تتناقض تصورات العالم بشأن لبنان ومصيره والعلاجات المطلوبة لإخراجه من أزمته المديدة بين من يريد إخضاعه لوجهة نظر إقليمية محددة وضمه إلى ما يسمى "محور المقاومة" وجعله منصة متقدمة له، وبين من يعود إلى الأساسات فيتمسك بالأسس التي قامت عليها الدولة دستوراً ومؤسسات والتزاماً بالشرعية العربية والدولية، وترجمة ذلك في الانتخابات الرئاسية المقبلة وفي تشكيل حكومة تتصدى للأزمات المتمادية.
بين هاتين النظرتين ينقسم المجتمع اللبناني عمودياً، لكن الممسكين بالسلطة يميلون إلى الوجهة الأولى، فلا يعنيهم من مصير البلد وشعبه سوى تعديل وزاري من هنا وترتيب مكسب مالي أو إداري من هناك.
أفليس مثيراً للغثيان مثلاً أن يصبح تغيير وزير في الجمهورية المنهارة سبباً لعرقلة قيام حكومة تعتبر سلفاً أنها ستتولى السلطة، لأن رئيساً للجمهورية لن يكون متوافراً في الموعد الدستوري المحدد؟
تصبو غالبية اللبنانيين إلى استعادة دولتهم ومؤسساتهم الشرعية، وإلى اختيار شخصيات ملتزمة بالوطن السيد المستقل والإصلاح السياسي والاقتصادية والمالي، ورئيس وحكومة يفرضان سلطة الدولة ولا يخضعان لسلطة الميليشيات والأحزاب المذهبية في لبنان، ويضعان حداً لسقوط البلد المريع على مختلف المستويات.
كانت هذه التطلعات دائماً نقطة ثابتة في المواقف التي تعلنها مجموعة الدول الصديقة والمانحة للبنان، وفي صلب البيانات المنفردة والمشتركة الصادرة عنها.
يوم الأربعاء الماضي، وعندما كان رئيس الوزراء اللبناني يجتمع بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في نيويورك أصدر ممثلو السعودية وأميركا وفرنسا موقفاً موحداً بشأن لبنان يمكن وصفه في الظروف التي يمر بها لبنان بالتاريخي.
الدول الثلاث التي تمثل خلاصة الإجماع الغربي- العربي أكدت ما يتداوله اللبنانيون في يومياتهم، فشددت على "أهمية إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها وفق الدستور اللبناني" في وقت مرت أسابيع على بدء المهلة الدستورية لإجراء الانتخابات من دون أن يدعو رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى اجتماع النواب.
ودعا بيان الدول الثلاث إلى انتخاب رئيس "يمكنه توحيد الشعب اللبناني ويعمل مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية لتجاوز الأزمة الحالية".
عملياً حدد البيان مواصفات الرئيس المفترض، والبعض اعتبره إشارة إلى عمله مع الجهات الإقليمية بمثابة ضوء أخضر للتعامل مع أحد الأسباب الإقليمية الرئيسة للأزمة، أي التدخلات الإيرانية.
لكن إيران كانت على سكة أخرى، فالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي عانى في نيويورك من عزلة دولية خانقة لم يخرقها سوى لقاء ذي معنى مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وجد نفسه في الأمم المتحدة بينما المدن الإيرانية تنتفض ضد القمع إثر مقتل شابة على يد شرطة الأخلاق، وفيما كانت تحفل صحف ومواقع إيرانية بانتقادات للنظام الذي جعل الناس "يسقطون جماعياً تحت خط الفقر"، كما عنونت الصحيفة الإيرانية الاقتصادية "اقتصاد بويا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التقى رئيسي رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي وبدلاً من الاستماع إلى الهموم اللبنانية الفعلية انخرط في خطاب يقوله عادة قادة الحرس الثوري الإيراني.
كان رئيسي أكثر تحفظاً في لقائه مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي بدا نداً له في تبادل الآراء، على الرغم من السطوة الإيرانية في بلاد الرافدين، أما في اللقاء مع المسؤول اللبناني فكان هم الرئيس الإيراني تأكيد هيمنة بلاده على القرار اللبناني، وترجم في كلامه مقولة المرشد الإيراني الذي اعتبر قبل سنوات أن "حزب الله" هو درة تاج التجربة الخمينية.
على عكس البيان الأميركي- السعودي- الفرنسي، لم يشر رئيسي إلى ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان واكتفى بالإشارة إلى ضرورة "تشكيل حكومة قوية ومقتدرة" بوصفها "أمراً استراتيجياً ومهماً للغاية".
لا تفهم هذه الدعوة خارج إطار السعي لتكرار تجربة الفراغ الرئاسي حتى فرض رئيس للجمهورية موال لإيران كما حصل سابقاً، والهدف من كل ذلك هو نفسه مواصلة الإمساك بلبنان ساحة ومنصة للسياسة الإيرانية.
ما قاله الرئيس الإيراني لميقاتي كان خارج الزمان اللبناني وأبعد ما يكون من هموم اللبنانيين الذين قضى العشرات منهم غرقاً في البحر خلال الأيام الأخيرة هرباً من الجوع وهيمنة سلطة المافيا والسلاح.
حرص المسؤول الإيراني على إبلاغ المسؤول اللبناني أن "لبنان هو الخط الأمامي للمقاومة وفي طليعتها"، وقال له إن "لبنان كواجهة للمقاومة له تأثير في المقاومة بأسرها".
لم يرد أي من هذه التعابير في بيان ميقاتي عن اللقاء، لكن وسائل الإعلام الإيرانية تولت تعميم كلام رئيسها من دون أن يثير ذلك أي تعليق من جانب المسؤولين اللبنانيين الممسكين بالسلطة، فهؤلاء يواصلون منذ زمن إدارة سقوط بلادهم باحثين عن حصص ومكاسب تحت هيمنة "مقاومة" تقودها وتحدد إيران مهماتها، فهي بهذا المعنى واجهة البلد في وضعه الراهن وهم واجهتها التي لا غنى عنها إلى أمد ما تحدده حاجة إيران أو انقلاب الموازين الداخلية نتيجة صحوة وطنية طال انتظارها.