يعرف الأميركيون بتعاطيهم مع الأمور بشيء من اللامبالاة والتهور ويعود ذلك غالباً إلى فرط حسهم الإبداعي وديناميتهم ورفضهم الوقوف على الأطلال. لكن في العقدين الأخيرين تمحور تركيز هذه النزعة الأميركية اللامبالية على الشرق الأوسط، تلك المنطقة من العالم التي تنبض مخيلة الغرب بأوهامها، لكن واقعها يتيح هوامش خطأ ليست كبيرة. فكانت النتيجة أن تتالت الكوارث التي وقعت على رأس شعوب المنطقة من جهة وعلى الهالة الأميركية من جهة أخرى. وكان آخرها خطأ جديد وقع في أروقة صنع السياسات في واشنطن هذا الأسبوع نتيجة الغرور والأوهام والكلام الفارغ ورفض الإقرار بالواقع.
الثلاثاء الماضي، أعلن متحدث البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي جون كيربي أن الرئيس جو بايدن سيقوم بإعادة تقييم العلاقة مع السعودية على أثر إعلان "أوبك+" تخفيض إنتاج النفط الأسبوع الماضي وكان سبق حديث كيربي إعلان للسيناتور روبرت مينينديز قال فيه إن السعودية تسهم في "تمويل حرب بوتين" من خلال "أوبك+"، مضيفاً "بصفتي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، لن أعطي الضوء الأخضر لأي تعاون مع الرياض قبل أن تعيد السعودية تقييم موقفها تجاه الحرب في أوكرانيا".
أما أنا بصفتي سعودياً يحب الولايات المتحدة ويؤمن إيماناً عميقاً بحاجة بلدينا لبعضهما بعضاً، فلا يسعني توصيف مفهوم "إعادة التقييم" المعاصر هذا سوى بالأمر الفظيع.
فإدارة أوباما هي التي أعطت فلاديمير بوتين موطئ قدم في شرق المتوسط وروجت خطوتها هذه لمواطنيها بأنها خطوة رامية إلى "تخفيف التصعيد" في الحرب الأهلية السورية. وأمام السياسة التي اتبعها البيت الأبيض خلال العقد الماضي التي قضت بمغازلة بوتين وتقديم جزيرة القرم ومرافئ المياه الدافئة في سوريا له مقابل إنقاذ إيران من النيران المشتعلة التي تلاحقها، لم يكن أمام حلفاء الولايات المتحدة مثل السعودية ودول الخليج وإسرائيل سوى أن يتماشوا مع هذا الواقع. ففي الشهر الماضي حين قصفت مسيّرات وصواريخ إيرانية يشغلها الجيش الروسي مدينة كييف، استخدمت الرياض قوتها الدبلوماسية لتحرير أسرى الحرب الأميركيين والبريطانيين من سجون بوتين.
لقد حملتنا أميركا وزر الواقع في بلد مجاور تسيطر عليه مجموعات إيرانية والقوات الجوية الروسية. والأسوأ من ذلك هو أن إدارة بايدن أدخلت عشرات المليارات إلى الصناديق الإيرانية بموجب الاتفاق النووي مع طهران التي استخدمت هذا التدفق من الدولارات لتدمير العراق وتحطيم سوريا وزرع الفوضى في لبنان، ناهيك عن تهديد الأراضي السعودية من اليمن، حيث أصبحت الهجمات الصاروخية الإيرانية على المرافق النفطية السعودية شبه روتينية.
وفي العام الماضي، رداً على استهداف البنية التحتية في السعودية بوابل من الصواريخ، ما كان من إدارة بايدن إلا أن سحبت بطاريات الصواريخ الدفاعية خاصتها من الرياض.
على مدار سبع سنوات شاهدت الحكومة السعودية الفظائع التي ارتكبها أو أسهم في ارتكابها الجيش الروسي في سوريا ضد مدنيين عزل، بما في ذلك باستخدام الأسلحة الكيماوية، ولذلك لم تتردد في استنكار الاجتياح الروسي لأوكرانيا. وعلى عكس كثيرين في الغرب ممن توقعوا حرباً قصيرة وسهلة، فهمت الرياض وكذلك إسرائيل قدرات بوتين الفعلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع ذلك لم تأت أي من جهودنا قط على حساب أميركا حتى حين اجتمعت دول كانت قد تحملت عبء التجارب الأميركية في جوارها على مدى عقدين من الزمن بهدف تحقيق مستويات غير مسبوقة من التطبيع السياسي والاقتصادي، بل على العكس، فقد سعينا دوماً إلى تقدير الدور الذي لعبته أميركا في الدفاع عنا وإحلال السلام في المنطقة، وكموطن موقت لكثر منا ممن اختاروا العيش والدراسة فيها.
ولذلك، انتابنا شعور بالألم والخطر حين وصل بايدن إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2021، واعداً بـ"إعادة تقييم العلاقة مع السعودية" و"تهميش دور ولي العهد السعودي وزيادة الضغط على العائلة المالكة لإيجاد بديل أكثر رصانة" و"جعل السعوديين يدفعون الثمن وجعل دولتهم دولة منبوذة"، لكن الأصدقاء لا يتكلمون بهذه الفظاعة عن أصدقائهم.
اليوم تدعي الولايات المتحدة بأنها ستضطر إلى "إعادة تقييم" علاقتها مع السعودية مرة جديدة ويعود ذلك على ما يبدو إلى رفض "أوبك+" طلبات الرئيس بايدن على مدى الأشهر القليلة الماضية والرامية إلى رفع حظوظه في الانتخابات المقبلة، وهو مسعى تعوقه أسعار الطاقة الملتهبة.
أكن كل المحبة للأميركيين ولي كثير من الأصدقاء الأعزاء هناك، وبالطبع لا يسرني على الإطلاق أن أرى الأثر الكبير الذي يتركه تضخم أسعار الطاقة على حياتهم وسبل عيشهم. إلا أن حال عدم الاستقرار التي يشهدها الشرق الأوسط ويفاقمها السماح والتمويل الأميركي المستمر للإرهاب الإيراني لا تدع للسعودية هامش خطأ كبيراً بما يكفي لاتخاذ قرارات تزعزع استقرار سوق الطاقة العالمية فقط من أجل ضمان تقدم حزب في الانتخابات النصفية في أميركا.
وعلاوة على الأذية التي ألحقتها حقبتا أوباما وبايدن بالسعودية (وإسرائيل) على مستويات الخطاب والدبلوماسية والأمن، اختارت إدارة بايدن أيضاً شن حرب على مصادر الطاقة المعتمدة على الكربون من دون ترك المجال للتفكير الواقعي بكيفية إدارة التحول في مجال الطاقة. فالصفقة الخضراء الجديدة ليست مجرد وهم ساذج يروج له أعضاء من الكونغرس تفتقر نظرتهم إلى الجدية، ولا يفهمون كيف يعمل الاقتصادان الأميركي والعالمي، بل كانت ولا تزال استراتيجية تهدف إلى تسليم السيطرة على الوقود الأحفوري وتقنيات الطاقة النظيفة على حد سواء إلى الروس والصينيين.
ويضاف ذلك كله إلى السلوكات المنافقة لهذه الإدارة. فالدعوة إلى وقف استخدام الوقود الأحفوري وطرد روسيا البوتينية خارج أسواق الطاقة العالمية ليست أمراً عجيباً، لكن توجيه هذه الدعوة مع الاستمرار بشراء الطاقة من روسيا ليس عجيباً فحسب، بل ضرب من المنافقة.
في أبريل (نيسان) 2022، أي بعد شهر تقريباً من بدء الحرب وبعد فرض الغرب للعقوبات على روسيا، سجلت الواردات الأميركية من النفط الروسي رقماً قياسياً لم تحققه في تاريخها. وفي الأسبوع الماضي أفادت صحيفة "فايننشال تايمز" بأن "الدول الأوروبية دفعت مبالغ تفوق 100 مليار يورو لروسيا مقابل الوقود الأحفوري منذ بداية غزو أوكرانيا".
وطوال هذه الفترة لم تنفك الإدارة الأميركية توبخ إسرائيل والسعودية وحلفائها الآخرين في الخليج علناً لعدم اتخاذهم إجراءات كافية ضد روسيا. وهذا الأداء لم يقنع إسرائيل ولا الرياض ولا أبو ظبي ولا دلهي ولا موسكو ولا كييف، ووفقاً لبعض استطلاعات الرأي، لم يكن مقنعاً بالنسبة إلى عدد من المقترعين الأميركيين أيضاً.
على مدى العقود الثمانية السابقة، لم ير السعوديون يوماً لم تكن فيه العلاقة مع أميركا جيدة. ففي مقابل الهندسة الدفاعية التي بنتها الولايات المتحدة لحماية نفسها وحلفائها ومقابل بيعها الأسلحة والأنظمة الدفاعية، أدت السعودية الدور المتوقع منها في هذه العلاقة، فأظهرت تعاوناً في شأن أسواق النفط العالمية ووفرت سوقاً واسعة وخصبة للصناعة الدفاعية الأميركية وأعارت الجيش الأميركي قواعدها العسكرية وتعاونت مع واشنطن في المسائل الاستخباراتية التي تهم البلدين.
بالطبع، سادت هذه العلاقة بعض المراحل الصعبة في السنوات التي سبقت الحرب على الإرهاب وخلالها، لكن منذ ذلك الحين اتخذ المجتمع والحكم السعودي أكثر فأكثر الاتجاه الذي لطالما دعت إليه واشنطن. وقد كانت دعوة الحكومة السعودية لواشنطن إلى التخلي عن مخطط غزو العراق ناتجة بالطبع من رغبتها في النأي بنفسها، لكن عن نية طيبة أيضاً، فقد كانت على يقين بأن هذا الغزو ستكون عواقبه كارثية.
في المقابل، قامت واشنطن عن قصد (أوباما) أو غير قصد (بوش) بتسهيل المطامع الإقليمية لإيران، العدو الوجودي لكل من إسرائيل والسعودية. وها هي بلدان المنطقة تشتعل اليوم، من العراق إلى اليمن مروراً بسوريا ولبنان. وكانت إدارة أوباما بذلت أيضاً مساعي حثيثة للتعاون مع أعداء إسرائيل والرياض في مصر (الإخوان المسلمين) وغزة (حماس).
وبعيداً من مساعدة بوتين، فإن شركاء أميركا الإقليميين يراقبون بشيء من الصدمة اليوم كيف تسهم إدارة بايدن في تفاقم الوضع من خلال استمرارها في منح بركتها لمساهمة روسيا المربحة في برنامج إيران النووي واعتمادها على المفاوضين الروس من أجل إحياء الاتفاق النووي، حتى في وقت ترسل إيران مسيّرات إلى روسيا تستخدم لقتل جنود من دول حلف شمال الأطلسي.
وعلاوة على ذلك، فإن إدارة بايدن هي التي أشعلت فتيل الحرب في أوكرانيا بنصيحتها فولوديمير زيلينسكي بعدم القتال ومغادرة البلاد. وفيما كان الأوكرانيون يظهرون شجاعتهم البطولية ضد المطامع الروسية التوسعية، كان البيت الأبيض ووزارة الخارجية منهمكين بإجلاء الدبلوماسيين الأميركيين ويشجعان الآخرين على القيام بالمثل. وترك ذلك أثراً عميقاً على حلفاء الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم.
تشاركني غالبية السعوديين بمختلف أطيافهم محبتي لأميركا والأميركيين، ولا يتمنون الشر لا للديمقراطيين ولا للجمهوريين. فنحن بحاجة إلى بعضنا بعضاً الآن، كما كنا بحاجة إلى بعضنا بعضاً منذ عام 1945، عندما وضع فرانكلين روزفلت والملك عبدالعزيز أسس هذه العلاقة التي شكلت كثيراً من السنوات التي تلت، لكن إذا كان أي من الحزبين الأميركيين يهدد السعودية صراحة وينفذ تهديداته، فليس في هذه الحال أمام الرياض سوى الرد بطريقة أو بأخرى. فعلى غرار أي بلد آخر على هذا الكوكب، يجب على السعودية أن تحمي شعبها ومصالحها الوطنية.
يشهد حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة اليوم تفكك نظام عالمي ساعدوا أميركا على بنائه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وفيما يضاعف البيت الأبيض من سياساته الإقليمية والعالمية التي تسرع هذا التفكك، تعيد الدول المعنية في جميع أنحاء العالم تقييم مصالحها الأمنية الخاصة من موقعها كشريك لأميركا، ومن حقها أن تفعل ذلك.