دخلت ليز تراس التاريخ السياسي لبريطانيا، أو ربما خرجت منه، بكونها رئيسة الوزراء التي تقضي أقصر مدة في المنصب، إذ أعلنت استقالتها أمس الخميس بعد 45 يوماً فقط من وصولها إلى رقم 10 داونينغ ستريت.
إلى جانب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ورحيل الملكة إليزابيث الثانية، زادت التغييرات السريعة في الحكومة من حالة الاضطراب التي تعيشها البلاد خلال الشهرين الماضيين.
ما يزيد سوء الوضع السياسي هو إصرار حزب المحافظين على البقاء في السلطة على رغم تراجع شعبيته إلى أدنى مستوياتها منذ عقدين من الزمن، بحسب استطلاع للرأي أجراه موقع "يوغوف" في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي. كما أن الحزب يرفض إجراء انتخابات عامة مبكرة يرجح أنها ستمنح خصمه الرئيس، حزب العمال، غالبية توصله إلى القيادة.
وأفاد استطلاع آخر أعلن موقع "يوغوف" نتائجه يوم الثلاثاء الماضي أن 55 في المئة من المحافظين يعتقدون أن على تراس أن تستقيل، بينما أعرب 63 في المئة منهم عن رغبتهم في عودة سلفها بوريس جونسون.
حلم "المرأة الحديدية الثانية" انصهر
علق كثيرون آمالهم على ليز تراس عندما فازت برئاسة حزب المحافظين وبالتالي رئاسة الوزراء، متغلبة على وزير الخزانة السابق ريشي سوناك، واعتبروا أنها تحذو حذو رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر التي كانت تُلقب "بالمرأة الحديدية"، وقارنوا بين المرأتين لما تتمتعان به من تصميم واجتهاد والعمل بلا كلل. ونظراً إلى أن تراس، ثالث امرأة تشغل منصب رئيس الوزراء في بريطانيا، كانت تعتبر تاتشر مثالاً لها وتحلم بأن تكون مثلها منذ طفولتها.
لكن هذا الحلم سرعان ما انصهر تحت نيران الانتقادات التي تعرضت لها تراس خلال الفترة القصيرة التي قضتها في الحكومة على خلفية خطتها الاقتصادية.
وأدت إلى شن العديد من البريطانيين حملات انتقاد، وسخرية أيضاً، من رئيسة الحكومة "المتخبطة".
وواجهت تراس منذ وصولها إلى داونينغ ستريت في 6 سبتمبر الماضي هجوماً عنيفاً، مدفوعاً بمجمله من الاعتراض على ميزانيتها المصغرة، ما اضطرها إلى تعديل مواقفها أكثر من مرة، والتراجع عن قراراتها المتعلقة بالضرائب وأسعار الطاقة وتكاليف المعيشة وغيرها. ووصل الضغط إلى مستوى لم يعد درع تراس الحديدي قادراً على مواجهته فقررت الانسحاب.
ماذا بعد تراس؟
أعلن غراهام باردي رئيس "لجنة 1922" المكلفة بتنظيم استقبال طلبات الترشح لزعامة حزب المحافظين وإعلان الفائز من بين المرشحين أنه ستتم عملية اختيار رئيس الوزراء في غضون أسبوع، ما يعني أن بريطانيا لن تشهد حملة انتخابية كما حدث لاختيار خليفة بوريس جونسون.
يرجح بعض المراقبين تكرار ما حدث عام 2003، عندما حُصر الترشح بين مرشحين اثنين، هما دانكان سميث ومايكل هاورد، وبعد انسحاب سميث بقي هاورد المرشح الوحيد واختير زعيماً لحزب المحافظين.
التوقع الآخر هو أن تطلب "لجنة 1922" الإبقاء على المرشحين الذي يحصلون على دعم 50 نائباً من المحافظين على الأقل لتسريع الانتخابات، إذ يستبعد الكثيرون أن يجمع المحافظون على مرشح واحد، بالنظر لحجم الانقسامات داخل الحزب.
ومباشرة بعد استقالة ليز تراس، انتشر هاشتاغ "الانتخابات العامة" general_election# بسرعة كبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي البريطانية للدعوة لانتخابات مبكرة، التي تعد مطلباً لحزب العمال البريطاني، وكذلك للحزب الوطني الأسكتلندي.
يعلم حزب المحافظين علم اليقين أن هذا الخيار يصب في مصلحة حزب العمال، الذي تعتقد غالبية استطلاعات الرأي أنه سيحصل على الغالبية في أي انتخابات ستجرى خلال الأسابيع المقبلة.
لكن بعض النواب المحافظين يؤيدون إجراء انتخابات عامة في الوقت الحالي لحفظ ماء وجه الحزب وما تبقى من شعبيته ووضع حد لحالة الفوضى الداخلية التي يعيشها.
وحتى قبل أن تقدم تراس استقالتها رسمياً، بدأت التساؤلات حول من سيخلفها، ويبدو أن التكهنات كانت تدور في البداية تقريباً حول الأسماء التي كانت تتنافس مع تراس على المنصب، وهي: وزير الدفاع بن والاس، ووزير الخزانة السابق ريشي سوناك، الذي كان المنافس الأشد لتراس، ووزير الخزانة الحالي جيرمي هانت، الذي تسلم منصبه قبل 6 أيام فقط خليفة لكواسي كوارتينغ، وبيني موردانت رئيسة مجلس العموم.
هل عودة جونسون عودة حميدة؟
الاسم المفاجئ هو بوريس جونسون، حيث سرب متحدث باسمه لصحيفة "ذا تايمز" أنه يخطط بالفعل لإعلان ترشحه والعودة لرئاسة الوزراء وذلك خدمة للصالح العام.
جونسون لم يتنح عن منصبه بملء إرادته، بل تحت وطأة الفضائح التي لاحقته، أولها قضية مستشاره دومينيك كامينغز الذي اخترق قواعد الإغلاق التي فرضها وباء كورونا وسافر مع عائلته من لندن إلى مقاطعة دورهام في الشمال الشرقي.
فضائح جونسون لا تقتصر على ممارسات فردية، بل كثيراً ما اتهم بازدراء الإجراءات الحكومية وكسر القواعد عندما يكون ذلك في مصلحته، مثلما حدث عام 2019 عندما طلب تعليق عمل البرلمان لخمسة أسابيع في عز الأزمة السياسية حول بريكست.
وصادقت الملكة حينها على الطلب بما يتماشى مع واجبها بالابتعاد عن السياسة والتصرف بناء على مشورة الوزراء. لكن المحكمة العليا وجدت أن التعليق كان غير قانوني، ما أفضى إلى اتهام حكومة جونسون بتضليل الملكة عن عمد في إطار استراتيجيته لإتمام صفقة بريكست.
هناك أيضاً اتهامه بالفساد بعدما كشف أنه طلب في عام 2020 من متبرع لحزب المحافظين أموالاً لتجديد مقر إقامته في داونينغ ستريت (ربما لتكون لائقة بإقامة الحفلات)، وأفادت وسائل الإعلام البريطانية بأن هذا العمل كلف حوالى 112 ألف جنيه استرليني. لكن جونسون لم يفصح عن التبرعات بموجب قانون الرقابة الصارم على التبرعات والقروض السياسية، ونتيجة لذلك، غرمت لجنة الانتخابات حزب المحافظين 17800 جنيه استرليني.
بالتأكيد لم يمر وقت كاف على فضيحة "بارتيغيت"، التي أشعلتها صحيفة "ديلي ميرور" في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2021، كي ننسى تلك الصور التي وثقت اجتماع رئيس الوزراء مع نواب آخرين في مقر إقامته في عز الوباء للاحتفال، بينما حظرت قيود الصحة العامة التجمعات على الشعب البريطاني برمته، بما في ذلك لزيارة المرضى في المستشفيات أو حتى وداع الأحبة الذين قضى عليهم الفيروس ولو كانوا بأهمية الأمير فيليب زوج الملكة الراحلة إليزابيث.
لكن القشة التي قصمت صمود جونسون كانت الكشف عن أنه عين كريس بينشر، النائب السابق لرئيس الكتلة البرلمانية لحزب المحافظين في حكومته على رغم درايته المسبقة بمزاعم تحرشه جنسياً برجال في أحد النوادي الخاصة بلندن. لكن مكتب جونسون الذي واجه صعوبة في البداية في تفسير ما حدث، برر ذلك بأن جونسون نسي أن بينشر باح له بسوء سلوكه في السابق.
عودة جونسون بين مؤيد ومعارض
حتى صباح اليوم، كان بوريس جونسون يستمتع بوقته على أحد شواطئ جزر الكاريبي، لكنه حجز رحلة للعودة للندن هذا المساء بعد خبر تنحي ليز تراس، واستجابة لتشجيع عدد من النواب المحافظين له على العودة فوراً والترشح مجدداً لرئاسة لحزب الذين نشروا هاشتاغ أعيدوا بوريس #bringbackboris.
كذلك غرّد عضو البرلمان ماركو لونغي على "تويتر"، قائلاً عن جونسون: "هو الشخص الوحيد الذي لديه تفويض من المواطنين. هو الشخص الوحيد الذي يستخدم هذه السلطة الممنوحة له".
في رد الفعل الأولي للأحزاب الأخرى، ذكر رئيس حزب العمال البريطاني المعارض، السير كير ستارمر، أن الشعب البريطاني لا يستحق الفوضى. وطالب بإجراء انتخابات عامة، موضحاً: "الانتخابات العامة ضرورة ملحة من أجل مستقبل بريطانيا، لا يمكن خروج المحافظين من أزماتهم بتغيير القيادة بينما الشعب يعاني". كما طالب حزب الديمقراطيين الليبراليين بمنع بوريس جونسون من الترشح مرة أخرى لرئاسة حزب المحافظين. وقالت ديزي كوبر، نائبة زعيم الحزب: "أجبر بوريس على الاستقالة على خلفية عدد لا يحصى من الفضائح والأكاذيب. لم يعد المواطنون يثقون به. كما أنه أغرق المملكة المتحدة في أزمة سياسية".
جونسون: تشرشل الثاني؟
ليس غريباً على الحكومة البريطانية عودة رؤساء قادوها في السابق إلى المنصب مرة ثانية وثالثة وحتى رابعة كما في حالة وليام إيوارت غلادستون.
لكن لعل الأشهر من بين رؤساء الوزراء الثلاثة عشر الذين قادوا الحكومة مرتين هو ونستون تشرشل.
ومعروف أن جونسون لم يخف إعجابه برئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل ويعتبره مثله الأعلى وطالما حلم أن يذكره التاريخ مثله، حتى أن هدية وداع جونسون التي قدمها وزراء حكومته له كانت نسخة من الطبعة الأولى من كتاب تاريخ الحرب العالمية الثانية لـ تشرشل المكون من ستة مجلدات.
شغل تشرشل منصب رئيس الوزراء في الفترة ما بين عامي 1940 و1945 خلال الحرب العالمية الثانية، ثم عاد إليه عندما كان في سن الخامسة والستين ليبقى فيه مجدداً بين عامي 1951 و1955. فهل يعود جونسون بعد أشهر؟
في ظل كل ما سبق، هل سيكون من الحكمة أن يصب المواطنون البريطانيون ثقتهم في جونسون مرة أخرى مثلما فعلوا مع تشرشل؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رؤساء واستقالات
العامل المشترك بين كل من بوريس جونسون وليز تراس أنهما استقالا من زعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء هذا العام.
لكنهما لم يكونا الزعيمين الوحيدين في تاريخ بريطانيا اللذين تنحيا عن المنصب، فالقائمة تشمل 10 رؤساء وزراء آخرين قدموا استقالاتهم منذ بداية القرن العشرين، هم:
- نيفيل تشامبرلين (محافظ): استقال بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية. كان رئيساً للوزراء لمدة ثلاث سنوات، من عام 1937 إلى عام 1940.
- ونستون تشرشل (محافظ): استقال خلال فترة ولايته الثانية كرئيس للوزراء في عام 1955 بسبب اعتلال صحته. استمرت ولايته الثانية 3 سنوات و162 يوماً.
- أنطوني إيدن (محافظ): استقال عام 1957 بسبب أزمة السويس. بقي رئيساً للوزراء لمدة عام و279 يوماً فقط.
- هارولد ماكميلان (محافظ): استقال عام 1963 بعد فضيحة بروفومو. بقي في منصبه ست سنوات و282 يوماً.
- مارغريت تاتشر (محافظة): استقالت عام 1990 بعد فشلها في الفوز بغالبية في انتخابات قيادة الحزب. كانت رئيسة للوزراء لمدة 11 عاماً و209 أيام.
- جون ميجور (محافظ): استقال عام 1997 بعد خسارة الانتخابات العامة أمام توني بلير. ظل رئيساً للوزراء حوالى سبع سنوات.
- توني بلير (حزب العمال): استقال من زعامة الحزب عام 2007 خلال فترة ولايته الثالثة كرئيس للوزراء حيث تراجعت شعبيته في أعقاب غزو العراق. لقد ظل في السلطة لأكثر من 10 سنوات.
- غوردن براون (حزب العمال): استقال من منصب رئيس الوزراء وزعيم حزبه بعد خسارته في الانتخابات العامة 2010. كان رئيساً للحكومة لمدة عامين و319 يوماً.
- ديفيد كاميرون (محافظ): استقال عام 2016 بعد نتيجة استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. شغل منصب رئيس الوزراء لمدة ست سنوات و64 يوماً.
- تيريزا ماي (محافظة): استقالت عام 2019 بعد عدم تمكنها من تمرير اتفاقية بريكست. ظلت في السلطة لمدة 3 سنوات و12 يوماً.