تضم سوريا في كل مدينة من مدنها متحفاً واحداً على الأقل، وتعود هذه الغزارة في بناء المتاحف إلى إدراك عميق بأهمية هذه الصروح في حفظ التراث وعرضه بشكل جيد، إذ تولى ديوان المعارف في وقت مبكر بعد الحرب العالمية الأولى مهمة تأسيس المتاحف في البلاد، لكن أكبرها وأشهرها على المستوى المحلي والعربي هو متحف العاصمة، المتحف الوطني في دمشق، واحد من أغنى المتاحف في العالم نسبة إلى عدد القطع الأثرية وتنوعها الممتد على شريط كرونولوجي طويل، يوثق عصوراً وآلافاً من السنين الماضية، فهو يشكل بحد ذاته مجموعة من المتاحف في متحف واحد.
تاريخه
لم يطمح هذا المتحف في نشأته المتواضعة إلى مكانته التي وصل إليها في ما بعد، كواحد من أهم وأغنى متاحف الشرق الأوسط.
وبحسب ما دونه سابقاً سليم عبد الحق في كتابه "كنوز متحف دمشق الوطني"، وهو واحد من المديرين الذين شغلوا منصب المدير العام للآثار والمتاحف في تسعينيات القرن الماضي، فقد أسس عام 1919 تحت إدارة المجمع العلمي العربي الذي كان ينظم شؤونه وينفق عليه من موازنته، وكان مقره المدرسة العادلية التي يعود عهدها إلى القرن الثالث عشر الميلادي، التي خصصت قاعات عدة من قاعاتها لعرض مجموعاته، وفي سنة 1928 صدر قرار بمنحه الشخصية الحقوقية والاستقلال المادي، وكان هذا القرار بمثابة باب واسع لازدهاره، وفي سنة 1936 بنيت له دار خاصة في زاوية من المرج الأخضر مقابل التكية السليمانية، وقسمت الآثار المنقولة السورية بينه وبين متحف حلب، تقسيماً اعتمد على فاصل تاريخي واضح، فخصصت الآثار التي يرجع تاريخها إلى ما قبل 500 ق.م في متحف حلب، في حين وزعت الآثار التي تعود إلى ما قبل التاريخ المذكور في دمشق على جناحين متميزين في المتحف، وهما جناح الآثار اليونانية الرومانية، وجناح الآثار الإسلامية.
ثم نظم عام 1945 عرض جديد لمجموعات المتحف، فازدادت مقتنيات المتحف بسرعة كبيرة، ما أدى إلى ضرورة التوسع في البناء ضمن أراضي المرج الأخضر، فشُيدت في الفترة الممتدة بين 1950 – 1954 أقسام وأجنحة جديدة، وصدر قرار عام 1954 باعتباره محتفاً للحضارة السورية العربية منذ أقدم العصور حتى العصر الحاضر، وقسم حينها إلى أربعة أجنحة متميزة، وهي جناح الآثار السورية الشرقية، وجناح الآثار السورية في العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية، وجناح الآثار العربية الإسلامية، وجناح الفنون الحديثة والمعاصرة.
الآثار الشرقية
جناح الآثار السورية الشرقية أسس سنة 1953 إثر توسع الحفريات الأثرية في المناطق السورية، التي يعود عهدها إلى ما قبل مجيء الإسكندر المقدوني إلى الشرق أي قبل القرن الرابع ق.م. وتحتوي على آثار مناطق أثرية عدة، مثل ماري، وتعود آثارها إلى الألف الثالثة وأوائل الألف الثانية قبل الميلاد، وتضم عدداً كبيراً من التماثيل مثل تمثال ملك وأمراء ماري وربة عشتارات والمغنية أورنينا، ورقم فخارية من معبد شمس، وأدوات حجرية مصقولة، وأوان حجرية وفخارية، وأختام حجرية، وأدوات وأوان برونزية وغيرها.
أما آثار تل رأس الشمرة (أوغاريت) فتعود إلى القرون 15-13 ق.م، وأهم ما تضم هذه القاعة رقيم كتبت عليه حروف الأبجدية، ورقم فخارية ملكية، وتحف عاجية وكثير غيرها، وآثار عمريت (ماراتوس) البرونز اليوناني، وآثار تل الخويرة، وبعض المناطق الأخرى ذات الأهمية الثانوية.
اليونانية والرومانية والبيزنطية "الكلاسيكية"
لهذا الجناح أهمية كبيرة لما يحتويه من ثروة أثرية، تمثل تطور الفن اليوناني الروماني في إطار الشرق القديم، ومنها آثار دورا أوروبوس، المدينة التي شكلها مزيج من مدنيات الشرق والغرب، من صور جدارية وأوان فخارية وحلي وغير ذلك، كما تحفظ في هذا الجناح مجموعة مهمة من آثار مدينة تدمر وفنها الذي تميز بتزيين المعابد والمدافن والقبور مثل قبر يرحاي المزين بتماثيل نصفية ومنحوتات متنوعة، ولوح فسيفساء يمثل مشهداً من أسطورة "كاسيوبا" ملكة يافا، وتماثيل نصفية لمجموعة من الكهنة.
وفي هذا الجناح أيضاً مجموعة من التماثيل والألواح المنحوتة في الأحجار البازلتية المنقولة من حوران وجبل الدروز مثل تمثال آلهة الحكمة مينيرفا، إضافة إلى لوح مميز من الفسيفساء المكتنزة بالتفاصيل منقولة من مدينة شهبا (فيليبوبوليس) موطن إمبراطور روما، وآثار كثيرة مهمة، كما وضعت بعض القطع في حديقة المتحف نظراً لضخامتها.
الآثار العربية الإسلامية
يضم هذا الجناح مجموعات ثمينة تمثل مظاهر الفن الإسلامي ما بين القرنين السابع والثامن عشر، ويمثل هذا الجناح قسماً رئيساً من قصر الحير الغربي الذي نقلت جميع عناصره الزخرفية والألواح والتيجان والأعمدة والتماثيل إلى متحف دمشق، وأعيد إنشاء الجزء الشرقي منه الذي يضم الواجهة الخارجية والباب والمدخل وجزءاً من الرواق، وهذه الواجهة هي أول ما يقابلك عند المدخل الرئيس للمتحف مزينة بالحلي المعمارية والأعمال الزخرفية المتنوعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضم معروضات القصر في الطابق الأرضي مخططات خاصة بالقصر نفسه، وخزانة عرضت فيها نماذج من أقواس جصية متنوعة، أما في الطابق العلوي أعيد إنشاء واجهة ودرابزين وبوابتين ولوحة تمثل مشهد صياد فارس وغيرها، كما يضم هذا الجناح قاعة الرقة وفيها مخططات وآثار زجاجية وفخارية وخزفية ومعدنية وجصية وآثار متنوعة، وفي الرواق عرضت عملات مصنفة حسب عهودها التاريخية، عملة ساسانية من الفضة بعضها يحمل كتابة عربية "بسم الله" أو "ربي الله"، وعملة بيزنطية أموية من النحاس وعليها كتابة يونانية، وعملة أموية من الذهب والفضة والنحاس، إضافة إلى عملة طولونية وأخشيدية وحمدانية وفاطمية وسلجوقية وأتابكية وأيوبية ومملوكية وعثمانية.
وكذلك نجد مجموعة مهمة من الحلي من أساور وخلاخيل وأقراط وأطواق وخواتم، وأسلحة من دروع وسيوف عربية وعجمية وشركسية وألبانية، ومصابيح ومعروضات أخرى متنوعة، إضافة إلى قاعات الخشب والمخطوطات والأدوات الفلكية والفخار والخزف والحجر والمعدن والزجاج والشمسيات والقمريات وقاعة آثار حماة، وينتهي هذا الجناح بالقاعة الشامية التي تحتوي على أجزاء زخرفية متنوعة من كسوات خشبية ورخامية وسقوف وأطناف خشبية عليا وغيرها.
الفنون الحديثة والمعاصرة
يضم هذا الجناح تماثيل ولوحات، صنفت حسب المدارس الفنية، كالمدرسة التقليدية البديعية (الكلاسيك)، والمدرسة الخيالية الإبداعية (الرومانتيك)، والمدرسة الواقعية التعبيرية والمدارس الحديثة، وتحمل لوحات هذه المدارس مواضيع متنوعة، مثل موقعة حطين وأبي العلاء المعري وجامع الأزهر، وصناعة طبق القش، وباحة دار شامية وساحة القرية ودمشق القديمة وكثير غيرها.
وأضيف إلى أجنحة المتحف الأربعة عام 1974، جناح خامس متخصص بآثار عصور ما قبل التاريخ.
والجدير ذكره أن المديرية العامة للآثار والمتاحف أغلقت أبواب المتحف عام 2012 لحماية آثاره من تداعيات الحرب، ثم فتح بشكل جزئي عام 2018 بعد ست سنوات من إغلاقه، ورمم تمثال أسد اللات، وهو واحد من أشهر القطع الأثرية في تدمر، بعد تدميره من قبل تنظيم "داعش" خلال سيطرته على المدينة، وعرض في حديقة المتحف.