معروف عن إرنست همنغواي معارضته نشر رسائله الخاصة. وقد كتب إلى منفذي وصيته في يونيو (حزيران) عام 1961، "أتمنى ألا يتم نشر أي من الرسائل التي كتبتها خلال حياتي. وبناء على ذلك، أطلب منكم وأعطيكم توجيهاتي بعدم نشر أي من هذه الرسائل أو الموافقة على نشرها".
ومع ذلك، بعد 61 سنة من وفاته، نشرت حتى الآن خمسة مجلدات من رسائله، وهناك مجلدان آخران بالانتظار. كانت جورجيا أوكيف أيضاً ضد نشر رسائلها، ومع هذا، إنها متوفرة للقراءة للجميع.
في مقالة نشرتها مجلة "نيويوركر" عام 2013، تذهب الروائية وكاتبة السيرة الذاتية روكسانا روبنسون إلى أن الكاتب لا يمكن أن يتوقع أي خصوصية، وأن الطريقة الوحيدة لمنع نشر المراسلات هي حرقها - كما فعل سمرست موم. ولكن ماذا عن رسائل البريد الإلكتروني والرسائل الفورية، كيف يمكن للمرء أن يحرقها؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تصدر سيرة ذاتية جديدة غير مصرح بها للطاهي الشهير والكاتب والشخصية التلفزيونية أنتوني بوردين، كتبها الصحافي تشارلز ليرسن بعنوان "فقير في الجنة" Down and Out in Paradise، تعرض بعض الرسائل النصية والبريد الإلكتروني الأخيرة لبوردين، إلى جانب بعض المعلومات التي يبدو أنها تكشف عن أسلوب حياته. يفترض أن يظهر الكتاب عقلية بوردين المعقدة في حياته ولحظاته الأخيرة، لكن أليس من السابق لأوانه الخوض في الجوانب المظلمة؟
في عز حال الإغلاق الأولى التي فرضها وباء كورونا عام 2020، كان هناك مصدر راحة كبير سمح لي بالأمل في نهاية الوباء والتطلع إلى المستقبل بحماس. كان مصدر الراحة ذلك هو إعادة مشاهدة سلسلة الطبخ الوثائقية المتجولة التي صنعها بوردين "أماكن غير معروفة" Parts Unknown.
كان السبب الواضح لذلك هو الهرب من الواقع الذي وفرته السلسلة لي في عالم كان يحظر فيه السفر وتناول الطعام في المطاعم والشرب في الحانات. ولكن كان هناك سبب آخر، أحسست بطريقة ما أن بوردين كان صديقاً.
هذا يبدو كلاماً عاطفياً سخيفاً، وهو كذلك، وقد كنت متردداً وأنا أكتب هذا الكليشيه. ومع ذلك، لا توجد طريقة أخرى للتعبير عن شعوري، وأنا لست بأية حال الشخص الوحيد الذي كان لديه إحساس مماثل. قبل بضعة أيام، التقيت أحد الأصدقاء لتناول مشروب في سوق ليدنهول، وتحدثنا عن بوردين.
كان الانزعاج بادياً عليه، وكأنه يتحدث عن قريب توفى حديثاً، إذ قال "عندما مات، كانت صدمتي كبيرة... لقد كان دائماً شديد الانفتاح حيال سلامته العقلية ومعاناته مع الإدمان، وقد ساعدني ذلك كثيراً في الصعيد الشخصي".
غالباً ما تتكرر قصص مشابهة حين أتطرق إلى بوردين. أخبرني صديق آخر، وهو طاه، أنه عندما انتحر بوردين، كانت تلك المرة الوحيدة التي يبكي فيها على الإطلاق على وفاة أحد المشاهير.
كان هذا سحر بوردين، الذي جعل الجميع يشعرون وكأنهم يعرفونه، حتى لو لم يعرفوه حقاً أو لم يزوروا أبداً البلد نفسه الذي كان موجوداً فيه. ربما بسبب خلفيته كعامل غسل الصحون وطباخ، بدا وكأن هناك رابطاً بينه وبين "أي شخص"، إنه يظهر الارتياح نفسه سواء كان يجلس مع بعض اللاجئين وهم يتناولون أطعمة شعبية، أو يحتسي الجعة مع الرئيس أوباما في فيتنام.
الحلقة المفضلة لدي من "أماكن غير معروفة" هي التي ذهب فيها إلى غرناطة بإسبانيا. بالنسبة إلي، تلخص هذه الحلقة العرض وصاحبه بشكل مثالي. يقدم لنا بوردين هنا المصور السينمائي وصديقه العتيق زاك زامبوني. انتقل زامبوني إلى غرناطة ليكون مع شريكة حياته الأندلسية، وهو حلم يعترف بوردين أنه كان يراوده دائماً - هجر أميركا من أجل "أوروبا القديمة".
نشاهد بوردين وزاك وشريكته يتجولون في الشوارع الصاخبة بين حانات التاباس ويطلبون الجعة ويأكلون اللحم المقدد والقريدس ويضحكون ويدردشون. يبدو بوردين سعيداً حقاً بينما يعترف بأنه يحسد صديقه.
في الحلقة ذاتها، يستكشف بوردين أيضاً مصارعة الثيران. يقول إنه سيكون سعيداً إذا ألغيت "غداً"، لكنها شيء لا بد للمرء من مشاهدته ولو بنظرة خاطفة عند زيارة بعض المناطق في إسبانيا. هذا عنصر آخر من شخصية بوردين الذي يوضح سبب كونه محبوباً جداً، وهو مهارة غير موجودة غالباً هذه الأيام. لدى بوردين رأيه الخاص في مصارعة الثيران، لكنه مستعد لتقاسم الخبز والملح مع أولئك الذين يعتبرونها فناً. كان فضوله شديداً ونادراً ما يصدر الأحكام على الآخرين. كان يبدو أنه يقول رأيه بصراحة دائماً، لكنه كان أيضاً على استعداد للاستماع للرأي الآخر.
لكن أفضل المشاهد برأيي هي عندما يحضر بوردين وجبات عائلية. في غرناطة، يجلس مع زاك وشريكته ووالديها وإخوتها في منزلهم. يشربون النبيذ والجعة ويضحكون ويأكلون حول المائدة، ويقول بوردين في التعليق الصوتي "عندما يحين موعد وفاتي، أريد فعلاً أن أموت وأنا على مائدة مثل هذه".
أنهى أنتوني بوردين حياته بنفسه قبل أربع سنوات في الثامن من يونيو (حزيران) عام 2018. كان يتحدث بصراحة دائماً عن معاناته مع سلامته العقلية. عندما كان شاباً، كان مدمناً على الهيروين. لقد تغلب على ذلك بالامتناع تماماً بين ليلة وضحاها. قال في إحدى الحلقات إنه نظر ذات يوم في المرآة ورأى شخصاً يستحق الإنقاذ. لكن يبدو أن شخصيته كانت دائماً مهووسة. إذا لم يكن هوسه هو الهيروين، فإنه الجوجيتسو، أو البرنامج نفسه، أو في النهاية شريكة حياته، الممثلة والمخرجة آسيا أرجنتو.
بوردين محبوب على نطاق واسع، فلا عجب أن كتاباً مثل هذا أنجز بهذه السرعة بعد وفاته. ولكنه لم يغضب بعض أصدقائه وعائلته فقط، ويبدو أن القليل منهم له علاقة بالكتاب، لكن شقيق بوردين وصف الكتاب بأنه "غير واقعي بشكل مؤلم وتشهيري". ومع ذلك، في رسالة بريد إلكتروني أرسلها ليرسن الأسبوع الماضي إلى صحيفة "ذا تايمز"، قال إن أفراد عائلة بوردين وأصدقاءه الآخرين الذين اطلعوا على الكتاب قبل نشره "أكدوا أن تناولي لديناميكية عائلة بوردين دقيق".
هناك أيضاً السؤال عما إذا كنا بحاجة إلى الخوض في أشد لحظات بوردين خصوصية. ألم يطلعنا بنفسه على ما يكفي من ضعفه؟ ألا يجب أن نتذكره بالبهجة التي بعثها فينا والأشياء التي ابتكرها والشخص الذي كان عليه حقاً؟
هل هناك على الإطلاق وقت مناسب لقراءة المراسلات الخاصة لفنان ما؟
ربما لن نتمكن أبداً من معرفة ما إذا كان بوردين يريد نشر مراسلاته أم لا. لكن روبنسون يكتب أن هناك عدداً قليلاً من الأسباب التي قد تدفع الفنان لمنع الاطلاع على رسائله الخاصة، لكن أحدها هو التأثير الذي يمكن أن تحدثه في الأشخاص الذين ما زالوا على قيد الحياة.
بالاطلاع على الرسائل الأخيرة التي تبادلها بوردين مع آسيا أرجنتو، التي تقول "نيويورك تايمز" إنها مستخدمة في بداية الكتاب، التي لن أذكرها هنا، هل يمكننا إلقاء اللوم على أرجنتو؟
في وثائقي "المرتحل" Roadrunner الصادر عام 2021 عن بوردين، والذي كان بحد ذاته مثيراً للجدل - تمت تغطية العلاقة المضطربة بينه وبين أرجنتو بالتفصيل نوعاً ما. يظهر الفيلم أثر ذلك في بوردين والتأثيرات السلبية بعض الأحيان في برنامجه والعاملين فيه. بدت العلاقة متوترة وفق معظم الشهادات، لكن كما يقول مايكل ستيد، مخرج "أماكن غير معروفة"، "توني قتل نفسه، توني فعل ذلك". ربما علينا أن نكون حذرين عند إلقاء اللوم.
ما زالت أرجنتو على قيد الحياة، ولسنا بحاجة إلى الخوض في علاقتهما الخاصة الآن. لقد كان برودين بالفعل يتحدث بأريحية مع القراء والمشاهدين، وهناك للتو عديد من الكتب والأفلام الوثائقية عنه بعد أربع سنوات فقط من وفاته، أتساءل عند أي حد يعتبر هذا اعتداء بحتاً على خصوصيته؟
يوماً ما في المستقبل، قد تضعف هذه الحجج مع الوقت. سيرغب الناس في معرفة اللحظات الأخيرة من حياة بوردين، العيوب وكل شيء. لدينا رغبة شديدة في معرفة هذا الرجل المركب الذي ابتكر مثل هذه الأشياء الرائعة، وجلب كثيراً من البهجة، والقادر على سؤال رئيس الولايات المتحدة عن عدد المرات التي يتسلل فيها للخروج لتناول الجعة، وفي حلقة أخرى يذبح خنزيراً في بورنيو مع مجموعة من السكان الأصليين المحليين أو يقضي وقتاً مع الكاتب والصحافي إيه إيه جيل أو الطاهية الشهيرة نايجلا لوسن أو زعيم المعارضة الروسية.
حتى يأتي ذلك اليوم، لن أقرأ هذا الكتاب. في الوقت الحالي، اخترت تذكر بوردين جالساً على طاولة بلاستيكية صغيرة في فيتنام يتناول طبقاً من المعكرونة وكأساً من الجعة، ويرسم ابتسامة رضا على وجهه.
© The Independent