استهدف برنامج التقشف الذي أعلنته الحكومة الفرنسية في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، خفض استهلاك الطاقة بنسبة 10 في المئة عن عام 2019. ومن جملة التدابير التي نص عليها البرنامج للتوصل إلى النتائج المرجوة، خفض استهلاك الكهرباء في المرافق العامة، مما يعني تخفيف الأنوار ليلاً، وشمل ذلك الإضاءات التي تزين واجهات المباني الحكومية، وأضواء المرافق العامة والمتاحف والمخازن ابتداء من الساعة الـ11 ليلاً.
وأكدت عمدة مدينة باريس آن هيدالغو خلال استعراضها التدابير التي تبنتها البلدية أن "مدينة الأنوار ستبقى مدينة الأنوار"، وكان من الطبيعي الإشارة إلى ذلك، فهذه هي باريس في المخيلة الجماعية، والحديث عن إطفاء أنوار معالمها كان له وقع مختلف، بخاصة عندما أعلن إطفاء أنوار برج إيفيل وهرم اللوفر عند الساعة الـ11 و45 دقيقة، أي قبل ساعة من الموعد المعتاد.
باريس من دون أنوار برج إيفيل وأنوار مثلث هرم اللوفر وأضواء معالمها المعمارية تنزع عنها ثوب البهجة، فهي جميلة بأنوارها ليلاً، لكن ها هي الحال في الواقع، والمدينة فقدت بالفعل بريقها الليلي، لكن هل كانت تدابير التقشف وتخفيف الأنوار وليدة اليوم بسبب الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة التي نجمت عنها؟
الواقع أن بريق أضواء عاصمة الأنوار بدأ يخف تدريجاً منذ عام 2006 عملاً بتعليمات وزارة البيئة. حين بدأت الحكومة حث الجميع على استبدال لمبات الكهرباء بأخرى تعمل بالليد لترشيد الاستهلاك، ذلك أن قوة الأضواء لم تعد كما في القرن الماضي، حيث كان ليل باريس لا يختلف عن نهارها.
ماذا عن الشانزليزيه؟
تحضيرات أضواء الأعياد جارية على قدم وساق في جميع دوائر العاصمة، إذ أعلنت لجنة جادة الشانزليزيه خفض مدة تشغيل أضواء الأعياد، وأضواء الواجهات والعلامات التجارية.
أضواء الأعياد ستطفأ بالنسبة إلى برج إيفيل قبل منتصف الليل بربع ساعة. أي أقل بساعتين وربع الساعة عن السنوات الماضية. كما أن الأعياد ستنطلق في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) لغاية الثاني من يناير (كانون الثاني)، أي ما يعادل ستة أسابيع بدل سبعة في الماضي. تدابير ستساعد في خفض استهلاك أنوار العيد بنسبة 44 في المئة.
كما أعلنت اللجنة في بيانها الصحافي أنها تطلب من المتاجر إطفاء علاماتها التجارية بين الساعة 11 ليلاً حتى السابعة صباحاً، ويستثنى من ذلك المؤسسات التي تواصل نشاطها بعد 11 ليلاً كدور السينما والمطاعم.
هذه التدابير ستمكن المدينة من توفير 10 ملايين يورو (9.84 مليون دولار) إضافة إلى خفض الكلفة الناجمة عن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء. وقد تصل فواتير الطاقة في نهاية العام إلى ما يقارب 90 مليون يورو (88.54 مليون دولار) في مقابل 54 مليوناً (53.13 مليون دولار) في الأوقات العادية. بحسب ما أعلنت عمدة باريس.
باريس باتت تطفئ سراجها قبل ساعة فقط من الموعد الذي تم اعتماده أصلاً عام 2013، فهل أثرت التدابير فعلاً في حياة الليل؟
هناك بالطبع نتائج الجائحة التي رافقتها الأزمة الاقتصادية والتضخم، فدور السينما أظهرت أن نسبة رواد الصالات المظلمة لم تصل بعد إلى ما كانت عليه قبل الجائحة.
أفراح نشطاء البيئة
الخطوات التقشفية وخفض أنوار المدينة ليست وليدة الساعة ولا ناجمة كلياً عن الأزمة الحالية. ولو أن الحرب الأوكرانية شكلت منعطفاً من هذه الناحية.
فمطالب البيئيين تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي لخفض أنوار الليل، ومحاولاتهم ليلاً تعطيل أنوار واجهات المخازن، وهي المحاولات المستمرة إلى اليوم، ومعروفة منذ سنوات حين كان شعارهم "أعطوا النجوم حقها"، إذ إن أضواء المدينة كانت تمنع الاستمتاع بضوء النجوم، لكنهم اليوم حصلوا على حيز لا بأس به من هذه الناحية.
باريس التي كان المرء بالكاد يميز بين ليلها ونهارها، باتت اليوم خافتة الأضواء ليلاً، ففي الماضي كانت أضواء المراكب التي تجوب السين ذهاباً وإياباً تعكر على سكان المباني المقابلة صفو الاستمتاع بالنوم العميق، لأن أضواءها كانت من القوة بحيث تجعل ليل المكان يفيض عن ضوء النهار.
أنوار الأماكن السياحية كاللوفر والتروكاديرو وبرج إيفيل والأنفاليد والغراند باليه والبوتي باليه مروراً بجسر ألكسندر الثالث، أجمل جسور باريس، إلى السان جيرمان والمونبارناس والحي اللاتيني وبعدها المونمارتمر والساكريه كور. معالم كانت إضاءة تفاصيلها الهندسية تحولها إلى لوحات ضوئية تشكل بصمة باريس، وكان بالإمكان التمتع بها طوال الليل، وهو سبب امتعاض الشركة المستثمرة لبرج إيفيل التي تعتبر أن أنواره الليلية لا تمثل سوى أربعة في المئة من استهلاكه السنوي.
الروح التي تغيرت
أنوار الإضاءة خفتت منذ سنوات، وسرق بريق هذه المدينة التي لم تكن تعرف السكينة. وإن لم يؤثر ذلك في نشاط الملاهي والمسارح، لكن شيئاً ما غير روح المدينة.
كانت أنوار برج إيفيل تطفأ من الواحدة صباحاً، لكنها اليوم تنخسف عند الساعة الـ11، وهي ساعة غير متأخرة بالنسبة إلى السياح ومحبي السهر والتمتع بالمدينة ليلاً بخاصة أنها المعلم الأكثر جذباً للسياح.
أضواء المدينة أيضاً تشمل إنارة الشوارع التي تم خفضها من حيث القوة والعدد، دينا التي تسكن الدائرة الـ14 قرب برج إلمون بارناس تقول "في السابق كانت واجهة البرج تبقى مضاءة طوال الليل، واليوم لا نرى سوى بعض الأضواء، وفي الليل تترك فقط أضواء الأمان. وكذلك الأمر في الشارع فقد كانت أضواء البلدية قوية وتم استبدالها بلمبات الليد، وأمام المبنى كان لدينا ضوء تم الاستغناء عنه، لقد تم إطفاء نصف اللمبات، مما يثير الريبة وعدم الشعور بالأمان في حال أردنا الخروج ليلاً".
تسعى فرنسا إلى الخروج من الاعتماد على مصادر الطاقة المتحجرة وخفض استهلاكها منها بنسبة 40 في المئة حتى عام 2050. وتهدف بذلك إلى إحداث تغيير جذري في مفهوم استهلاك الطاقة والتصرفات اليومية المرتبطة بها.