هل كانت حرب يوليو (تموز) 2006 آخر المعارك والحروب بين إسرائيل وحزب الله نيابة عن لبنان ومن دون تكليف؟ هل تقدمت المصالح الاقتصادية على العداوة والصراع، وهل تم الانتقال من تطبيق قواعد الاشتباك العسكرية إلى تطبيق قواعد التهاون والتعاون في المسائل النفطية التي تهم البلدين والعالم كله بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية؟ وهل بات حزب الله بعد التهديد بإزالة إسرائيل من الوجود أقرب إلى الاعتراف بواقع لم يعد من الممكن تغييره؟
لم يعد بالإمكان تحديد ما إذا كان لبنان أمام حال حرب أم سلام أم هدنة مع إسرائيل. الوضع الناشئ عند الحدود اللبنانية الجنوبية ربما بات يشبه العلاقة بين إيران والإمارات، إذ توجد علاقات سياسية وتجارية ودبلوماسية على رغم الخلاف الكبير حول جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى التي تعتبر الإمارات أنها تابعة لها وأن إيران تحتلها.
وجود الغاز والنفط والمصالح الاقتصادية المشتركة قد يحول الصراع العسكري إلى سياسي، ويحيل استراتيجية الحروب إلى التقاعد على قاعدة أن المصالح الاقتصادية المشتركة تلغي الصراعات والعداوات. هذا ينطبق على لبنان لأن أية حرب لم تحصل بين إيران والإمارات، ولأن العلاقة بينهما لا تشبه الصراع بين لبنان وإسرائيل.
عملياً وضع القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في أغسطس (آب) 2006 حداً للأعمال القتالية في جنوب لبنان بعد الحرب التي استمرت نحو شهر كامل. بدأت تلك الحرب عندما اجتاز مسلحون من حزب الله الخط الأزرق الذي يرسم الحدود بين لبنان وإسرائيل في 12 يوليو، وتمكنوا من أسر جنديين إسرائيليين فردت تل أبيب بعملية برية واسعة داخل لبنان رد عليها حزب الله بإطلاق آلاف الصواريخ على إسرائيل، ونظراً إلى ضخامة الخسائر التي وقعت في لبنان، قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إنه "لو كان يعلم بحجم الخسائر لربما ما كان وافق على العملية خارج الخط الأزرق".
ما لم يقله نصر الله عما تعرض له شخصياً في تلك المواجهة، كشف عنه قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليمان الذي كان إلى جانب نصر الله في الضاحية الجنوبية. وروى كيف تعرض المكان الذي كان فيه للقصف، وكيف خرجا منه في الليل واحتميا من الرؤية الليلية في ظل شجرة بالعراء، قبل أن يأتي عماد مغنية بسيارة أقلتهما إلى مكان آمن.
احترام قواعد الاشتباك
منذ ذلك التاريخ بدأ احترام قواعد الاشتباك بين الطرفين، وكأن هناك تفاهماً يفرض نفسه عليهما ومن مصلحتهما الحفاظ عليه. بات الوضع في الجنوب يشبه الوضع بالجولان بعد اتفاق الهدنة بين سوريا وإسرائيل في مايو (أيار) من عام 1974 بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 والانسحاب الإسرائيلي من القنيطرة وإقامة منطقة معزولة من السلاح تنتشر فيها قوات تابعة للأمم المتحدة.
في جنوب لبنان انتشرت بعد الحرب قوة من اليونيفيل تقدر بنحو 10 آلاف جندي يدعمها نحو عدد مماثل من الجيش اللبناني مع اشتراط جعل منطقة جنوب الليطاني خالية من السلاح الأمر الذي يبدو أن حزب الله غير ملتزم به بعد أن تم تحوير منطق القرار الدولي من نزع السلاح إلى منع ظهوره.
قامت قواعد الاشتباك التي استمر تطبيقها على أن كل خرق يقابل بآخر مماثل إذا حصلت اعتداءات إسرائيلية في لبنان. بعد انخراط حزب الله في الحرب السورية ومحاولته التمركز عند حدود الجولان ومع استخدام الأجواء السورية لاستقدام الأسلحة من إيران وتخزين كميات من هذه الأسلحة داخل سوريا وإقامة مراكز ثابتة للحزب فيها لم تتوان إسرائيل عن قصف هذه المواقع بعد تحذير مسبق بإخلائها حتى لا يقع ضحايا من الحزب ويضطر إلى الرد.
أكثر من مرة هدد الأمين العام لحزب الله بالرد وطلب من الإسرائيليين الوقوف على رجل واحدة بانتظار الرد ولكن أي رد بحجم كبير لم يحصل وآخر ما سجل على هذا الصعيد استهداف مواقع إسرائيلية في مزارع شبعا بقذائف من دون إصابات بشرية واستهداف آلية إسرائيلية كانت تتحرك من دون أن يكون فيها أي جندي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على رغم تهديد إيران بمحو إسرائيل من الوجود خلال ساعات والحديث عن أن حزب الله قادر على اجتياز الحدود واحتلال المستوطنات الإسرائيلية وتغيير قواعد اللعبة وقلب الموازين العسكرية، بعدما استطاع تحقيق ما سماه توازن الرعب الاستراتيجي، إلا أن شيئاً من هذا الأمر لم يحصل وانتهت العملية إلى تطبيع الوضع العسكري بالقبول باتفاق ترسيم الحدود البحرية والترحيب به واعتباره نصراً للمقاومة. فحزب الله كان في قلب المفاوضات التي تولاها الوسيط الأميركي أموس هوكشتين وكان مطلعاً على تفاصيلها وحظي الاتفاق بموافقته.
إرسال المسيرات
آخر ما قام به حزب الله على هذا الصعيد إرسال مسيرات باتجاه منطقة التنقيب عن النفط في حقل كاريش وتهديد أمينه العام بأن لا تنقيب ولا استخراج للنفط في إسرائيل قبل القبول باستخراج النفط في لبنان. وآخر ما سجل على صعيد التحضير لعمليات عسكرية كان الكشف الإسرائيلي عن أنفاق يحفرها حزب الله تحت الأرض وتجاوز بعضها الحدود الإسرائيلية قبل أن يتم تفجيرها وردمها من دون أي رد فعل أو اعتراف من الحزب أو حتى أي تحقيق رسمي لبناني.
حتى بعد اغتيال القائد الميداني في الحزب عماد مغنية في 12 فبراير (شباط) من عام 2008 في قلب دمشق واتهام الحزب الموساد الإسرائيلي بأنه هو الذي اغتاله لم يقم الحزب برد مباشر، وتم كشف عمليات كان يحضر لها في الخارج ومنها عملية تفجير باص للركاب في بلغاريا. كما اغتالت إسرائيل في سوريا كلاً من جهاد عماد مغنية مع خمسة غيره كانوا في سيارة في منطقة القنيطرة في 18 يناير (كانون الثاني) 2015 ثم اغتالت سمير القنطار في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2015 في المنطقة نفسها، قبل أن تغتال مصطفى بدر الدين في 13 مايو 2016 في قلب دمشق قرب المطار.
جدير بالذكر أن جهاد مغنية هو ابن عماد وأن سمير القنطار كان أسيراً في إسرائيل وتم إطلاق سراحه في عملية تبادل الأسرى والجثث بين إسرائيل والحزب بعد حرب يوليو، وأن مصطفى بدر الدين هو الذي خلف مغنية وكان متهماً باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وعلى رغم أن العمليات الإسرائيلية مستمرة ضد مواقع الحزب في سوريا فإن الحزب بقي ملتزماً بسقف قواعد الاشتباك. حتى أن مشاهد وثقت كيف أن طائرة إسرائيلية استهدفت آلية للحزب آتية من سوريا إلى لبنان وأطلقت قذيفة قربها حتى توقفت وانتظرت حتى أخلاها عناصر حزب الله ثم أصابتها ودمرتها.
عملياً لبنان ملتزم باتفاق الهدنة المعقود بينه وبين إسرائيل في عام 1949 وهو الاتفاق الذي يتم التذكير به في كل القرارات المتعلقة بالوضع في الجنوب. ولذلك لا يمكن اعتبار أن هناك حال حرب بين لبنان كدولة وبين إسرائيل على رغم حال العداوة. إلا أن من يصادر قرار الحرب هو حزب الله، وهو الذي يهدد بشنها ويكشف عن امتلاكه طائرات مسيرة وصواريخ قادر بواسطتها على إصابة أي موقع داخل إسرائيل ومع ذلك وجد نفسه منتصراً في اتفاق ترسيم الحدود البحرية وصاحب الفضل في التوصل إليه بسبب تهديداته لإسرائيل.
استثمار الثروات
لا يقتصر الأمر عند هذا الحد فالاتفاق واضح لجهة تفضيل الذهاب إلى استثمار الثروات الكامنة تحت البحر بدل الذهاب إلى حرب. نائب رئيس مجلس النواب اللبناني إلياس بوصعب الذي كان له دور أساس في المفاوضات مع الوسيط الأميركي أموس هوكشتين خرج بعد التفاهم لينظر عن الفرق بين هانوي وهونغ كونغ، بين الحرب وأضرارها وبين السلام وآفاقه، وكأن الحرب صارت من الماضي والنفط والغاز هما ثروة المستقبل والأجيال الآتية.
مثل هذا الأمر كان يكفي سابقاً ليعتبره حزب الله خيانة تستحق القتل. أكثر من ذلك. طالما اعتبر الحزب مع إيران أن أميركا هي الشيطان الأكبر وطالما هاجمها نصر الله في كل خطاباته وهاجم من يسميهم عملاءها وإذ به يرتضي بهذا التفاهم أن تكون ضمانته أميركية في التنفيذ والمراقبة مع أنه لا يعطي لبنان كل ما كان يطالب به. واعتبره خبراء في التفاوض بأنه تنازل من دون ضمانات تذكر. فقد ورد في التفاهم مثلاً أنه "لا يجوز أن يقدم أي من الطرفين مستقبلاً إلى الأمم المتحدة أية مذكرة تتضمن خرائط أو إحداثيات تتعارض مع هذا الاتفاق المشار إليه في ما يلي، ما لم تتفق الجهتان على مضمون مثل هذه المذكرة".
وورد أيضا "يتفق الجانبان على أن هذا الاتفاق، بما في ذلك ما هو موضح في القسم 1 (ب)، يرسي حلاً دائماً ومنصفاً للنزاع البحري القائم بينهما". و"قد اتفق الطرفان في تبادل الرسائل على أن الرسائل المتبادلة تؤسس لحل دائم ومنصف للنزاع البحري القائم بينهما.
ونص أيضاً على ما يلي، "يعتزم الطرفان حل أي خلافات بشأن تفسير هذا الاتفاق وتطبيقه عن طريق المناقشات التي تقوم الولايات المتحدة بتيسيرها" و"يتعين على كل من الجانبين مشاركة البيانات ذات الصلة بالموارد الموجودة كافة في الجهة المقابلة من خط الحدود البحرية، المعروفة حالياً وتلك التي قد يتم تحديدها لاحقاً، مع الولايات المتحدة".
هكذا صارت الولايات المتحدة الوسيطة في المفاوضات وصية على تنفيذ الاتفاق وهكذا أصبحت الحرب وراء حزب الله وبدا أن الغاز حلال المشكلات بين لبنان وإسرئيل وأن المصلحة المشتركة تقضي بالانتقال من قواعد الاشتباك إلى قواعد التعاون وبرعاية العراب الأميركي، وأن هذا الاتفاق يمكن اختصاره بأنه اتفاق الأمن في مقابل الغاز.