بعد أن تخطت الانتفاضة التي تشهدها إيران شهرها الأول لا يزال النظام في حال بحث عن المسوغات التي أدت إلى هذا الانفجار الشعبي الواسع الذي تحول بشكل دراماتيكي من اعتراض على مقتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق إلى انتفاضة على كل المفاهيم والرموز والثوابت المقدسة للنظام.
وبات الإرباك واضحاً على أداء قيادات النظام الإيراني ومسؤوليه حول كيفية وأساليب استيعاب هذا الحراك، خصوصاً أن أحداثاً مماثلة كانت تحصل وتقوم بها الأجهزة الأمنية ولم تواجه بمثل حال اعتراضية كهذه، وكأن الإعلان عن مقتل مهسا أميني شكل الشرارة التي أضرمت النيران في هشيم ما تراكم من ممارسات هذه الأجهزة على مدى الأعوام الماضية.
ربما يستطيع النظام وأجهزته السيطرة على هذه الانتفاضة واحتوائها في المرحلة المقبلة، إلا أن هذه العملية لن تكون سهلة وسريعة، وقد تستغرق أشهراً عدة لتهدئة الشارع، وأشهراً أخرى لمعالجة ذيولها النفسية والاجتماعية والإجرائية.
الأبرز في محاولة الاحتواء التي تبدو أكثر تعقيداً يكمن داخل أروقة النظام وقياداته التي سمعت هذه المرة، أو أجبرت على الاستماع إلى الأصوات المعارضة لها، خصوصاً أن ما رفعته من مطالب وشعارات مس الأسس الثقافية والاعتقادية والعقائدية للمنظومة الحاكمة ونظام السلطة، وما يعنيه ذلك من مواجهة تحدي تقديم تنازلات، مباشرة أو غير مباشرة، في الأقل في الموضوع المتعلق بإلزامية الحجاب ودور شرطة الأخلاق ومهماتها وقانونية ما تقوم به، وما قد يتسبب به ذلك من إرباك في التعامل مع تداعيات أي قرار قد تتخذه هذه المنظومة على صورتها وسيطرتها وإمكانية مواجهة موجة اعتراض جديدة في حال ذهبت إلى التشدد وعدم التعامل بليونة مع هذه المطالب، أو الإشكال العقائدي في حال قبلت بالتراجع ومدى تأثيره في سلطتها القهرية التي تستخدمها للسيطرة على المجتمع وتستخدمها لقمع الأصوات المعارضة في الداخل، بخاصة أن أي تراجع ربما يفتح الطريق أمام القوى المجتمعية للعودة إلى استخدام الشارع مرات أخرى للحصول على مطالبها وفرض مزيد من التراجعات على هذه المنظومة.
هذا التحدي الداخلي الذي فرضته هذه الانتفاضة، سواء كتب لها النجاح أو تعرضت للقمع والتفكيك، كشف عن أن ما يربك النظام ويرفع من منسوب الخوف والقلق لديه هو الداخل الإيراني الذي اعتقد بأنه استطاع ترويضه وتشتيت صفوفه بعد إخراج كل القوى من معادلة التنافس على السلطة، خصوصاً الأحزاب الإصلاحية والمعتدلة، وبعد أن فرض على المجتمع والطبقات غير المسيسة إرادته في فرض ورسم وهندسة الانتخابات، والنتائج التي يريدها لإدارة البلاد في السلطتين التشريعية والتنفيذية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حجم التحدي الداخلي يكشف عن أن أزمة النظام لا تكمن في الدور أو التهديد الذي من المفترض أن تشكله المعارضة في الخارج، حتى تلك التشكيلات والتنظيمات والجماعات التي تتمتع بآليات تنظيمية متطورة ومتقدمة (مجاهدي خلق) أو المعتمدة على إرث سلطوي وتاريخي (ولي العهد السابق رضا بهلوي) وغيرها، رغم ما تملكه من نشاط سياسي وفاعلية وعلاقات مع مراكز القرار الدولي والإقليمي تحاول أن تستثمرها في تعزيز امتداداتها النسبية داخل إيران لدى قواعدها في بعض الشرائح الاجتماعية، سواء عاطفياً أو عقائدياً أو سياسياً.
موقف النظام من المعارضة الخارجية أو المنتشرة في الخارج ينسحب أيضاً على الجماعات والأحزاب التي تتبنى سياسة الانفصال التي تمثل الإثنيات الدينية والمذهبية والقومية والدينية كالأحزاب الأذرية والكردية والعربية والبلوشية. وضعف هذه الجماعات في قدرتها على التحول إلى تهديد حقيقي للنظام لا تعود أسبابه إلى عدم استطاعتها كسب الشارع إلى جانبها ونقله إلى مستوى يتحول معها إلى حامل حقيقي لمشروعها، خصوصاً داخل جماعاتها الإثنية وتنتمي إليها.
وهذا الضعف الذي يشكل مصدر ارتياح للنظام ومنظومة السلطة أن هذه الجماعات تعمل عكس الرغبات الدولية التي لا تضع في عقيدتها السياسية في مواجهة النظام الإيراني خيار التفكيك أو الذهاب إلى ضرب الوحدة الجغرافية للأرض الإيرانية، أي أنها ليست في وارد الذهاب إلى خيار إحداث تغيير في المجال الجيوسياسي لأي دولة في المنطقة والعالم.
ولعل المؤشر إلى هذا التوجه ما نشاهده من موقف أميركي - أوروبي من الحرب الروسية على أوكرانيا الرافض بشدة للاستفتاء الذي أجرته موسكو حول انضمام بعض المناطق الأوكرانية إلى روسيا.
ومن الأمور التي تؤخذ على معارضة الخارج وتنظيماتها وتشكيلاتها، خصوصاً تلك الممثلة للإثنيات والأقليات القومية والمذهبية، عجزها عن التوافق على هدف مشترك يشكل استراتيجية وأرضية صلبة مستقبلية لمشروع تغييري حقيقي يكون بديلاً مقنعاً عن النظام القائم، سواء في ما يتعلق بالانفصال أو في إجبار النظام على الذهاب إلى اعتماد صيغة فيدرالية أو كونفيدرالية أو منح أقاليم هذه الإثنيات حكماً ذاتياً.
ورغم الرعاية التي تحظى بها الجماعات الإثنية والقومية أو ما بات متعارفاً عليه في الأدبيات السياسية الغربية "بالشعوب الإيرانية" وضمها للمؤتمر العالمي للشعوب، لم تستطع التمييز بين المسألة النظرية والأخلاقية وبين المصالح الاستراتيجية التي تحكم مواقف هذه الدول وعواصم القرار العالمي، وما يمكن أن تحصل عليه من دعم لمشاريعها الجيوسياسية.
فرغم حال العداء الظاهرة بين النظام الإيراني والمجتمع الدولي، لكن يمكن القول إن إيران الموحدة هي حاجة لهذه الدول، فإن ذلك لا يعني مطلقاً عدم سعي مراكز القرار الدولي إلى إضعاف السلطة الإيرانية وليس انهيارها، بخاصة أن الإضعاف يعني بالنسبة إليها إضعافاً للتمدد والنفوذ الإيرانيين في منطقة غرب آسيا، تحديداً بمنطقة الشرق الأوسط، أو في الأقل ضرب وتعطيل مشروعها الاستراتيجي القائم على توظيف الوجود المذهبي الشيعي في دول المنطقة وقيادة منظومة "جيو – شيعية" وتحويلها إلى حدود لجغرافية الدور والنفوذ الإيرانيين.
ربما يكون الأقرب إلى المنطق أن لا تكون لدى القوى الدولية والإقليمية الرغبة في انهيار النظام الإيراني ككيان جغرافي وجيوسياسي، لكن ذلك لا يتعارض مع موقفها من دعم الجماعات المعارضة السياسية والقومية والمذهبية بهدف إضعاف النظام مع الحفاظ على وحدته الجغرافية.
الدعم الذي تحصل عليه هذه الجماعات سياسياً ومالياً وإعلامياً لا يخرج عن وظيفته التي تخدم الهدف الاستراتيجي، باستثناء بعض القوى الإقليمية، تحديداً إسرائيل التي لا تخفي هدفها بإحداث تغيير مباشر جيوسياسي في الجغرافيا الإيرانية أو محيطها، لما لذلك من تأثير مباشر في مشروعها الاستراتيجي ويصب في سياق مسعى إخراج أبرز وأكثر الأطراف تحدياً وتهديداً لها سياسياً وأمنياً وعسكرياً من المعادلة الإقليمية.
إسرائيل لم تتردد في استغلال فرصة الاستفتاء على الانفصال الذي جرى في إقليم كردستان العراق عام 2017، والوقوف إلى جانب إنشاء دولة كردية مستقلة تكون مدخلاً لتحريك أكراد إيران، ودفعهم للانضمام إلى الدولة الجديدة.
وعليه يمكن إدراك حجم التحدي الذي شكّلته الأقاليم الكردية الإيرانية نتيجة تداعيات مقتل مهسا أميني ومستوى العنف الذي تعاملت به طهران مع الحراك الذي شهدته هذه المناطق، إضافة إلى قيامها بقصف مواقع المعارضة الكردية المسلحة داخل أراضي الإقليم العراقي، وتوجيه رسائل واضحة إلى زعيمه مسعود بارزاني من مغبة اللعب بالأمن القومي الإيراني.