بينما لا يترك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فرصة للحديث عن علاقات بلاده الإقليمية إلا ويشير إلى جهود لتعزيز تعاون أنقرة مع القاهرة، فإن توقيع وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو مذكرات تفاهم مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية المقالة من جانب البرلمان، تشير إلى عكس ذلك.
وأثار توقيع الاتفاق بين الطرفين انتقاداً مصرياً حاداً أعاد إلى الأذهان الأجواء المشحونة التي سادت بين القاهرة وأنقرة حول تدخلاتهما في ليبيا خلال عامي 2019 و2020، ما دفع إلى التساؤل بشأن تداعيات التحرك التركي على جهود المصالحة بين البلدين، التي يبدو أنها تراوح مكانها منذ عام.
وفي أول أيام أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، قال الرئيس التركي أمام برلمان بلاده خلال بدء السنة التشريعية الجديدة، إن العلاقات مع السعودية والإمارات "تتطور على أساس المصالح المشتركة". وأضاف أن "عملية مماثلة تجري مع مصر".
لكن بعد أقل من 48 ساعة على تلك التصريحات كان وزيرا الدفاع والخارجية التركيان في العاصمة الليبية طرابلس يشهدان توقيع مذكرات تفاهم عدة، أهمها في قطاع النفط والغاز، مع الحكومة المقالة من جانب البرلمان برئاسة عبد الحميد الدبيبة، التي تعتبرها مصر منتهية الولاية ولا تمثل الشرعية.
كما أن مذكرة التفاهم تستند إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، التي وقعها أردوغان مع رئيس حكومة المجلس الرئاسي الليبي آنذاك فايز السراج، ولاقت معارضة مصرية كبيرة وتحركات دبلوماسية مع اليونان وفرنسا تنديداً بذلك الاتفاق الذي وصفوه بغير الشرعي.
بنود الاتفاق
بنود مذكرة التفاهم التي لم تعلن بالكامل رسمياً، كشف عن بعض ملامحها رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية خلال مؤتمر في طرابلس، حيث تنص على تعاون تركيا وليبيا في "تنمية قطاعات الهيدروكربون الخاصة بالطرفين، وفي القضايا القانونية والتنظيمية، وكذا في العمليات التعاقدية وتدريب الموارد البشرية".
إضافة إلى العمل المشترك في "المشاريع المتعلقة باستكشاف وإنتاج ونقل وتكرير وتوزيع وتجارة الهيدروكربونات، وإنتاج وتجارة النفط والغاز والبتروكيماويات والمنتجات البترولية المتنوعة، وكذلك مشاركة الخبرات وتنظيم النشاطات التدريبية على هيكل سوق النفط والغاز الطبيعي، بما في ذلك الدراسات التشريعية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المادة الثالثة فتتعلق بالاستثمار، حيث اتفق الطرفان على العمل المشترك لتعزيز الشراكات العامة والخاصة لإنشاء مشاريع مشتركة، والحفاظ على سرية مخرجات نتائج التعاون.
وفور الإعلان عن توقيع الاتفاق، سارعت مصر واليونان لاتخاذ موقف مشترك، حيث أجرى وزيرا خارجية البلدين اتصالاً هاتفياً أكدا خلاله أن "حكومة الوحدة المنتهية ولايتها في طرابلس لا تملك صلاحية إبرام أي اتفاقات دولية أو مذكرات تفاهم"، بحسب بيان لوزارة الخارجية المصرية.
وشهدت القاهرة مباحثات بين وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره اليوناني نيكوس ديندياس بعد أسبوع من توقيع الاتفاق، وكرر الوزيران في مؤتمر صحافي عبارات الرفض والاستنكار للخطوة التركية مع حكومة الدبيبة.
وقال الوزير اليوناني إن أنقرة "تمارس ضغوطاً" على الأطراف السياسية الليبية، مؤكداً أن بلاده "ستواصل الحفاظ على حقوقها"، كما اعتبر شكري أن حكومة الدبيبة "لا شرعية لها" منذ 24 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
تاريخ الخلاف
وعلى الرغم من أن الخلاف المصري التركي بدأ في أعقاب موقف أنقرة من إطاحة الرئيس المصري السابق محمد مرسي إثر ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013، فإن اتفاق ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني بين تركيا وليبيا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 كان نقطة فاصلة في تأجيج الصراع، خصوصاً أن الاتفاق الأمني اتخذته أنقرة ذريعة لدعم القوات العسكرية التي كانت تدعم المجلس الرئاسي الليبي في مواجهة الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر.
وأعقب ذلك التصريح الشهير للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 20 يونيو 2020 باعتبار خط سرت الجفرة "خطاً أحمر" بالنسبة إلى مصر.
لكن منحنى الخلاف الثنائي انخفض بعد ذلك، حيث أوقفت تركيا عمل بعض المحطات التلفزيونية التي تبث من أراضيها ويديرها داعمون ومنتمون لجماعة الإخوان المسلمين، وأجريت "مباحثات استكشافية" على مستوى وزيري الخارجية في القاهرة مايو (أيار) 2021 وبعدها بأربعة أشهر في أنقرة، لم تسفر سوى عن بيانات مقتضبة حول بحث القضايا الإقليمية.
ومنذ ذلك الحين، أي على مدار أكثر من عام، توقفت اللقاءات الرسمية، وبدا التردد في خطوات البلدين تجاه الآخر، إذ أعلن وزير الخارجية التركي في أبريل (نيسان) الماضي عن زيارة قريبة من نظيره المصري إلى تركيا، لكنها لم تتم.
ولم يرفع أي من البلدين مستوى التمثيل الدبلوماسي عن مرتبة القائم بالأعمال، وهو المستوى المعمول به منذ تبادلت الدولتان سحب السفراء في ديسمبر 2013، وجاءت الاتفاقيات التركية الأخيرة مع حكومة الدبيبة لتضيف مزيداً من التعقيدات لذلك الملف.
تصادم المصالح
الباحث التركي في العلاقات الدولية طه عودة أوغلو قال لـ"اندبندنت عربية" إنه على الرغم من عدم الإعلان عن جميع تفاصيل مذكرة التفاهم مع "حكومة الوحدة الوطنية" حول الغاز والطاقة حتى الآن، لكنها تطرح تساؤلات عديدة عن مستقبل الدور التركي في ليبيا، والأهم عملية تطبيع العلاقات مع مصر التي أعلنت موقفاً صريحاً بالرفض.
وتوقع عودة أوغلو أن يزيد ذلك القضايا الخلافية بين أنقرة والقاهرة، وأن يؤجل ما كان متوقعاً بشأن مصالحة قريبة بين البلدين، خصوصاً بعد أن عاد الرئيس أردوغان مجدداً إلى طرق باب العلاقات مع القاهرة، معتبراً أنها تتطور على أساس المصالح المشتركة.
وأضاف أن هناك رغبة تركية واضحة لتعزيز علاقتها مع حكومة الدبيبة ودعمها، على حساب الحكومة المكلفة من البرلمان برئاسة فتحي باشاغا، ما يزيد من مخاطر تصادم المصالح بين أنقرة والقاهرة في ليبيا، وهذا بدوره ينعكس سلباً على مسار قطار تطبيع العلاقات بين البلدين، حسب تعبير عودة أوغلو.
براغماتية سياسية
بينما يرى أستاذ العلوم السياسية حسن سلامة أن مذكرات التفاهم لا تنهي جهود المصالحة المصرية التركية، مؤكداً لـ"اندبندنت عربية" أنها تمثل "افتئاتاً على حقوق مصر واليونان في البحر المتوسط". كما أنها صادرة عن حكومة ليبية "ليست شرعية".
وبشأن تناقض تصريحات أردوغان مع خطوة التوقيع على اتفاق من المعروف أنه سيثير غضب القاهرة، قال سلامة إن العلاقات الدولية دائماً ما تسير في أكثر من مسار. مشيراً إلى أن مصر وتركيا "لديهما رغبة في المصالحة"، بدليل أن القاهرة تصالحت مع الدوحة على الرغم من عدم تخليها عن عديد من السياسات التي كانت محل انتقاد مصري.
ويعتقد سلامة أن "البراغماتية ستغلب على علاقات القاهرة وأنقرة في وقت لاحق، وتنتصر نقاط التوافق على الخلاف، وقد يفتح ملف ترسيم الحدود مرة أخرى في حال التوصل لمصالحة ثنائية". ملقياً باللوم على الجانب التركي في تعطل جهود المصالحة مع مصر، مقارنة مع تقارب أنقرة مع الرياض وأبو ظبي، واصفاً سياسة أردوغان بـ "الانتهازية"، بالتالي يحاول الحصول على أكبر قدر من المزايا من علاقاته مع مصر، ما يطيل مفاوضات البلدين.
التعاون بدلاً من الصدام
بدوره، اعتبر مساعد وزير الخارجية المصري السابق السفير هاني خلاف أن جهود المصالحة المصرية التركية "ما زال لها مستقبل، ولم تنته عملياً"، وإن كانت مذكرات التفاهم الأخيرة تأتي في اتجاه مغاير لجهود المصالحة، لأن مصر تعتبر أن حكومة الدبيبة "ليس لها صلاحية بعد قرار مجلس النواب بتكليف فتحي باشاغا رئاسة الحكومة".
وأضاف خلاف لـ"اندبندنت عربية" أن مصر وتركيا "يمكنهما العمل بشكل مشترك على تقريب وجهات النظر بين الأطياف الليبية، والتوصل إلى موعد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية واستكمال الوثيقة الدستورية". مشيراً إلى أن مصر لم تهاجم تركيا بشأن رغبتها في فتح مجالات اقتصادية جديدة، لكن الخطاب المصري ركز على عدم شرعية حكومة الدبيبة.
وقال خلاف إن نائب وزير الخارجية المصري حمدي سند لوزا قام بـ"تحضيرات جيدة" لتعديل مسار علاقات البلدين، خلال زيارته إلى أنقرة في المباحثات الاستكشافية العام الماضي، لكن الجانب التركي لم يراع مطالب ورؤية مصر في شأن تعديل تلك العلاقات.
وكانت مصر قد أيدت قراراً لمجلس وزراء خارجية أعضاء جامعة الدول العربية، الشهر الماضي، دان التدخلات التركية في الشؤون العربية و"الانتهاكات التركية المتكررة لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بفرض حظر السلاح على ليبيا"، لكن وزارة الخارجية التركية رفضت القرار، واعتبرته يستند إلى "ادعاءات لا أساس لها من الصحة".