دخلت أخيراً "لعبة الكباش الجيوسياسية على الطاقة" بين تركيا وكلّ من قبرص واليونان، منعطفاً خطراً في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط. ففي الوقت الذي منحت فيه نيقوسيا، التي قسّمت منطقتها الاقتصادية الخالصة إلى 13 بلوكا، تراخيص تنقيب وحفر إلى شركات عالمية مثل "إكسون موبيل" الأميركية و"توتال" الفرنسية و"إيني" الإيطالية، تحركت أنقرة مطالبةً بحصتها في استكشاف حقول الغاز في قاع المياه القبرصية، وضاعفت من إجراءاتها في هذا الاتجاه.
"فاتح" و"يافوز"
وفي أقل من 48 ساعة، أرسلت تركيا سفينتي حفر إلى سواحل قبرص، ترافقهما سفينتا استكشاف، متجاهلة تهديد "الاتحاد الأوروبي" بفرض عقوبات عليها. ويحتل الثلثَ الشماليَ من الجزيرة قرابة 30 ألف جندي تركي منذ العام 1974. ومن الواضح أن أنقرة تمنع أي استكشاف للغاز في تلك المنطقة التي يعتبرها المجتمع الدولي خاضعة لسيادة قبرص، الدولة العضو في "الاتحاد الأوروبي". وفي حين لم تبدأ سفينة "يافوز" عملياتها، فإن "فاتح" التي سبقتها مطلع شهر مايو (أيار) باشرت الحفر في مساحة ملاصقة للمنطقة الاقتصادية القبرصية. وهذه المناورة تسببت في ردة فعل غاضبة من رئيس الوزراء اليوناني، آلكسيس تسيبراس، الذي دعا إلى اجتماع استثنائي في وزارة الدفاع وطلب من "المجلس الأوروبي" التدخل.
أنقرة و"الاتحاد"
وكانت تركيا هدّدت دول "الاتحاد الأوروبي" في مذكرة بعثت بها إلى قمتهم قبل نحو أسبوع، بأن "العلاقات اليونانية التركية ومساعي حل مشكلة تقسيم قبرص، ستتدهور إذا تدخّل الاتحاد الأوروبي في قضية المنطقة الخالصة في الجزيرة القبرصية". وتنص المذكرة على أن أعمال الحفر التي تجريها "تتم على الجرف القاري التركي الذي منحته لها الأمم المتحدة في العام 2004". وهذا يعني أن جميع الجزر اليونانية ومعها قبرص ليست لديها مناطق اقتصادية.
الحدود البحرية
الخبير في شؤون النفط، وليد خدّوري، الذي يتابع الملف، أوضح أن "قبرص وقّعت اتفاقات لتحديد منطقتها الاقتصادية الخالصة مع معظم الدول المجاورة لها (مصر ولبنان وإسرائيل)، ما يؤكد حقها القانوني فيها. وقال لـ"اندبندنت عربية" إن "قرار محكمة العدل الأوروبية والاتفاقات البحرية الحدودية مع الدول المجاورة تؤكد على حقها في اكتشاف الثروة الطبيعية في هذه المياه وإنتاجها". وشكّك في أن تكون "الأمم المتحدة قد منحت الجرف القاري لتركيا في العام 2004، وإلا كان من الصعب على الدول المجاورة توقيع اتفاقات الحدود البحرية. وكذلك، ساند الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نيقوسيا. كما أن شركات النفط الكبرى وافقت على العمل في المياه القبرصية، وهي تراجع المسائل القانونية مع الحكومات التي تلزّمها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار خدّوري إلى أن "تركيا اعتبرت أن منطقتها الاقتصادية الخالصة تمتد من حدود القسم الشمالي لقبرص الذي تحتله منذ العام 1974، وهذا أمر مشكوك فيه، إذ إن الأراضي المحتلة لا تشكل جزءاً من حدود الدولة المعنية نفسها. كما أن أنقرة تستخدم ورقة الدفاع عن المصالح الاقتصادية للجالية التركية الموجودة في القسم الشمالي المحتل من قبرص، وضرورة اعتراف الجمهورية القبرصية بتلك المصالح قبل البدء بالاستكشاف والإنتاج، بمعنى تقاسم الريع البترولي مع الجالية التركية الممثلة بجمهورية شمال قبرص التركية التي لا تعترف بها سوى أنقرة نفسها. وقد أوضحت نيقوسيا أن هذا الأمر يجب التوصل إليه ضمن الاتفاق على توحيد الجزيرة وإنهاء الاحتلال".
التزامات يونانية
الاتحاد الأوروبي طلب من أنقرة "التحلّي بضبط النفس واحترام الحقوق السيادية لقبرص والامتناع عن أي عمل من هذا القبيل". وحذّر رئيس الوزراء اليوناني أنقرة التي تخطط للتعامل مع المنطقة الاقتصادية اليونانية، واستهداف جزيرة كاستيلوريزو، داعياً إياها إلى عدم التفكير في ذلك. وقررت حكومته إصدار تصاريح تنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها، من خلال منح "توتال" و"إكسون موبيل" تراخيص خارج جزيرة كريت، على أن يبدأ الحفر هناك في السنة 2022. في غضون ذلك، سيتم تركيز أثينا ونيقوسيا على أعمال الحفر الـ 16 المقبلة المخطط لها في المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية بحلول نهاية السنة للتأكد مما إذا كانت المنطقة تحتوي على كميات من الغاز القابل للاستخراج.
حقل واعد
هذه الخلافات برزت بعد بضعة أشهر من إعلان شركة النفط العملاقة الأميركية "إكسون موبيل" عن العثور على "أحد أكبر حقول الغاز الطبيعي المكتشفة في العامين الأخيرين في المياه القبرصية". وأوضح الخبير النفطي وليد خدّوري أن "التهديدات التركية بعد اكتشاف شركة إكسون موبيل، ليست الأولى من نوعها. فقد سبق لأنقرة أن أنذرت شركة إيني الإيطالية"، وأضاف أن "التهديدات للشركة القريبة جداً من الحدود المصرية، ردّت عليها وزارة الخارجية المصرية برسالة شديدة اللهجة، تؤكد فيها على الحدود البحرية بين مصر وقبرص وتحذّر أنقرة من أي تهديد لهذه الحدود". وذكّر بأنه "منذ بدء جمهورية قبرص منتصف هذا العقد استكشاف منطقتها الاقتصادية الخالصة البحرية في شرق المتوسط، عملت أنقرة على عرقلة العمليات البترولية. وتحاول تهديد الشركات العاملة في المياه القبرصية. وأرسلت طائراتها الحربية على علو منخفض فوق المنصات. ولوّحت بضربها إن لم توقف أعمالها. وحذّرت الشركات بمقاطعتها ووقف مصالحها في تركيا. وقد قاطعت أنقرة بالفعل شركة إيني التي لجأت إلى محكمة العدل الأوروبية وربحت القضية".
تشابك أزمتين
وفي أوائل مايو (أيار) من هذه السنة، فجّرت تركيا الخلاف بإعلانها في رسالة "نافتكس" (خدمة الرسائل البحرية الدولية) عن نيتها إرسال سفينة "فاتح" إلى المنطقة الاقتصادية التي تطالب بها جمهورية قبرص، لبدء أعمال تنقيب عن النفط والغاز. وتطالب أنقرة بوجوب تقاسم الموارد الهيدروكربونية المستخرجة مع القبارصة الأتراك الذين يعيشون في الجزء الشمالي من الجزيرة تحت حماية أنقرة، فيما ترى نيقوسيا أنه "يجب أولاً إيجاد حل لمشكلة قبرص قبل معالجة مسألة التقسيم".
واعتبرت سلطات الجزيرة أن السفينة التركية "تشكل انتهاكاً للقانون الدولي"، وذهب الرئيس نيكوس أناستاسيادس بعيداً في وصف الحدث بأنه "غزو ثانٍ" من تركيا لبلاده، مشيراً إلى تدخل قوات أنقرة في الجزيرة العام 1974، ما أدى إلى تقسيم قبرص. أما الرئيس التركي فدافع عن مواطني "جمهورية شمال قبرص التركية"، وهي دولة غير معترف بها من المجتمع الدولي، وتقع في الجزء الشمالي من الجزيرة، مشيراً إلى ما سمّاها "الحقوق المشروعة لبلاده وللقبارصة الأتراك في موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط التي لا تخضع للمناقشة". هذه التصريحات النارية بدت للمراقبين غريبة بعض الشيء من رئيس دولة غائصة في أزمة سياسية منذ الانتخابات البلدية، وتعاني من ركود اقتصادي للمرة الأولى منذ العام 2009.
مصالح الغرب
الارتفاع المفاجئ للتوتر أدى إلى ردود سريعة من السلطات الأميركية والأوروبية، التي لها أيضاً مصالح في المنطقة. فقبرص العضو في "الاتحاد الأوروبي" وقّعت اتفاقات مع شركات نفط من عدة دول (فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة)، لاستغلال مواردها النفطية والغازية. وحضّت رئيسة الدبلوماسية الأوروبية، فيديريكا موغيريني، تركيا على "ممارسة ضبط النفس واحترام الحقوق السيادية لقبرص والامتناع عن أي عمل غير قانوني قد يضطر الاتحاد إلى الرد عليه بالشكل المناسب وبتضامن تام مع قبرص"، على حدّ تعبيرها. أما واشنطن فأعربت عن "قلق عميق إزاء النيّات التركية"، التي اعتبرتها وزارة الخارجية الأميركية "عملاً استفزازياً للغاية، قد يسبب توتراً في المنطقة"، وطلبت من أنقرة "التوقف فوراً عن هذه الأعمال".
ثروات شرق المتوسط
ما هي أهمية شرق حوض المتوسط بالنسبة إلى آبار الغاز، وهل تعطل التعقيدات الجيوسياسية استخراج الغاز، خصوصاً أن هناك أزمة أخرى، وهي الخلاف الحدودي بين لبنان وإسرائيل؟
يجيب خدّوري بأن "التقديرات الأولية لاحتياطات الغاز والبترول في مياه شرق المتوسط، الصادرة عن إدارة المسح الجيولوجي الأميركية في مارس (آذار) العام 2010، تشير إلى أن حوض ليفانت (مياه بحر غزة، والمناطق المغمورة في إسرائيل وقبرص ولبنان وسوريا)، تقدر ثرواته بنحو مليار برميل من النفط الخام، و122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي"، ويلفت إلى أن "هذه الإحصاءات تعكس نتائج المسح وليس الحفر، ما يعني أنها أرقام مبدئية"، وأضاف أن "حوض ليفانت لا يشمل المياه المصرية حيث توجد الاكتشافات الأكبر حتى الآن".
وأوضح أن ما يميز الاحتياطات الغازية لشرق المتوسط هو موقعها الجغرافي القريب من أوروبا ودول الشرق الأوسط، والمنطقتان متعطشتان للغاز. فأوروبا، من جهة، تحاول تقليص استهلاكها للنفط لأسباب بيئية، وتسعى أيضاً إلى تقليص استيرادها للغاز الروسي. بينما دول المنطقة ذات التعداد السكاني الضخم كمصر وتركيا، الدولة الصناعية المهمة، تفتقر إلى الموارد الهيدروكربونية، وتحتاج الغاز لأسباب صناعية وبيئية.