صدقنا ظاهر هذا السرد، هي لحظة ولادة فكرة الاتفاقات الإبراهيمية، لكن لعل كل ما سبق لم يكن إلا تهيئة وتمهيداً لتقبل هذه الاتفاقات التي تقصر الصراع على جانبه الفلسطيني - الإسرائيلي، لعل فشل التقدم على الصعيد الفلسطيني - الإسرائيلي كان ضرورة واجبة وشرطاً مسبقاً.
هناك في الكتاب بدايات عديدة محتملة لرحلة السلام، لكن من يدري كيف ستكون النهايات؟ كان هذا هو السؤال.
إن الخلاصة التي يريد هذا الكتاب أن نخرج بها في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والاتفاقات الإبراهيمية هي أن التقدم في المسار الفلسطيني - الإسرائيلي تعثر بسبب جمود الفلسطينيين، وأن حكمة شيوخ الزعماء العرب وشجاعة شبابهم هما سبب التقدم نحو الاتفاقات الإبراهيمية، أما إسرائيل فليس لها إلا فضل المرونة والاستجابة، والولايات المتحدة ليست غير وسيط وراع لجهود السلام، أو أن هذه على الأقل هي الخلاصة التي يحاول جاريد كوشنر أن يوصلها لنا.
عنوان الكتاب: Breaking History: A White House Memoir
تأليف: Jared Kushner
الناشر: Broadside Books