كشفت حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا عن بعض الحقائق غير المريحة حول مستقبل الطاقة في أوروبا. إحداها هو دحض الافتراض السائد في ألمانيا بأن روسيا ستكون شريكاً موثوقاً به في مصادر الوقود الأحفوري. كما دمرت الحرب ادعاء أوروبا بالقيادة الأخلاقية للجهود المتعلقة بتغير المناخ. في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في غلاسكو في خريف عام 2021، طالب الاتحاد الأوروبي من دون جدوى بأن تلتزم الصين والهند بجدول زمني للتخلص التدريجي من الاعتماد على الفحم. الآن يبدو هذا الطلب نفاقاً تقريباً، لأن دولاً مثل ألمانيا وفي سعي لمواجهة أزمة الطاقة الحالية ما زالت تشغل محطات الطاقة العاملة بالفحم التي كان من المقرر إغلاقها. من خلال القيام بذلك، أثبت هؤلاء القادة أن الفحم لا يزال المصدر الأساسي للطاقة كملاذ أخير لتوليد الكهرباء.
الحقيقة هي أن استهلاك الطاقة في أوروبا غير متوافق مع الموارد التي تتمتع البلدان الأوروبية بوصول آمن إليها. كانت هذه المشكلة سبباً دائماً للصراع في التاريخ الأوروبي ومن المحتمل، كما يبدو، أن يرسم مستقبل القارة أيضاً. في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد في دافوس عام 2020، أعلنت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أن "أوروبا تنوي أن تكون أول قارة خالية من ثاني أكسيد الكربون". حتى لو كان هذا هدفاً معقولاً، فهو لن يغني أوروبا من الاعتماد على الموارد الأجنبية.
الذهب السائل
تعكس العودة إلى الفحم تاريخ أوروبا المليء في البحث على مصادر الطاقة. كان الفحم محورياً في صعود قوة أوروبا الغربية. لولا قطاع التصنيع الذي اعتمد على الفحم، لما أصبحت المملكة المتحدة أبداً القوة الاقتصادية العالمية خلال القرن الـ19. ولكن بمجرد ظهور النفط كمصدر طاقة ذي منفعة تجارية في النصف الثاني من القرن الـ19، واجهت أوروبا الغربية مستقبلاً جيوسياسياً مختلفاً على المدى الطويل. لم يعثر أحد على كثير من النفط في أوروبا في القرن الـ19 خارج رومانيا، إذ بدأ التنقيب في خمسينيات القرن الـ19، وغاليسيا في النمسا-المجر، وهي الآن جزء من أوكرانيا حيث تسارع الإنتاج في العقد الأول من القرن الـ20.
على النقيض من ذلك، تمتعت كل من روسيا والولايات المتحدة بوفرة من النفط. لكن بسبب عدم رغبة أوروبا في الوقوع تحت التأثير الجيوسياسي لهذا الواقع الجيولوجي، استثمرت الحكومات الأوروبية الرئيسة آمالها في الشرق الأوسط. في تسعينيات القرن الـ19، أقامت ألمانيا بقيادة القيصر فيلهلم تحالفاً مع العثمانيين بهدف الحصول على حقوق التنقيب في بلاد ما بين النهرين. فيما كانت الأولوية الأساسية للمملكة المتحدة هي بلاد فارس، التي كان جنوبها منطقة نفوذ بريطانية. في عام 1908 اكتشف رجل أعمال بريطاني حصل على امتياز للتنقيب من الشاه الفارسي النفط في جنوب بلاد فارس. بناء على ما تقدم، أصبح الشرق الأوسط مركزياً في التنافس الجيوسياسي بين القوى الأوروبية خلال الحرب العالمية الأولى.
ومع ذلك بعد انتصار الحلفاء في ذلك الصراع فإن الوجود الإمبراطوري البريطاني والفرنسي في الشرق الأوسط بعد عام 1918 لم يساهم في معالجة حاجاتهما من الطاقة على المدى المتوسط إلى الطويل. لم تقم المملكة المتحدة وفرنسا في أي وقت خلال سنوات ما بين الحربين بتأمين إمدادات كافية من الشرق الأوسط للهرب من الحاجة إلى استيراد النفط من نصف الكرة الغربي، ومن الاتحاد السوفياتي ما بين أواخر العشرينيات حتى منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي. عندما بدأت الحرب العالمية الثانية، كانت المملكة المتحدة وفرنسا تعتمدان مرة أخرى بشكل كبير على واردات النفط من الولايات المتحدة.
كما أدى وجود المملكة المتحدة وفرنسا في الشرق الأوسط إلى تعميق ذعر ألمانيا بشأن تأمين الوصول إلى النفط خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. كان الاستبعاد الألماني من الشرق الأوسط والاعتماد الحاد على الإنتاج الأميركي والسوفياتي يطارد برلين. بعد أن تحولت أولاً إلى الحل التكنولوجي - إنتاج النفط الاصطناعي من الفحم - قامت ألمانيا، تحت القيادة النازية، بمحاولة كارثية لغزو الاتحاد السوفياتي، وهو قرار مدفوع في جزء كبير منه بتعطش ألمانيا للنفط الروسي.
الفحم كان محورياً في صعود قوة أوروبا الغربية
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أصبحت الجغرافيا السياسية للنفط أكثر صرامة بالنسبة إلى دول أوروبا الغربية. نظراً إلى قلقهم حيال تأمين الحاجات المحلية طويلة الأجل، لم يرغب رؤساء الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب في أن تستورد أوروبا الغربية النفط من نصف الكرة الغربي كما فرضوا حظراً فعلياً على استيراد الطاقة السوفياتية من خلال اللجنة التنسيقية لمراقبة الصادرات متعددة الأطراف، التي تأسست بعد خمس سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية. ترك هذا دول أوروبا الغربية معتمدة على العرض من الشرق الأوسط. على رغم أن المملكة المتحدة كانت لا تزال قادرة على ممارسة بعض القوة الإمبريالية في تلك المنطقة الغنية بالنفط، إلا أن الشركات الأميركية كانت في موقع رئيس في السعودية، البلد الذي يوجد فيه أعمق احتياطيات النفط. ساد القلق من تضرر أوروبا الغربية اقتصادياً من خلال اعتمادها المستمر على الإمدادات الخارجية، وتفاقمت من خلال المعرفة بأن الطلب المتزايد على الكهرباء كان يسرع من استهلاك طاقة الوقود الأحفوري. عززت أزمة السويس عام 1956 من هذه المخاوف بإجبار البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين على التخلي عن محاولتهم لانتزاع السيطرة على قناة السويس من مصر، أظهر الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور أن بإمكان واشنطن، وستقوم، بوضع معايير للنطاق المسموح لأية دولة أوروبية غربية في حماية مصالحها النفطية.
التسول للإمدادات
من الصعب التقليل من شأن صدمة "أزمة السويس" وتأثيرها في جميع حكومات أوروبا الغربية. لقد قاموا بخطوتين رئيستين رداً على ذلك، الالتفات مجدداً إلى الاتحاد السوفياتي والتحول نحو الطاقة النووية. العواقب طويلة المدى لكل منهما سترسم شكل مآزق الطاقة الحالية للقارة بأكملها.
أتاح النفط السوفياتي الفرصة لتنويع الإمدادات في الوقت نفسه الذي أصبح فيه الغاز الطبيعي مصدراً ثالثاً مهماً لطاقة الوقود الأحفوري. لم يكن هذا التغيير من الأهمية بقدر الذي كان عليه في ألمانيا الغربية. بحلول نهاية ذلك العقد، تمتعت ثلاث دول في شمال أوروبا - هولندا والنرويج والمملكة المتحدة - باحتمالات وجود فرصة لتأمين إمدادات غاز محلية كبيرة. ألمانيا الغربية لم يكن لديها ذلك. للتعويض، التزم المستشار ويلي برانت في أواخر الستينيات بشراء الغاز السوفياتي المنقول إلى أوروبا باستخدام أنابيب فولاذية ألمانية الصنع. ولدت علاقة جديدة بين ألمانيا الغربية والاتحاد السوفياتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استمرت تجارة الطاقة هذه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. بدا أن الوضع الجيوسياسي بعد عام 1991 يوفر فرصة لتعزيز أمن الطاقة في أوروبا. في روسيا الرأسمالية على ما يبدو، كان لدى الشركات الأوروبية فرصة الدخول في شراكات في مجال إنتاج الطاقة. خلال العقد الأول من هذا القرن، بعد كارثة حرب العراق، أصبح الاعتماد على روسيا أكثر جاذبية من الاعتماد الأكبر على الشرق الأوسط.
ومع ذلك نظراً إلى أن خطوط الأنابيب التي تنقل الغاز الروسي كانت تمر عبر الدول المستقلة على الحدود الغربية لروسيا، وبينها أوكرانيا، فقد أدى تفكك الاتحاد السوفياتي أيضاً إلى خلق نقاط ضعف جديدة في مجال الطاقة لأوروبا. أصبحت موثوقية التوريد خاضعة لأهواء موسكو. مع التوسع الشرقي للاتحاد الأوروبي في عام 2004، أصبح عبور الغاز عبر أوكرانيا أيضاً مصدراً للصراع الجيوسياسي الداخلي داخل أوروبا. وصلت هذه التوترات إلى ذروتها للمرة الأولى بعد ما يسمى بالثورة البرتقالية في أوكرانيا في عام 2005، التي شهدت وصول حكومة في كييف ملتزمة بتأكيد استقلال أوكرانيا عن موسكو. رداً على ذلك، أعاد بوتين التزام روسيا بالنهج الذي بدأ سلفه بوريس يلتسين في صياغته، وهو بناء خطوط أنابيب بحرية تتجاوز أوكرانيا. في مواجهة الاختيار بين العمل لحماية استقلال أوكرانيا والاهتمام باحتياجات ألمانيا من الطاقة، أعطت الحكومة الألمانية الأولوية لمصالحها الخاصة ودعمت أول خط أنابيب نورد ستريم تحت بحر البلطيق من فيبورغ في روسيا، إلى ميناء صناعي بالقرب من غرايفسفالد، ألمانيا. بمجرد تشغيل نورد ستريم 1 اعتباراً من عام 2011، حرمت أوكرانيا من الإيرادات وانخفض حافز الحكومات الأوروبية لدعم أوكرانيا في نزاعات الطاقة مع روسيا.
حرب بوتين أظهرت مدى انكشاف الأمن الغازي لأوروبا
في العقد الثاني من القرن الـ21، واجهت أوروبا أزمة طاقة جديدة. على عكس الولايات المتحدة، كان هناك قليل من الرغبة السياسية في أوروبا الغربية لتجربة التكسير الهيدروليكي. على رغم أن بولندا سعت إلى تنفيذ مشاريع الغاز الصخري، إلا أن الآمال الكبيرة في إمكان تكرار الازدهار الأميركي في شمال وشرق بولندا تبددت. ونتيجة لذلك، وبينما انخفض اعتماد الولايات المتحدة على مصادر الطاقة الأجنبية خلال العقد الماضي، ازدادت التبعية الأوروبية. على رغم أن عديداً من حكومات أوروبا الشرقية رأت أن قدرة الولايات المتحدة على تصدير الغاز الطبيعي المسال بمثابة شريان حياة لإنهاء تبعية الطاقة لروسيا، لم تر حكومات ميركل أي سبب يجعل الشركات الألمانية تتخلى عن الغاز الرخيص عبر الأنابيب المتاح من روسيا. مع انقسام أوروبا، أصبحت أسواق الطاقة الأوروبية ساحة معركة بين شركة غازبروم وشركات الغاز الأميركية.
الآن بعد أن أظهرت حرب بوتين عمق انكشاف الأمن الغازي في أوروبا، لا يمكن للحكومات الأوروبية التخلص من الاعتماد على الغاز الروسي إلا من خلال إعادة النظر في المشكلات التي تذكر بالمشكلات التي واجهتها خلال النصف الأول من القرن الـ20. يمكنهم البحث عن مزيد من الإمدادات من الولايات المتحدة أو من الشرق الأوسط، وتحديداً قطر، ومعها إيران، هذا إذا تمكنوا من إقناع واشنطن بإلغاء العقوبات عنها. بدلاً من ذلك، يمكنهم التعامل مع نسخة جديدة من المسألة العثمانية القديمة لاستخراج الغاز الذي يقع في المياه القبرصية واليونانية ولكن تطالب تركيا بحقوقها منه. على الأرجح، سيتعين عليهم القيام بكل الأمور الثلاثة في عالم أصبح فيه الاعتماد على الطاقة الأجنبية مشكلة آسيوية أيضاً، مما يعني أنه يجب على الدول الأوروبية التنافس مع الصين على كل إمدادات الغاز الطبيعي.
المأزق النووي
فكرة أن الطاقة النووية يمكن أن تخفف جذرياً من مأزق الطاقة في أوروبا كانت اقتراحاً جذاباً منذ مهد أيزنهاور الطريق في عام 1953 في خطابه "الذرة من أجل السلام" لاستخدام المفاعلات النووية كمصدر للحرارة، على رغم تعثر المحادثات لتأسيس نهج أوروبي غربي مشترك للطاقة النووية قبل أزمة السويس، إلا أن الإذلال الأنغلو - فرنسي دفع الحكومة الفرنسية إلى استنتاجات إيجابية.
وكانت النتيجة هي تأسيس المجموعة الأوروبية للطاقة الذرية (يوراتوم) EURATOM، وهي جزء من معاهدة روما الموقعة في عام 1957 التي أنشأت المؤسسات المكونة للمجموعة الاقتصادية الأوروبية التي تحولت بدورها في النهاية إلى الاتحاد الأوروبي. على رغم أن الحكومة الفرنسية اعتبرت "يوراتوم" محاولة طويلة الأجل لتحقيق استقلال الطاقة في أوروبا الغربية، إلا أن ذلك لم يتحقق. بدلاً من أن تعمل "يوراتوم" كمنظمة أوروبية فوق وطنية، تطور استخدام الطاقة النووية على أساس وطني. فرضت هذه المشاريع النووية الوطنية أيضاً تبعيات أميركية جديدة، إذ استوردت فرنسا التكنولوجيا الأميركية واستوردت ألمانيا الغربية جميع اليورانيوم المخصب تقريباً عبر المحيط الأطلسي.
تفاقمت مشكلة الاعتماد على الموارد الخارجية بسبب اختلال توازن القوى في العلاقة الأطلسية. حتى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كان كل اليورانيوم الموجود في العالم تقريباً خارج الاتحاد السوفياتي موجوداً في الكونغو. كانت تلك الدولة مستعمرة بلجيكية، ولكن بفضل اتفاق أبرمته حكومة بلجيكا في المنفى أثناء الحرب، كانت الولايات المتحدة هي التي سيطرت إلى حد كبير على توزيع اليورانيوم. ثم بحلول منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، شهدت الولايات المتحدة طفرة في تعدين اليورانيوم.
سرعان ما سلكت فرنسا وألمانيا الغربية مسارات مختلفة في سياسة الطاقة. بعد الصدمة الأولى لأسعار النفط في عام 1973، التزمت فرنسا بشكل كبير بالطاقة النووية، وهو مسار كان ممكناً بسبب حصولها بالفعل على امتياز الوصول إلى الموارد في مستعمرتها السابقة في النيجر حيث تم اكتشاف اليورانيوم في عام 1965. اليوم، توفر الطاقة النووية حوالى 75 في المئة من الكهرباء في فرنسا، ويشكل حصة أكبر من استهلاك الطاقة الأولية في فرنسا من النفط، وهو مزيج من مصادر طاقة لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم. على رغم أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند كان يهدف إلى استبدال بعض قدرات الطاقة النووية الفرنسية بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح خلال السنوات 2012 إلى 2017، أصبح الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون أكثر تأييداً للطاقة النووية، واعداً في أوائل عام 2022 ببداية "ولادة جديدة" الصناعة النووية الفرنسية.
بحلول نهاية السبعينيات، كانت ألمانيا في مسار مختلف في سياسة الطاقة. وفيما التزمت الحكومة التي يقودها الديمقراطيون الاشتراكيون في بون أيضاً بتوسيع كبير للطاقة النووية بعد صدمة أسعار النفط عام 1973، فإن الطاقة الذرية واجهت مقاومة شعبية كبيرة في ألمانيا الغربية. ومن هذا السخط المدني، ظهر حزب الخضر الألماني. وبسبب خيارات الناخبين الداعمة للبيئة، أصبح الاشتراكيون الديمقراطيون في ألمانيا الغربية أكثر حذراً بشأن ربط النمو بارتفاع استهلاك الطاقة. ثم عززت كارثة تشيرنوبل الرأي المناهض للطاقة النووية. بعد أن دخل حزب الخضر الحكومة للمرة الأولى في عام 1998 في تحالف مع الاشتراكيين الديمقراطيين، أصبحت ألمانيا ملتزمة بالتخلي عن الطاقة النووية والوقود الأحفوري لمصلحة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. على رغم سعي ميركل في البداية لإنقاذ الطاقة النووية، إلا أنها عكست مسارها بعد حادثة فوكوشيما في عام 2011، وتعهدت بإزالة جميع المحطات النووية الألمانية بحلول نهاية عام 2022.
الشمس والرياح
قبل الحرب، بدا أن الأولويات التي وضعتها ألمانيا هي التي تبناها الاتحاد الأوروبي كطريقة للوصول إلى مستقبل خال من الكربون. في عام 2019، عندما أطلق الاتحاد الأوروبي الصفقة الأوروبية الخضراء European Green Deal – وهو ما قارنته رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين بـ"لحظة رجل أوروبا على سطح القمر" - لم يشمل التصنيف الأخضر الأولي [مصادر الطاقة الصديقة للبيئة] للمفوضية الأوروبية الطاقة النووية، لكن اعتماد المسار الألماني وهي الدولة الأوروبية الكبيرة التي عانت تاريخياً أكثر من غيرها مع الطاقة منذ بداية عصر النفط، يعني قبول شكل آخر من التبعية الأجنبية. نظراً إلى أن جميع المعادن الأرضية النادرة التي يحتاج إليها الاتحاد الأوروبي للطاقة الشمسية وطاقة الرياح يتم استيرادها من الصين، يجب أن تكون بكين شريكاً استراتيجياً في تصنيع الطاقة منخفضة الكربون للاتحاد الأوروبي. وهكذا أنفقت ميركل رأسمالاً جيوسياسياً كبيراً في العام الأخير الذي قضته في منصبها في إنشاء صلة رسمية بين نظام الاتحاد الأوروبي لتداول الانبعاثات وقرينه الصيني.
من خلال إجبار الحكومات على التفكير الفوري في إيجاد الحلول لاستبدال الطاقة الكربونية في قطاع الكهرباء بمعزل عن الطاقة النووية، أدت صدمة أسعار الغاز الأوروبية في الخريف الماضي والحرب الروسية إلى قلب أولويات الطاقة لهذه الدول. قبل أسابيع فقط من اندلاع الحرب، أعلنت المفوضية الأوروبية أنها وفي ظروف معينة، ستقوم بإدراج الطاقة النووية ضمن قائمة الطاقة الخضراء. مع إعلان بوتين نيته قطع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا وارتفاع الطلب الآسيوي على الغاز الطبيعي، أصبح الخيار المتوسط المدى للحكومات الأوروبية هو بناء مفاعلات نووية مصغرة جديدة أو الاستمرار في استخدام الفحم إلى ما بعد حال الطوارئ الحالية. ومع ذلك، فإن هذه الخيارات، حتى بشروطها الخاصة، ليست دواء لكل داء. قبل بدء الحرب، كان حوالى 50 بالمئة من واردات الفحم الألمانية من روسيا. في غضون ذلك، يعاني القطاع النووي الفرنسي المتقادم من مشكلات التآكل والصدأ. في الربيع الماضي وأوائل الصيف، كانت نصف المفاعلات في البلاد غير عاملة. في يوليو (تموز)، أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى تقليص الإنتاج النووي بسبب عدم وجود مياه نهرية كافية للتبريد.
ليس أمام الدول الأوروبية سوى خيارات صعبة. لقد انتهى الوهم القائل بأنه على الجانب الآخر من الانتقال للطاقة الخضراء يكمن مستقبل جيوسياسي جديد. حتى لو كان هذا صحيحاً بأي شكل من الأشكال، فلا يمكن لأوروبا عملياً التخلي عن جميع واردات الطاقة الروسية لأن إمدادات الغاز الطبيعي السائل والنفط مقيدة. إذا تمكنت الصين من أن تكون شريكاً ذي انبعاثات كربونية منخفضة، فهي أيضاً منافس أجنبي مستورد للطاقة. كما في بداية القرن الـ20، ستبحث الدول الأوروبية عن مخرج من قيود مواردها المحلية، ليس أقله من خلال البحث عن المعادن في أفريقيا. هذه المرة لا يمكن أن تكون هناك إمبراطوريات، فقط احتساب للفجوة بين استهلاك الطاقة في أوروبا والتوزيع الجغرافي للوسائل اللازمة لإنتاجها.
هيلين تومسون أستاذة في الاقتصاد السياسي بجامعة كامبريدج
مترجم عن فورن أفيرز ، 27 سبتمبر 2022