بعد أن أثار مغني "الراب" المغربي الملقب بـ"طوطو" جدلاً واسعاً على أثر إعلانه تعاطيه المخدرات خلال الندوة الصحافية الخاصة بـ"مهرجان الرباط عاصمة الثقافة الأفريقية" المنظم من قبل وزارة الثقافة المغربية خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، إضافة إلى تلفظه بكلمات نابية خلال حفله في المهرجان نفسه، زادت أحداث الشغب والعنف التي شهدها مهرجان "البولفار" المنظم في مدينة الدار البيضاء في نهاية الشهر نفسه من حدة التساؤلات بالمغرب حول الجدوى من تنظيم المهرجانات التي يكرس جانب منها "الانحلال الأخلاقي"، وتواكب كل دورة لمهرجان "البولفار" الخاص بمختلف أنواع فن "الروك" على مدى سنوات انتقادات حادة بخصوص بعض الظواهر التي يشهدها كحضور "عبدة الشيطان" والقاصرين بألبسة "فاضحة" وقيامهم برقصات غريبة.
نموذج سلوكي
وارتبط جانب كبير من موجة موسيقى الشباب التي ظهرت في المغرب قبل أكثر من عقدين، بالخروج عن القواعد التي أطرت المجال الموسيقي في البلاد منذ الاستقلال، وتجاوز السياقات المجتمعية المحافظة، ومع ظهور مواقع التواصل، أصبح مغنو الموجة الجديدة، وبخاصة بعض مغني "الراب"، يحظون بمتابعة واسعة من قبل الشباب ويتأثرون بشكل كبير بتوجهاتهم.
وأشار الباحث في علم الاجتماع محمد قنفودي إلى أن موسيقى "الراب" أصبحت تحظى في المغرب باهتمام ومتابعة بارزة من قبل الشباب، باعتبارها فناً قادراً على تجاوز التابوهات الاجتماعية والسياسية، ومعبراً عن ثقافة رافضة للقيم المعيارية، وأيضاً منفلتاً عن باقي الأنواع الموسيقية الأخرى، موضحاً أن "موسيقى الراب تشكل ثورة هادئة وناعمة للتعبير عن هموم الشباب والاحتجاج على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، ومحاولة لإعادة تعريف ذواتهم في المجتمع"، مضيفاً أنه "نظراً إلى حضور هذا الفن في المهرجانات الموسيقية، فضلاً عن المحطات الإذاعية ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد صار في قلب النقاشات المجتمعية لما أصبح يشكله اليوم من تأثير واسع في الشباب، بل أيضاً موجهاً لمواقفهم حول الواقع الاجتماعي، فضلاً عن تصدره كأنموذج سلوكي معبر عن واقعهم، الأمر الذي أدى إلى تحول مؤدي هذه الموسيقى (الرابرز) من فنانين ومغنين إلى مؤثرين يحظون بمتابعة واسعة بخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي".
أضاف الباحث المغربي أن "هذا التأثير لا يقف فقط في الجانب الفني، وأصبح (الرابرز) يمثلون قدوة للشباب المهمش والساخط على أوضاعه والمنفلت من الثقافة والقيم الاجتماعية، في محاولة لإعادة إنتاج وتقليد سلوكيات ترتبط بتناول المواد المخدرة وكذلك السكر العلني، والجهر بهذه التصرفات وتبرير ممارساتها، باعتبارها مسلكيات احتجاجية"، موضحاً أن هذا الأمر أدخل جزءاً منهم في نزاعات قانونية مثل "الرابر" "الكناوي" الذي اعتقل أخيراً بفعل السكر العلني، فضلاً عن التجاوز اللفظي الذي قام به "الرابر" "طوطو" على منصة مهرجان موسيقي تنظمه وزارة الثقافة، ومعتبراً أنه من الأكيد أن حرية الفن والموسيقى يجب ضمانها وعدم إخضاعها لأدوات التحكم والتقييد، إلا أن ترك مجال الحرية مفتوح أمام هؤلاء "الرابرز" قد يسهم في إشاعة ثقافة وقيم سلبية مؤثرة ومؤذية للشباب بخاصة القاصرين.
هيئات تشجب
واعترضت هيئات سياسية عدة وبعض جمعيات المجتمع المدني على تصريحات مغني الراب "طوطو" وعلى أحداث الشغب التي شهدها مهرجان "البولفار"، مطالبة بالحد من تكريس التفاهة ومن "سياسة إلهاء المجتمع عن القضايا الأساسية"، واستغرب عبدالله بوانو رئيس فريق حزب "العدالة والتنمية" (المعارض)، علاقة الغناء والفن والثقافة بالكلام البذيء والساقط، وعلاقة التعابير الجديدة في الغناء بالكلام الخادش للحياء، سائلاً ما إذا كانت وزارة الثقافة تريد تشجيع "الراب"، فلماذا "أخذت من القاع ومن الرديء ومن الشاذ" في اختيارها المغنين في "مهرجان الرباط عاصمة الثقافة الأفريقية؟"، ولماذا لم تستدع "مغني راب يغنون للوطن والتراث والثقافة المغربية، والفساد والظلم؟ هؤلاء أيضاً مغاربة ولهم جمهورهم"، أم إنها تريد "نشر نموذج تعاطي المخدرات والتطبيع مع هذه الآفة؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال رئيس الهيئة المغربية لحقوق الإنسان امبارك عثماني إن "الحقل الثقافي بالمغرب ليس رافعة للتنمية ولا نراهن عليه كدينامية للاندماج والتلاقح وتكريس قيم السلام والحرية وقبول الاختلاف والتنوع، طالما أن الثقافة كسياسة رسمية للبلاد لا تخلو من مقاربة أمنية تقوم على إبعاد الناس عن شأنهم اليومي، بلفت انتباههم إلى التفاهة". واستغرب الناشط الحقوقي "استمرار منع الحركات الحقوقية من استعمال الفضاء العام وحرمانها من الاحتجاج السلمي والتظاهر"، موضحاً أن "ذلك المنع لا يقتصر علينا كحقوقيين فقط بل يطال كل الحركات الاحتجاجية والتعبيرات التي تنتقد السياسات العمومية "، مضيفاً أن "السلطة تسمح اليوم باستعمال الفضاء العام وتحرض الناس وتشجعهم على التجمع والتظاهر، وأكثر من ذلك تنتهك القانون وتستخف بأخطار الجريمة والتشجيع العلني على الإدمان". وأوضح عثماني أن منظمته تؤكد أن "الإبداع الإنساني والفن عموماً هو تعبير عن حرية وإرادة الأفراد، وينبغي أن يكون محط احترام وتقدير، وألا يتحول إلى آلية للقفز على قضايا الناس، وحقل لتفريغ المكبوت وتنفيس الضغط، ففي هذه الحال لن يكون هذا الفن هادفاً، بقدر ما هو تعبير عن سياسة ثقافية رسمية مفروضة لتنميط المجتمع وإعادة إنتاج الواقع بدل تغييره، وصرف الأنظار عن القضايا ذات الأولوية".
المسؤولية
في الأثناء، وفي خضم الاتهامات التي وجهت، بشكل عام، إلى الحكومة عما شهدته فعاليات مهرجاني الرباط والدار البيضاء، أوضح محمد المغاري، أحد مؤسسي مهرجان "البولفار"، أن المسؤولية عن أعمال العنف التي شهدها المهرجان يمكن أن يتحمل جانباً منها منظمو المهرجان، وقوات الأمن أيضاً، وأن حيزاً آخر من المسؤولية يتحملها المغنون المشاركون في الحفل، مضيفاً أنه يمكن اعتباطياً تحميل المسؤولية للحكومة والمدرسة والآباء. واعتبر المغاري أن أعمال العنف تلك هي نتاج لتوجه مجتمعي يجب مناقشته والخروج بخلاصات.
وفي رده على الاتهامات التي وجهت إليه عما شهدته فعاليات مهرجان الرباط، نفى وزير الشباب والثقافة والتواصل المغربي مهدي بنسعيد مسؤوليته عن الألفاظ الخادشة للحياء التي استخدمها المغني "طوطو"، موضحاً أن وزارته لا تمارس الرقابة على الفنانين، ومؤكداً رغم ذلك رفضه استخدام هذه التعابير في الفضاء العام.
وفي ما يتعلق بإعلان المغني نفسه استهلاك المخدرات واعتباره الأمر عادياً، أوضح الوزير بنسعيد أن المغني كان بصدد الجواب عن سؤال محدد لأحد الصحافيين، مشيراً إلى أنه لا يمكنه ممارسة الرقابة على أسئلة الصحافيين وأجوبة الفنانين.
توصيات
وأوصى الباحث في علم الاجتماع محمد قنفودي بضرورة تدخل وزارة الثقافة من أجل تقنين فن "الراب"، حتى لا يصير منفلتاً عن بقية الأنواع الموسيقية الأخرى، عبر توفير بطاقات الفنان للمؤدين وضمان التزامهم دفتر تحملات يقضي باحترام قيم المجتمع في الأغاني والظهور العام، إضافة إلى "إعمال المواد القانونية التي تجرم تناول المخدرات والسكر وغيرها، وتطبيقها على المخالفين باعتبارهم مواطنين، لأن تجاوز هذه الممارسات أو غض الطرف عنها يكرس تطبيعاً معها ويدخلها في خانة المباح"، وأوصى الباحث قنفودي أيضاً بضرورة دعم فناني "الراب" الذين يعبرون من خلال موسيقاهم أو سلوكهم عن احترام الخصوصيات الثقافية والقيم المجتمعية، لتصديرهم كنموذج وقدوات للشباب والقاصرين.