"رأيناك في المظاهرات وإذا شاهدناك ثانية ستكون هناك مشكلة، هذا هو أول وآخر تحذير"، كانت تلك الرسالة التي وصلت للمحتجين في الأيام الأخيرة عبر أرقام مجهولة، من بين وسائل عدة تسعى من خلالها السلطات الرسمية في إيران لخنق الانتفاضة الشعبية التي تعم البلاد، وتشكل في مسارها أكبر تحد منذ سنوات لرجال الدين الذين يحكمون "الجمهورية الإسلامية"، وذلك مع ارتفاع سقف مطالب المتظاهرين الذين خرجوا رداً على مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني بأحد مراكز الاحتجاز في 16 سبتمبر (أيلول) الماضي، للمطالبة برحيل أعلى هرم السلطة، المرشد الأعلى علي خامنئي.
وعلى عكس الاحتجاجات السابقة التي شهدتها إيران كالمظاهرات ضد تزوير الانتخابات في عام 2009، والخروج على سوء الإدارة الاقتصادية في عام 2017، والاحتجاج ضد ارتفاع أسعار الوقود في عام 2019، يرجح كثيرون أن تكون المظاهرات الحالية التي دخلت أسبوعها الرابع، وتطالب بإلغاء قوانين الحجاب الصارمة وحل شرطة الأخلاق التي تطبق هذه القوانين، فضلاً عن رحيل الحكومة والمرشد الأعلى، أن تحدث "تغيراً" في شكل الداخل الإيراني، لا سيما أن من بين أهم ما يميزها عن سابقاتها، تصدر النساء وطلاب الجامعات المشهد، وكذلك تجاوزها الانقسامات العرقية بين الإيرانيين.
لكن وفيما لا تزال الرواية الرسمية تتمسك بأن ما تشهده البلاد هو "أعمال شغب ومؤامرة من أعداء إيران، بينهم الولايات المتحدة وإسرائيل"، وساعد على تنفيذها "الخونة" من الإيرانيين في الداخل والخارج، تبقى قدرة المتظاهرين على "الصمود"، أمام أدوات القمع الإيرانية "رهان التغيير"، وفق ما تقول صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، وذلك بعد أن قادت الحملة التي تشنها قوات الأمن في البلاد إلى سقوط أكثر من 185 شخصاً وإصابة المئات واعتقال الآلاف، بحسب ما تقول جماعات معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان.
انتفاضة "استثنائية"
على مدار الأسابيع الماضية اتسعت رقعة الاحتجاجات الشعبية المنددة بوفاة أميني (22 عاماً)، وكان لافتاً أنه وللمرة الأولى في تاريخ إيران (بعد الثورة الإسلامية عام 1979 التي أطاحت النظام الملكي واستبدلته بالجمهورية الإسلامية)، يشترك في الاحتجاجات أشخاص من خلفيات اقتصادية مختلفة، حيث خرج المتظاهرون ليس فقط في المناطق التي غالبية سكانها من الطبقة الوسطى والعاملة، بل وفي الأحياء الراقية بالعاصمة طهران وأفقر أجزاء البلاد مثل بلوشستان في جنوب شرقي البلاد أيضاً، كما تشارك في الاحتجاجات مختلف المجموعات العرقية بالبلاد.
وعمت الاحتجاجات شعارات تصدرتها تلك المطالبة بحرية النساء والحرية للإيرانيين، وكان لافتاً ترديد طلاب الجامعات هتاف "آزادي آزادي آزادي" (حرية، حرية، حرية)، ما مثل موقفاً قوياً ضد الأصولية الدينية المتصدرة الحكم، فضلاً عن شعارات سقوط الحكومة و"الموت للديكتاتور" في إشارة للمرشد الأعلى للبلاد خامنئي.
وتقول نوجين شيراغاي الناشطة الإيرانية البريطانية في مجال حقوق المرأة "عندما ماتت مهسا أصبحت حقوق المرأة في المقدمة. لكن حقوق المرأة وحرية المرأة في إيران، تعني الحرية للجميع"، موضحة، وفق ما نقلت عنها هيئة الإذاعة البريطانية، أنه "مع انتشار الاحتجاجات بشكل أكبر واكتسابها الزخم بسرعة، زادت المطالب على نطاق أوسع". وتابعت "جاءت هذه الاحتجاجات في وقت يشعر فيه الجيل الشباب بالإحباط بشكل خاص".
وبحسب تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، فإن الاحتجاجات الحالية في إيران تأتي في وقت محوري وحرج بالنسبة للبلاد، موضحة أن هناك اعتقاداً بين المراقبين أن هذ الجولة من التظاهرات قد تكون أكثر أهمية من أي من سابقاتها في السنوات الأخيرة. ونقلت الصحيفة الأميركية عن الأستاذ المساعد في علم الاجتماع والدراسات الدولية في "بوسطن كوليدج" محمد علي كاديفار قوله "هناك عوامل تميز هذه الاحتجاجات، أبرزها تصدر المرأة للمشهد والدعم الواسع من قبل عدد من الرموز الإيرانية المدنية، فضلاً عن مشاركة طلاب الجامعات وتجاوز المجتمع انقساماته العرقية".
وتابع كاديفار "في حين أن هناك شعوراً بأن هذه الاحتجاجات أكثر حدة من سابقاتها هذا القرن، إلا أن هناك خوفاً من أننا لم نشهد بعد المدى الكامل لحملة القمع العنيفة من قبل الحكومة ضد المتظاهرين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما يقول مراقبون، إن الانتفاضة الشعبية التي تشهدها حالياً إيران لم تكن وليدة شرارة مقتل مهسا أميني وحسب بل هي تعبير عن حالة من الإحباط طالت جيل الشباب الراهن جراء الفساد الممنهج في أوساط النخبة السياسية الإيرانية وتفشي الفقر والبطالة في البلاد مع ارتفاع الأسعار، ونسب التضخم لأكثر من 50 في المئة، والافتقار إلى الحرية الاجتماعية والسياسية، وكلها أمور جعلتهم يشعرون باليأس، اعتبرتها صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية، أنها "أكبر تهديد للجمهورية الإسلامية منذ نشأتها منذ 43 عاما" (تأسست بعد سقوط الشاه عام 1979)، قائلة إن "هذه الانتفاضة قد تكون نشبت بسبب انتهاكات لحقوق المرأة لكنها نتاج عقود من القمع".
وذكرت الصحيفة البريطانية، في تقرير حديث لها، أن النظام الإيراني لم يواجه "تظاهرات بهذا الحجم من الانتشار والتماسك من قبل، فالمتظاهرون ينتمون لفئات مختلفة اقتصادياً واجتماعياً ومن عرقيات مختلفة، إنهم يريدون شيئاً أكبر من الإصلاح السياسي والاقتصادي، إنهم يريدون الحرية وتغيير النظام".
وتنقل الصحيفة عن إيرانيين خرجوا في التظاهرات الدائرة في البلاد، قولهم "إنهم ضُربوا وأطلق عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع ومنهم من كُسرت ذراعه ومع هذا فهم يرفضون الصمت، ويشددون على أنهم لم يروا في حياتهم هذا الحجم من الغضب والكره للحكومة ولقادتها الدينيين".
خصوم جدد للمرة الأولى
وعلى صعيد المشاركة النسائية الواسعة في التظاهرات، وانتشار صور للنساء وهن يخلعن حجابهن في تحد للمؤسسة الدينية وسط دعوات الحشود الغاضبة لإسقاط خامنئي، يشير مراقبون وصحف غربية إلى أن "ثورة النساء ودخول طالبات وطلاب المدارس والجامعات على خط الاحتجاجات يمثل تهديداً هائلاً للسلطة الدينية في إيران".
وذكر تحليل كتبه بوبي غوش في وكالة "بلومبيرغ" أن "نظام حكم رجال الدين في إيران يواجه جمهوراً غير متوقع يتمثل في فتيات المدارس اللاتي يمثلن شكلاً جديداً من أشكال التحدي لنظام يتعامل عادة مع المعارضة من خلال السماح لقواته الأمنية باستخدام التعذيب والقتل لإخماد الاحتجاجات". مضيفاً أن "الاحتجاجات تطورت من الغضب على وفاة أميني إلى المطالبة بإسقاط النظام بأكمله"، مشيراً إلى أن "النساء يواصلن الهيمنة على المظاهرات ولم يعدن يكتفين بمجرد حرق حجابهن".
وبحسب غوش، فإنه "حتى الآن لم يعمد المرشد الإيراني لإرسال عناصره القمعية لمواجهة طالبات المدارس بالنظر إلى خطورة التقاط ما يجري عبر كاميرات الهواتف المحمولة وعرضها للعالم"، معتبراً أن "خطوة مثل هذه قد تستدعي مزيداً من التهديد لحكمه على المستويين الداخلي والخارجي، وأن الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للمرشد هو أن حملة القمع ضد طالبات المدارس قد تؤدي بالنهاية إلى نزول ذويهن إلى الشوارع، وهو ما يعني أنهن مشكلة لا يستطيع خامنئي حلها بسهولة".
وكان لافتاً، السبت الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، ترديد طالبات في جامعة الزهراء بطهران خلال زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي لحرم الجامعة اليوم، شعارات مناهضة له بينها "اغرب عن وجهنا". ونشر حساب "تصوير 1500" على "تويتر" مقطعاً مصوراً قال، إنه لطالبات يهتفن "اغرب عن وجهنا يا رئيسي" و"اغربوا عن وجهنا يا ملالي" بينما كان الرئيس يزور حرم جامعتهن.
في المقابل، خاطب رئيسي الأساتذة والطلاب في الجامعة، حيث ألقى قصيدة وصف فيها "مثيري الشغب" بالذباب. ونقل التلفزيون الرسمي عن رئيسي قوله "يتصورون أنهم يستطيعون تحقيق أهدافهم الشريرة في الجامعات. إنهم لا يدركون أن طلابنا وأساتذتنا يقظون ولن يسمحوا للعدو بتحقيق أهدافه".
وخلال أيام الاحتجاجات، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لطالبات يواجهن المدرسين والمسؤولين في الفصول الدراسية، على الرغم من جهود الحكومة لفرض تعتيم على ما ينشر على الإنترنت. ومن بين الهتافات التي وثقتها بعض المواقع، كان "الموت للديكتاتور"، كما ظهرت فتيات في صورة لاقت انتشاراً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وهن يوجهن إشارة غير لائقة لصورة خامنئي المعلقة على جدار صفهن الدراسي.
تكتيكات قمع المتظاهرين
في الوقت الذي يقول فيه المسؤولون الإيرانيون إن "أحداث الشغب الراهنة ما هي إلا مؤامرة لاستهداف البلاد"، وإن المخربين والممولين من الخارج متهمون بارتكاب أعمال عنف أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 20 من أفراد قوات الأمن، في حين يواجه المحتجون الإيرانيون حملة قمع وعنف غير مسبوقة تشهد عمليات قتل من قبل السلطات الرسمية بشكل غير قانوني، بحسب منظمة العفو الدولية، التي قالت قبل يومين، إن "السلطات الإيرانية استخدمت القوة المميتة عمداً لقمع الاحتجاجات الجارية، وقد حشدت السلطات آليتها القمعية لوأد الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد بلا رحمة".
وفيما يتخوف المراقبون من تصعيد حملة القمع الإيرانية ضد المحتجين، اعتبرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، أن "النظام الإيراني يرتكز في الأساس حتى الوقت الراهن على ثلاثة تكتيكات لوأد الانتفاضة الشعبية، وهي الاستخدام الواضح للذخيرة الحية، والاعتقالات والتهديد بالسجن، وخنق خدمة الإنترنت".
وتوضح الصحيفة الأميركية أنه "في الوقت الذي اتسمت فيه الاحتجاجات المستمرة في إيران بتحدي المؤسسات الرسمية والشعارات الجريئة ضد القيادات الدينية، التجأت قوات الأمن إلى الرد بقوة مميتة". معتبرة أن "رد السلطات على هذه الاحتجاجات متوقعاً، فقد قُتل عشرات الأشخاص واعتقل المئات وهناك انقطاع متكرر للإنترنت لمنع الناس من نشر مقاطع الفيديو والصور عليه".
ورغم القيود الكبيرة التي فرضت على خدمة الإنترنت خلال الأيام الأخيرة بهدف عرقلة محاولات التجمع ومنع انتشار صور الحملة الأمنية، تبنى المتظاهرون تكتيكات جديدة لإيصال رسائلهم. وانتشرت صور، أخيراً، على الإنترنت أظهرت لافتة ضخمة علقت على جسر فوق طريق "مدرس" السريع الذي يمر في وسط طهران كتب عليها "لم نعد نخاف. سنقاتل"، وفي مقطع مصور آخر نشر حديثاً، ظهر رجل وهو يبدل كلمات لافتة حكومية كبيرة كتب عليها "الشرطة في خدمة الشعب" إلى "الشرطة قتلة الشعب".
والإثنين الماضي الثالث من أكتوبر الحالي، زعم المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي أن "الاضطرابات قد حرضت عليها قوى أجنبية وألقى باللوم على المتظاهرين في أعمال العنف". ووصف الإيرانيين المطالبين بالعدالة والحرية بأنهم "بلطجية ولصوص ومبتزون"، معبراً عن دعمه الكامل لقوات الأمن.
وتطلق قوات الأمن النار بشكل عشوائي على المتظاهرين منذ بداية الاحتجاجات، وفقاً لما قالته تاسفير وهي مجموعة إيرانية مراقبة مناهضة للحكومة لصحيفة "واشنطن بوست"، موضحة أنه في 21 سبتمبر (أيلول) الماضي، أمرت وثيقة مسربة من المقر العام للقوات المسلحة الإيرانية قوات الأمن "بمواجهة المحتجين بشدة"، وذهبت وثيقة أخرى، أصدرها قائد القوات المسلحة في محافظة مازندران (شمال البلاد) بعد يومين إلى أبعد من ذلك، حيث أمرت قوات الأمن "بالمواجهة بلا رحمة لمثيري الشغب والمناهضين للثورة"، على حد وصفها.
وفيما اعتبرت صحيفة "الغارديان" البريطانية أن "المواجهات العنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن في إيران تشتد حدتها يوماً بعد يوم، ترى أصوات إصلاحية في الداخل الإيراني أن إصرار السلطات على الموجهة القمعة للتظاهرات يزيد من إشعال الأوضاع ولن يخفف من وتيرتها". معتبرين أن "التعامل السيئ والمذموم من هذا القبيل سيكون سبباً في إثارة حفيظة الناس وغضبهم، وهذا ما يتعارض مع مصالح الأمن القومي للبلاد"، وفق ما نقلت صحيفة "شرق" الإصلاحية الإيرانية. وتعد الانتفاضة الحالية هي أطول حركة احتجاج مستمرة في إيران منذ ثورة 1979.