تعيش منطقة شمال أفريقيا وتحديداً منطقة اتحاد المغرب العربي، على إيقاع "تحولات سياسية" قد تنذر بحصول تغييرات في موازين القوى، وذلك على خلفية استمرار تأزم العلاقات بين الرباط والجزائر، ثم ميل تونس للجزائر على حساب المغرب.
هذه المياه السياسية المتحركة التي تجري تحت جسر المنطقة المغاربية دفعت المجلة الأميركية المعروفة "فورين بوليسي" إلى الاهتمام بهذا الموضوع في تقرير بقلم سايمون سبيكمان كوردال، بعنوان "هل تتخلى تونس عن المغرب لصالح الجزائر؟".
وإذا كانت المقالة المذكورة اختارت عنواناً على شكل سؤال في شأن مدى اصطفاف تونس إلى جانب الجزائر، غير أنها كانت "أكثر وثوقاً" في لغتها التحليلية عندما أكدت أن "تونس تزداد قرباً من الجزائر على حساب علاقاتها الوثيقة تاريخياً مع المغرب".
تشكل نظام جديد
ترى المجلة الأميركية أن الجزائر بدأت تشعر بصعود نجمها بالنظر إلى اهتمام الدول الأوروبية بغازها الطبيعي جراء تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، كما أن قرار الرئيس التونسي قيس سعيد قبل بضعة أسابيع استقبل زعيم جبهة البوليساريو المطالبة بانفصال الصحراء عن سيادة المغرب، يبدو خطوة لإزعاج الرباط.
ولفت التقرير ذاته إلى أن تونس كانت معروفة على مر سنوات وعقود بحيادها حيال الأزمة بين المغرب والجزائر بسبب ملف الصحراء، بالنظر إلى أن هذه الأخيرة لا تخفي دعم جبهة البوليساريو، مردفاً أن استقبال قيس لزعيم الجبهة إبراهيم غالي وضع هذا الحياد محط شك وتساؤل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر المصدر عينه أن اعتماد تونس على الجزائر بخصوص توريد الطاقة في خضم أزمة اقتصادية واضحة المعالم و"لا حد لها" في تونس، وفي خضم الدعم الصريح من الجزائر لقيس سعيد، جعل "النفوذ المتزايد" للجزائر مكاناً بارزاً في قرارات الرئيس التونسي.
وذهبت المقالة نفسها إلى أن ارتفاع أسعار المحروقات في العالم وأوروبا على وجه الخصوص جعل الجزائر تقفز إلى واجهة الحدث الطاقي والاقتصادي بالنظر إلى أنها تعد ثالث أكبر مصدر للغاز إلى القارة العجوز، ما يفسر اهتمام قوى نافذة في أوروبا وسياسيين في المنطقة بهذه الدولة المغاربية.
وشكلت زيارة الرئيس التونسي إلى الجزائر في شهر يوليو (تموز) الماضي فرصة لإعادة فتح الحدود البرية التي كانت مغلقة جراء الجائحة الصحية، وهو ما أسهم في ترميم أعطاب السياحة التونسية، كما استفادت تونس من الغاز الجزائري بأسعار تفضيلية، ما يفسر "ميل" تونس إلى الجزائر على حساب المغرب.
وبدا صاحب التقرير "غير واثق" من الفترة الزمنية لاستمرار هذا "الاصطفاف التونسي" إلى جانب الجزائر، لكنه خلص إلى أن "قيام تونس بهذا الاصطفاف ينذر ببداية تشكل نظام جديد داخل منطقة شمال أفريقيا واتحاد المغرب العربي".
انقلاب دبلوماسي
أستاذ العلاقات الدولية أحمد نور الدين يرى أن ما جرى من استقبال بروتوكولي لزعيم جبهة البوليساريو يعد "انقلاباً دبلوماسياً" في السياسة الخارجية لتونس، التي حرصت في السابق على إيجاد توازن معين في علاقاتها بين المغرب والجزائر من دون إغضاب أحد الطرفين.
وتساءل نور الدين، في تصريحات لـ"اندبندنت عربية"، عن مدى استمرار هذا "الانقلاب" في الدبلوماسية التونسية والابتعاد عن المغرب، أم تبقى مجرد صفقة مسبقة الدفع ومحددة الأجل"، مضيفاً أن الجواب يكمن في استقراء الوضع السياسي العام والحالة الاقتصادية في تونس.
وبعد أن عدد نور الدين ملامح الأزمة السياسية القائمة في تونس، من قبيل حل الحكومة وإعلان حال الاستثناء، وحل المجلس الأعلى للقضاء، وتجميع السلط التنفيذية والقضائية والتشريعية وغيرها، اعتبر أن الانقلاب الدبلوماسي على المغرب يبدو أمراً منسجماً مع الحكم الفردي الذي يحاول الرئيس التونسي إرساءه".
واستطرد المتحدث بأن الرئيس التونسي اختار الجزائر بفضل الدعم المالي المقدر ما بين 200 إلى 300 مليون دولار كقرض ميسر أو ودائع لدى الخزينة التونسية، ثم تزويد السوق التونسية بالغاز الطبيعي والكهرباء بأسعار تفضيلية، ثم فتح الحدود التي ظلت مغلقة طيلة السنتين الماضيتين، حيث السياح الجزائريون يشكلون حالياً رئة الاقتصاد التونسي، ثم صفقة 20 ألف طن من السكر التي زودت بها الجزائر السوق التونسية على الرغم من أن الجزائر نفسها تستورد السكر من الخارج.
جميع هذه العوامل، يردف نور الدين، حين تتفاعل مع العزلة السياسية للرئيس التونسي حيال الدول الغربية التي تطالبه بالعودة إلى المسار الديمقراطي، وبسبب الانكماش الاقتصادي لتونس الذي تجاوز ثمانية في المئة والعجز المالي الذي تجاوز 11 في المئة، تجعل خيارات قيس سعيد ضيقة.
ووفق المحلل عينه، فإن ابتعاد تونس عن المغرب وتقربها من الجزائر يرتبط باستمرار الانقلاب على المسار الديمقراطي الذي أنتج أزمة سياسية واقتصادية خانقة، وعودة تونس إلى التوازن والحياد الدبلوماسي رهينة بعودة الديمقراطية وزوال الحكم الفردي.
براغماتية تونسية
من جهته، يرى أستاذ العلاقات الدولية بجامعة مراكش، زهير لعميم، أن قضية الصحراء والوحدة الترابية تشكل بالنسبة إلى المغرب محدداً أساسياً يوجه السياسة الخارجية، حيث يظهر النسق السياسي المغربي منفتحاً أو منغلقاً حسب مدى تبني هذه الدول أو مناوءتها للوحدة الترابية للرباط.
وأوضح لعميم في تصريحات لـ"اندبندنت عربية" أن التقارب التونسي الجزائري تجسد في عديد من الملفات، مثل توقيع الاتفاقات وفتح الحدود المشتركة وتنسيق المواقف والاستفادة من الدعم الجزائري من الغاز، والتقارب في وجهات النظر بشأن بعض الملفات والأزمات الإقليمية.
واستطرد المحلل ذاته "هذا الأمر دفع تونس إلى النظر ببراغماتية وواقعية، حيث إن راهن الحال في تونس التي تعيش على إيقاع أزمة اقتصادية واجتماعية وانغلاق الأفق السياسي، جعلت الرئيس قيس سعيد ومحيطه الضيق يصطف إلى جانب الجزائر، وهو ما اعتبرته الرباط مساً بالحياد الإيجابي الذي دأبت عليه تونس في قضية الصحراء.
ولفت لعميم إلى أن "ما أقدمت عليه تونس ليس تغييراً جذرياً يمس في العمق صميم العلاقات الثنائية بين المغرب وتونس، التي اتسمت على مر عقود بكونها علاقات طيبة موسومة بحسن الجوار وتشبيك المصالح الاقتصادية، بالتالي رد الفعل التونسي لا يعد في العمق تغييراً جوهرياً، باعتبار أن الدولة العميقة تقرأ بشكل جيد الرهانات الجيوسياسية والجيوستراتيجية، ولا يمكنها أن تسير إلى أبعد من هذه المواقف التي أثارت لدى المغرب ريبة وشكوكاً.
وأكمل الأستاذ الجامعي بأن "منطق الواقع يفرض على تونس نهج البراغماتية السياسية، فهي تعتبر أنه من مصلحتها أن تكون لها علاقات أقوى مع الجزائر على حساب المغرب، بينما المغرب مطالب بأن لا ينساق وراء التوتر، ويسرع في إيجاد آليات سياسية ومدنية للانخراط في الإسهام في دعم تونس حتى يكون الحضور المغربي مؤثراً في مستوى الدبلوماسية الموازية، وهذا ما قد يعيد العلاقات بين البلدين إلى مجراها الطبيعي.
وخلص لعميم إلى أن الأزمة القائمة سحابة صيف عابرة، لأن العلاقات الثنائية بين المغرب وتونس أكبر وأعمق من ذلك"، مورداً أن "المغرب يحتاج إلى تونس والعكس في منطقة مغاربية تحتاج إلى مزيد من التعاون والتكامل عوض التنابز والتفرقة".