Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيلم "أيام جافة" يكشف التغيير المستحيل في تركيا

أمين ألبر أثار الذاكرة الجماعية وفاز بجائزة الإخراج في مهرجان أنطاليا

فيلم "أيام جافة" يكشف الفساد في القرى التركية البعيدة (ملف الفيلم)

بفيلم يحمل نقداً باطنياً لاذعاً للنظام التركي الحالي وذلك من خلال نصّ سينمائي يضرب جذوره في السياسة والاجتماع، فاز المخرج التركي أمين ألبر بجائزة أفضل مخرج في مهرجان أنطاليا الأخير، الذي انعقد في مطلع هذا الشهر. "أيام جافة" هو عنوان هذا الشريط المتمكن على كافة المستويات الذي كان عُرض سابقاً في مهرجان "كان" وقد اكتشفه أخيراً الجمهور التركي، مما يشكل مناسبة للتعريف عن هذا المخرج الأربعيني الموهوب والجريء الذي يغرد خارج السرب، في بلاد تمنح فنانيها مساحة محدودة من الحرية. 

ألبر، الذي قدّم إلى الآن أربعة أفلام عُرضت في أهم المهرجانات مثل "كان" و"برلين" و"البندقية"، يميل إلى نصوص ذات مضمون عميق تنتمي إلى ما يُعرف بسينما المؤلف لغةً وجماليات، وقدرةً على دراسة الواقع والإحاطة به. انه مستوى آخر من العمل السينمائي يتجلى بوضوح في "أيام جافة" الذي ينطوي على نص معقّد ومعالجة ذكية، من خلال جمع من الشخصيات التي تمتلك دلالات سياسية. تبدأ الأحداث مع وصول مدع عام طموح (صلاح الدين باشالي) إلى منطقة نائية في الأناضول تعاني من شح المياه، من بين ما تعانيه. يأتي الشاب من إسطنبول، محاولاً ترتيب أوضاع بلدة اعتادت العيش على طريقتها الخاصة. يانيكلار هو اسم البلدة التي تخيلها المخرج لضرورات العمل، وهي البلدة التي يجد المدعي العام نفسه فيها محاولاً إدخال إصلاحات جديدة ببراءة لا مثيل لها، من دون أن يعي في البداية، أنها أرض خصبة للدسائس والمؤامرات، ضد الذي يأتي من خارجها.

منع صيد الخنازير

 

أول خطوة يقوم بها، إعلان العداء لصيد الخنازير البرية في شوارع البلدة، وهي ممارسة اعتادها سكانها. من هنا يبدأ صدامه مع كل الناس محاولاً إنهاء التفلت ووضع إطار قانوني لتحركاتهم. ولا تتأخر الموسى في الوصول إلى رقبة ابن العمدة وصديقه، الضليعين في ممارسات مشبوهة. شيئاً فشيئاً تحمله الأحداث إلى حافة الجنون حيث الأشياء تختلط بعضها ببعض في لعبة ابتزاز وسيطرة وشد حبال. تذكّرنا شخصية المدعي العام بمحبي العدل في أفلام الوسترن الأميركية (علماً أن الفيلم يتشارك الكثير مع سينما الوسترن)، إلا أن هناك الخطأ القاتل الذي يحسم الموضوع لمصلحة فئة من دون أخرى، وخطأ المدعي العام هنا هو الثقة التي يضعها في ابن العمدة وصديقه، حدّ أنه يقبل دعوتهما الى قضاء سهرة يتم فيها تخديره واستدراجه إلى أشياء توظَّف ضده لاحقاً.

والمصيبة أن إحدى الشابات الغجريات الموجودات في السهرة يتم العثور عليها في اليوم التالي، وقد تعرضت للاغتصاب. بكلّ نية صافية، يفتح المدعي العام تحقيقاً في الجريمة بهدف الاقتصاص من مرتكبيها، ولكن لن يمر الكثير من الوقت قبل أن توجَّه أصابع الاتهام إليه. فهو كان موجوداً في سهرة لا يتذكّر منها الكثير لكونه تحت تأثير المخدّر. يلعب الفيلم بالمُشاهد، مقحماً إياه في منطقة ملتبسة. فهل ما يقول المدعي العام هو الحقيقة أم أن الحقيقة يمتلكها الذين يقفون في مرصاده؟ ماذا لو كان مخادعاً أو يعاني من فصام؟ في أي حال، نجد أنفسنا أمام أسئلة كثيرة من هذا النوع، ونحن نحاول فهم ما حدث والعواقب الوخيمة التي يواجهها الرجل الذي جاء إلى البلدة، بهدف التغيير، وها أنه أصبح محل اتهامات خطيرة تضع صدقيته على المحك. أحداث متلاحقة تجعله يفقد تدريجاً أهم ما يملكه، السيطرة على ذاته. 

الوضع البشري

 

ينتمي "أيام جافة" إلى ما يُعرف بـ"الفيلم النوار"، مع لمسات تذكّر بـ"ذات يوم في الأناضول"، رائعة المخرج التركي نوري بيلغي جيلان التي سبق أن ذكّرنا بها ألبر في فيلمه السابق "حكاية الشقيقات الثلاث". بعد المشاهدة، ما عاد لديّ أي شك في أن أمين ألبر بات يأخذ، فيلماً بعد فيلم، المكان الذي احتله إلى الآن جيلان مخرج تركيا الأكبر والأعظم والأهم. مثل جيلان، يحملنا ألبر إلى عمق تركيا حيث الأشياء لا تزال تحافظ على جوهرها ومدلولاتها، في محاولة لأخذ الحقيقة من فم سكانها البسطاء الذين لا يتوانون عن الإدلاء بما في باطنهم، من دون أن يدركوا ذلك. في آخر أفلامه، "شجرة الإجاص البرية"، كان حاول جيلان تخليد صمت بلاده، من خلال الارتقاء بوجع أبنائها، مستخدماً التعبير والبلاغة والكلمة والمشهد، لا الموقف والتصريح والخطاب. فبدا على درجة عالية من الشجاعة لتمرير لمحات حول الوضع الذي تعيشه تركيا في عهد أردوغان، من دون أي نرجسية أو تدليس أو رغبة في تلقين دروس. جيلان فنّان محكوم ببيئته وإرثه وتاريخه واستحالة الارتواء من غير هذا البئر، وألبر على غراره يحاول أن يشرب المياه من هذا البئر المملوء بالحجارة. وعلى غراره أيضاً يحاول أن يروي بلاده بهذا القدر من الحساسية والبلاغة، مقيّماً وضعاً معقّداً، حيث السياسي يتداخل بالاجتماعي والديني. وهذا كله يكشف مدى قدرة السلطة القمعية على تدمير ممنهج، ليس فقط للفرد بل للضمير والقيم.

فضح الفساد

 

مع "أيام جافة"، أنجز ألبر فيلماً راديكالياً في النحو الذي يتحدّث فيه عن موضوع الفساد، أو في كيفية تناوله العقلية السائدة في أعماق تركيا المحافظة، حيث بيئة يسيطر عليها الالتباس والتوتر المتواصلان. إلا أن ما نراه يبعث في النهاية على اليأس، إذ إن الأحداث تؤكد أن البلدة عصيّة على التغيير، خصوصاً أنها تستعد للانتخابات وكل شيء مسيس، الأمر الذي يقضي على طموحات الشاب، في بلد يتأرجح بين الحداثة والتخلف. 

يصعب تناول تجربة ألبر من دون الذهاب والإياب بين أفلامه الأربعة. فـ"حكاية الشقيقات الثلاث" الذي قدّمه عام 2019 فيلم يحمل مدلولات كبيرة، إذ يأخذ من منطقة الأناضول وجبالها مسرحاً له. هذه البقعة التي استطاع ألبر أن يشد الأنظار إليها. في النهاية، الأناضول مسقطه والأرض التي يجد فيها حكاياته. ثلاث شقيقات هن محور الحكاية وعلاقتهن المأزومة بوالدهن، الرجل المتسلط صاحب العقلية القديمة المتحجرة. وإذا كان الأعداء يأتون من خلف الجبال في فيلمه الأول "ما بعد التل" (2012) ولا نراهم ولا يسمّيهم الفيلم بأسمائهم، ويتكتم على هويتهم الحقيقية (أكراد)، مؤججاً البارانويا داخل الشخصيات الخائفة الحائرة، فإن العدو في "حكاية الشقيقات الثلاث" هو في داخل كل واحد، وفي داخل الآخرين كذلك. أما الخوف فمصدره أقرب الناس. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يحافظ ألبر في أفلامه على ما يشكّل جمال سينماه، الاستعارة. يحافظ كذلك على شيء من الغموض من خلال الامتناع عن الشرح والتبرير. هناك صولات وجولات مع الواقع السياسي التركي، عبر الغمز والإيحاء. ولا بد لمتابع الشأن التركي أن يلتقط الإشارات بلا أي مشكلة. فقامة السيد نجاتي في "حكايات الشقيقات الثلاث" على سبيل المثل لا بد من أن تذكّرنا بأردوغان، خصوصاً في هيبته الأبوية. أما التعصّب والهاجس الهوياتي فهما من صلب "أيام جافة". ناس المجتمع الريفي الصغير الذي يصوّره ألبر في أفلامه، محكومون بتكرار التجارب الأليمة وغير المجدية إلى الأبد، من دون أن يتعلّموا من أخطاء الماضي. هل ينقصهم الوعي؟ هل هي البيئة؟ أياً يكن السبب، فالجغرافيا تحشرهم في "كمين" مكاني وتسحقهم.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما