إذا كانت المدن المغربية تعج بالمقاهي، إذ يقال "يوجد بين كل مقهى ومقهى مقهى"، فإنه ليس بالمألوف كثيراً في هذا البلد أن تجد داخل المقهى كتباً ومثقفين وإعلاميين وأدباء يتجاذبون أطراف النقاش على إيقاع ارتشاف كؤوس الشاي، بعيداً من النمائم والثرثرة ودخان السجائر.
المقاهي الأدبية أو الثقافية، هي مثل باقي المقاهي، غير أن الفرق بينها وبين "المقاهي العادية" أنها تتأنق بوجود زبائن من "نوع خاص"، يحملون هم الكلمة والحرف، وآخرين يكتوون بلوعة العزف والطرب.
في المغرب لا توجد مقاه ثقافية كثيرة، ووفق شبكة المقاهي الثقافية، يوجد حالياً نحو 40 مقهى من هذا الصنف في مدن وجهات المملكة، وكان عددها، سنة 2015، لا يتجاوز خمسة مقاه أدبية وفنية فقط.
خارج السرب
وتحاول المقاهي الثقافية أو الأدبية في المغرب أن "تغرد خارج السرب"، فالمقاهي "الكلاسيكية" عادة ما تقدم المشروبات للزبائن المنشغلين إما بهواتفهم أو سجائرهم أو في أمورهم الخاصة أو حتى المهنية، لكن الثقافية منها تروم تأسيس تجربة جديدة في البلاد.
وفي المقاهي الثقافية أو الأدبية، يضطلع المثقف أو الأديب بدور المنشط داخل هذا الفضاء، يقدم "بضاعته الثقافية أو الأدبية أو حتى الفنية" لرواد المقهى الذين في الأغلب لا يتوفرون على خلفيات ثقافية أو أدبية قوية. وأحياناً يمتلئ "المقهى الأدبي" بأكثر من مثقف ومبدع وكاتب يتحلقون حول طاولات المقهى، ويشرعون في إطلاق مناقشات أدبية وفكرية وثقافية، كما يمكن أن يناقشوا مواضيع اجتماعية من صميم معيشة وهموم المواطن المغربي.
وتحقق المقاهي الثقافية بهذه الطريقة مفهوم الأدب أو الثقافة والإبداع بشتى أصنافه متحولاً من "المركزية" إلى "اللامركزية"، ومن ضيق القاعات المغلقة إلى رحابة المقهى، ومن ندرة "الجمهور النخبوي" إلى كثرة الرواد ووفرة الزبائن.
واشتهر عدد من المقاهي الأدبية والثقافية في المغرب، منها مقهى "باليما" وسط العاصمة الرباط، و"المتفائل" بمدينة تمارة، و"لوسافير بالاص" بمدينة القنيطرة، و"أسمار" بالصويرة، والمقهى الأدبي والثقافي بمدينة آسفي، ومقهى "بابيرس كلوب"، و"كافي تياتر" بالدار البيضاء لصاحبه الممثل الكوميدي "طاليس"، ومقهى "بيت الطرب" بمدينة طنجة، وغيرها.
تحريك عجلة الفعل الثقافي
وفي هذا الصدد قال الكاتب والإعلامي عبده حقي إن المقاهي الثقافية تعد آلية من بين آليات تحريك عجلة الفعل الثقافي، مثل الندوات والتوقيعات والقراءات النقدية واللقاءات مع الأدباء والمفكرين في مؤسسات الدولة أو ضمن إطارات المجتمع المدني. ولفت حقي إلى أن "المقاهي الثقافية قد تعتبر إلى حد ما تمرداً على الصالونات الثقافية الموصدة في الأوساط البرجوازية المخملية، لكونها نزلت بالفعل الثقافي والمثقف من أبراجه العاجية إلى الفضاء العمومي المفتوح على مختلف شرائح المجتمع". وتابع حقي أن "المغرب عرف المقاهي الثقافية منذ القديم في شكلها التقليدي، وكانت تعقد المسامرات لإنشاد القصائد الزجلية وغناء طرب الملحون والقدود الأندلسية وتبادل القفشات السجالية". وأضاف "إذا كانت المقاهي الثقافية في الغرب تعود تاريخياً إلى حركة ثقافية في العاصمة فيينا بالنمسا أدت، منذ القرن الـ 19، إلى ازدهار ثقافي في الفنون والفلسفة، إلا أن المغرب الحديث، سواء خلال حقبة الاستعمار أو الاستقلال، لم يعرف إحداث هذه الفضاءات لمعيقات عدة تتعلق أساساً بتفاقم الأمية وانحسار هامش حرية التعبير في الفضاءات العامة، وتبخيس كل مكون ثقافي غير ذي جدوى في الذهنية السائدة بسبب الصراع التاريخي الجدلي بين المثقف والسلطة".
ووفق الكاتب نفسه، هناك عديد من المقاهي الشهيرة في المدن الكبرى المغربية التي يؤمها المثقفون يومياً فقط لتبادل الأخبار وأخبار "السبق الثقافية والفنية والنميمات الهامشية"، مبرزاً أن "هذه ليست مقاه ثقافية، لأن المقاهي الثقافية الحقيقية تعتبر تحديداً فضاءات عامة لتصريف أنشطة ثقافية حصرية ضمن مواعيد متفق عليها إما طارئة أو ضمن برنامج سنوي".
تحطيم المركزية الثقافية
وأشار عبده حقي إلى أن شبكة المقاهي الثقافية تأسست في المغرب منذ سنة 2015، واتسعت رقعتها الجغرافية في وقت قياسي لتشمل 28 قرية ومدينة و"غالبيتها مدن هامشية تعاني الهشاشة الثقافية والاقتصادية".
وزاد الأديب المغربي "أضفت هذه الظاهرة دينامية متميزة على الفعل الثقافي بمختلف مستوياته، وخصوصاً الأدبية منها، علاوة على تعطش جمهور القراء والمتلقين في هذه المدن الهامشية للاحتكاك عن قرب مع الكاتبات والكتاب وتحطيم هاجس المركزية الثقافية التي تهيمن عليه المدن الكبرى كالدار البيضاء والرباط ومراكش وطنجة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن هل حققت المقاهي الثقافية بالمغرب أهدافها؟ أجاب حقي أن شبكة المقاهي الثقافية حققت بعضاً من أهدافها في إشاعة الحركية الثقافية في أبرز فضاء عمومي يصرف فيه المغاربة وقتهم الثالث في الهدر المجاني للزمن. وقال أيضاً "تبقى هناك أسئلة معلقة بخصوص واقع المجتمع المدني ككل بالمغرب والكوابح التي يعانيها على مستوى احترام البرنامج السنوي وحاجته إلى الدعم المالي وتصريفه في ما سيعود عليه بالتطور والعطاء أكثر".
وسجل الكاتب أن جائحة كورونا عصفت ببرامج شبكة المقاهي الثقافية وأجلت أحلامها لعامين ونيف، لكنها في المقابل عززت من وجودها الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"يوتيوب"، آملاً أن تسترجع هذه الشبكة عافيتها في القريب العاجل لتصير رافعة تنهض بالفعل الثقافي في مقاهي القرى والمدن الهامشية على غرار ما تعرفه المقاهي بالمغرب من حشود في المواعيد الرياضية، خصوصاً كرة القدم.
إيجابيات وعوائق
من جهته قال مؤسس "الصالون الأدبي" الأديب والروائي مصطفى لغتيري إن قيمة المقاهي الثقافية تستمد عموماً من البعد الحضاري الذي تتميز به، باعتبارها وريثة الصالونات الأدبية التي عرفت عبر التاريخ باحتضانها الأدباء والمثقفين عموماً، وبالنقاشات الثقافية في ما بين المثقفين، في جو يطبعه العمق الفكري والدفء الإنساني والطرح التلقائي الذي تمتزج فيه المتعة بالفائدة بعيداً من صرامة كل ما هو رسمي أو أكاديمي.
وتابع لغتيري أن المقاهي الثقافية استطاعت أن تضطلع بدور بارز في جمع الأدباء والمثقفين في أجواء دافئة وحميمية، تختلف عن قاعات المحاضرات الباردة، لتعوضها بأماكن تتميز بطابعها الحيوي المختلف، فتصبح "الجلسات الشللية" مصدراً من مصادر التثقيف، والتداول في قضايا أدبية مهمة، والترويج لجديد الإصدارات الأدبية بطريقة مختلفة.
لكن طريق المقاهي الثقافية ليس مفروشاً بهذا الورد دائماً، فهناك عراقيل وعوائق يجملها لغتيري في كون "الحماس غالباً ما يكون دافعاً للعمل، لكن سرعان ما يخفت، ويبقى شخص أو شخصان فقط يتحملان عبء الاستمرارية، ما يؤدي إلى الإنهاك، والتخلي عن الفكرة في غالب الأحيان، إضافة إلى عدم احتضان هذه التجارب من قبل المؤسسات الرسمية المسؤولة على الثقافة".
أضاف مؤسس "الصالون الأدبي" أن "انفتاح بعض المقاهي الثقافية على الوسط الثقافي بأجياله المتعددة واهتماماته المتشعبة وأجناسه الأدبية غالباً ما يكون محدوداً جداً، فيتكرر الاهتمام بالأسماء نفسها تقريباً، إضافة إلى الاكتفاء ببعض الكفاءات المحلية، من دون القدرة على ربط أواصر التواصل مع الكفاءات الثقافية في بعدها الوطني والعربي والإنساني". واستحضر لغتيري تجربته الخاصة في هذا السياق عندما أسس برفقة أدباء آخرين في العشرية الأولى من الألفية الثالثة "الصالون الأدبي" بالدار البيضاء، وأصبحت له فروع نشطة في مدن مغربية عدة، وكان المقهى مكاناً مفضلاً لإقامة الأنشطة والندوات التي كان يشارك فيها مثقفون مغاربة وعرب.
وقال لغتيري إنه، خلال تلك الفترة، أسهم "الصالون الأدبي" في تحريك المشهد الثقافي، فأصبح المقهى الثقافي محجاً لمعظم الأدباء، يتداولون في قضايا أدبية، وهم يستمتعون بارتشاف فناجين القهوة، فتم استقطاب جمهور جديد للأدب بخاصة من رواد المقاهي.