إلى وقت قريب لم تكن الأسرة الجزائرية تضع سيناريو طلاق ابنتها وعودتها إلى منزل أهلها في ظرف لا يتعدى السنة موضع الاعتبار، بل كان ذلك من التوقعات المستحيلة حتى إن بعض الأمهات يرفضن زيارة بناتهن المتزوجات حديثاً لتعويدهن على حياتهن الجديدة مع أزواجهن والمحافظة عليها قدر المستطاع.
هذا ما كانت توصى به الأمهات في الأقل قبل عقد خلا، بل كان "الهناء" هو الشرط الذي يلح عليه والدا العروس في جلسات ما قبل الزواج، إذ يقول أهل الزوج "واش طالبين" (ماذا تطلبون؟) فيرد أهل العروس "طالبين الهنا"، أي الاستقرار والسعادة لابنتهم.
هذا الواقع تغير كثيراً، إذ تكشف الأرقام الرسمية عن ارتفاع معدلات الطلاق أو الخلع من عام إلى آخر وأبرزت إحصاءات نشرتها وزارة العدل الجزائرية أخيراً حدوث 44 ألف حالة طلاق وخلع في النصف الأول من عام 2022، أي بواقع 240 حالة يومياً و10 حالات في الساعة، معظمها في الفئة العمرية بين 28 و35 سنة، أي بين المتزوجين حديثاً، علماً أنها بلغت 100 ألف عامي 2020 و2021.
ويقصد بالخلع طلب الزوجة الانفصال في مقابل مادي تدفعه لزوجها أو مقابل التخلي عن كل حقوقها المادية في حين يعرّف بند المادة 48 من قانون الأسرة الجزائري الطلاق بأنه "فك الرابطة الزوجية بالإرادة المنفردة للزوج أو باتفاق الطرفين، أي الزوج والزوجة معاً، وهذا ما يسمى الطلاق بالتراضي ويقع الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج عندما يستخدم الصيغة اللفظية المعبرة عن الطلاق ثلاث مرات متتالية".
وجرى في عام 2005 تعديل قانون الأسرة الصادر في 1984. ومن بين التعديلات التي أدخلت عليه، إلغاء بند الرجل رب الأسرة وتعليق حقه في الطعن أو الاستئناف على أحكام الطلاق والخلع التي كانت موجودة في القانون الأول وهي التعديلات التي يقول قانونيون إنها أسهمت في ارتفاع معدلات الانفصال.
لكن وزير العدل الجزائري عبدالرشيد طبي خلال رده على تساؤلات رفعها نواب البرلمان في شأن قانون الأسرة، قال إن "الخلل ليس في القانون وإنما في المنظومة الأخلاقية للمجتمع التي تؤثر بشكل مباشر في ارتفاع عدد هذه الحالات".
تقاذف المسؤوليات
الأرقام الصادمة عن حالات الطلاق المتنامية تثير عدداً من النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً على صفحات الاستشارات القانونية وتلك التي تعنى بالتطرق إلى مواضيع الأسرة فهناك من يحمل المرأة مسؤولية الطلاق على اعتبار أنها أصبحت شديدة التأثر بالحياة المروج لها على منصات التواصل الاجتماعي وبحثها عن حياة مثالية، مما يسبب ضغوطاً على الزوج الذي يجد نفسه أمام طلبات لا تنتهي في حين تقول فتيات إن الرجال لم يعودوا قوامين ويفتقدون حس المسؤولية تماماً ويجهلون متطلبات المرأة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه التعليقات ربما تحمل أحكاماً معممة في تفسير ما يعرف بـ"الطلاق المبكر"، لأن المشكلة تبدو أعمق بكثير ولها علاقة بجملة من الأسباب بحسب متحدثين إلى "اندبندنت عربية" إذ تربطها الطالبة الجامعية في تخصص علم الاجتماع سارة أحمد بما تعتبره "جهلاً مسبقاً بمؤسسة الزواج وارتفاع توقعات الطرفين، إضافة إلى العجلة في الزواج من أجل تسوية وضعية اجتماعية وكذلك الاهتمام بالعرف على حساب ما تنص عليه تعاليم الدين، كما تتداخل أسباب أخرى منها غياب التوافق الفكري وقيمة المشاركة وعدم تقبل الرجل متطلبات المرأة كالعمل وغيره والخيانة التي أصبحت أسهل مع مواقع التواصل، إضافة إلى مشكلات السكن والضغوط الاقتصادية وتبعاتها كالبطالة وغلاء المعيشة وتدخل الأهل والأقارب في الحياة الشخصية للزوجين".
في أحيان أخرى تقع فتيات ضحية ضغوط يمارسها الأهل من أجل الزواج، خصوصاً إذا بلغت سن الـ30، إذ يدعونها إلى الزواج بأي شخص يطرق الباب ويلومونها على الرفض، مما يؤدي إلى طلاق في نهاية الأمر لأن الاختيار كان تحت الضغوط والقلق وليس بإرادة شخصية.
ويقول الشاب سليم إن "الزواج حياة جديدة تحتاج إلى تضحية وصبر وإذا لم يقتنع كلا الطرفين بذلك فسيقع الطلاق لا محالة". أما السيدة فتيحة (42 سنة)، فتقول إن الأمر ليست له علاقة باستسهال الزواج وسط الشباب لأن هناك تحضيرات مادية ومعنوية كبيرة تقام من طرف عائلتي الزوجين قبل الزفاف، لكن الخلل يكمن في القيم الأسرية التي تنعكس على الفرد فكل طلاق له مشكلة محددة ربما تكون بسيطة وتافهة أحياناً. وتتنوع قصص الطلاق من حال إلى أخرى وهو ما يمكن استخلاصه من جلسات الصلح التي يجريها القضاة للجمع بين الزوجين.
مساهمة مواقع التواصل
من جهتها تقول المرشدة الأسرية فاطمة دلمة إن "النشأة الأسرية اليوم اختلت بسبب مشاركة المواقع الإلكترونية في تغيير القناعات وترسيخ معتقدات جديدة بعيدة من الفطرة والعقيدة والقيم الإسلامية لدى الذكور والإناث"، مؤكدةً أن ذلك أدى إلى "نشأة جيل غير مسؤول وغير مؤهل للقيادة الأسرية".
ولعل اللافت أن الفتيات لم يعدن يكترثن للبيئة الاجتماعية والأسرية عند طلب الطلاق، التي كانت تجعل المرأة تعيش ألماً نفسياً داخلياً ومعاناة لا تنتهي بسبب تلميحات تعتبرها "امرأة ناقصة" فشلت في المحافظة على زوجها، بل على العكس من ذلك أصبحن يدافعن عن خيارهن حتى إن كانت مدة الزواج قصيرة جداً ولا تتعدى الأشهر.
مجلة "إيكونوميست" البريطانية قالت في تقرير حديث لها إن "المطلقات كن في السابق موضع انتقاد، لكنهن اليوم يتحدين التقاليد والأعراف والسلطة الذكورية، سواء في المحكمة أو سرير الزوجية أو لدى رجال الدين".
ووفقاً للتقرير "أصبح الطلاق أمراً شائعاً بشكل متزايد أخيراً في الدول العربية بينما يتراجع في الدول الغربية"، وتضيف المجلة أن "أحد أسباب ارتفاع هذه الأرقام هو تسهيل إجراءات تقديم المرأة طلب الطلاق في عدد من البلدان العربية كمصر والجزائر والأردن والمغرب".
يقول المتخصص الاجتماعي يوسف حنطابلي إن "الأسر أصبحت تعطي المباركة للعلاقات الزوجية التي تتم بطريقة مستقلة بين الزوجين، مما يجعل هذه الأسر بعيدة من ضبط العلاقة في حال الخلافات على عكس العلاقات التقليدية السابقة عندما كانت العائلة تمنع الطلاق عند وقوع الصدامات بين الزوجين".
بحثاً عن حلول
يبحث متخصصون وخبراء عن حلول لتقييد ظاهرة الطلاق التي تشهد تزايداً مستمراً، إذ اقترح "المجلس الإسلامي الأعلى" في الجزائر (أعلى هيئة دينية) أن لا تقتصر جلسات الصلح بين الزوجين في المحكمة على جلسة أو جلستين فقط، بخاصة أن للطلاق مآلات قاسية مثل تفكك الأسرة ووقوع الأطفال ضحيته، إضافة إلى ترهيب الشباب من الزواج في ظل ارتفاع معدلات الانفصال.
من جهة أخرى، يقترح استشاريون في شؤون الأسرة بدل التركيز على لوازم العرس والمعزومين وكراء القاعة والوليمة وما يرافقها من صخب وأمور شكلية، ضرورة تأهيل الشباب المقبلين على الزواج حتى يعوا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، سواء من الجانب الإنساني أو النفسي أو الاجتماعي وحتى الشرعي، إضافة إلى تفعيل دور المؤسسات الدينية للتوعية بالرباط الزوجي وكذلك لعب الأسرة الكبيرة دورها في فض النزاعات والخلافات التي قد تقع بين الأزواج ومحاولة التقريب في ما بينهم.