طوال النصف الثاني من القرن العشرين عرفت الكاتبة الألمانية آنا سيغرز بأمرين مترابطين في ما بينهما: أولهما كونها واحدة من كبار الكتاب الروائيين اليساريين في أوروبا وانضباطها الحزبي والأيديولوجي الذي لم تشبه شائبة، وهي التي حرصت منذ انخراطها في الحراك الشيوعي في وطنها الألماني وفي منافيها العديدة على ألا تخرج عن الخطوط الرسمية الحزبية، وثانيهما روايتها الأشهر "الصليب السابع" (1941) التي كانت أبكر وأقوى ما كتب من روايات عن الحرب العالمية الثانية، إلى درجة أنها عادلت روايتي الحرب العالمية الأولى الكبيرتين، "الجحيم" للفرنسي هنري باربوس و"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" للنمساوي إريك ماريا ريمارك. ولعل المشكلة الأساس في حياة سيغرز وعملها كمنت في أن شهرة "الصليب السابع" جعلت كثراً يعتقدونها من كتاب الرواية الوحيدة في حياتهم. ولقد احتاج الأمر انتظاراً طويلاً قبل أن يكتشف القراء أن لسيغرز روايات ونصوصاً عديدة أخرى سيكون من أبرزها في فترة متأخرة من حياتها روايتها الرائعة "الموتى يبقون شباناً" التي كتبتها وهي في نحو الخمسين، مختتمة بها المرحلة الأدبية الأكثر خصباً في حياتها.
في مكانة توماس مان
والحقيقة أنه لئن كانت سيغرز قد انتظرت كل ذلك الزمن، فإن ذلك الانتظار كان من حسن حظ الرواية التي ستعتبر دائماً، إلى جانب أعمال كبار كتاب ألمانيا خلال تلك الحقبة، ولا سيما توماس مان ومن هم في مكانته، رواية التاريخ الألماني البالغ التعقيد والوقوف على حافة الهاوية بين نهاية الحرب الأولى وانهيار النازية عند نهاية الثانية. ولعل أول ما يمكن قوله عن "الموتى يبقون شباناً" إنها عرفت كيف تستفيد من التاريخ المتعرج لهذا البلد، ومن النضج الفني والإنساني الكبير الذي باتت سيغرز تمتلكه في عام 1949 حين أصدرت روايتها هذه، لتخرج بين يدي هذه الكاتبة عملاً ساحراً قوياً ربما يلوح في سمات أيديولوجية لكنها لا تقلل من القيمة الإنسانية للحكاية وللشخصيات من لحم ودم التي ترسمها الكاتبة في هندسة حكائية بديعة، إلى حد أن كثراً يفضلونها على "الصليب السابع" فيما يعتبرها آخرون الرواية المعادلة في مقلب آخر من المجتمع الألماني لرواية توماس مان "آل بودنبروك".
الاشتراكية وأهلها
هي إذاً رواية الجزء الأكثر ظلاماً في التاريخ الألماني الحديث، لكن لأنه مكتوب بقلم آنا سيغرز يبدو في الوقت نفسه حكاية تاريخ الاشتراكية في ألمانيا ومعاناة مناضليها، لكن هذا سيبدو في نهاية الأمر تبسيطاً، وذلك لأنها أيضاً رواية الناس وأحلامهم وخيباتهم وصراعاتهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء، نازيين أو مناضلين يساريين، أطفالاً أو بالغين، لامبالين أو متحمسين، طيبين أو انتهازيين. فها هي ذي سيغرز تعاملهم جميعاً كبشر ـ تنطق بأصواتهم جميعاً. وقد تحكم عليهم ولو مواربة من موقعها لكنها تترك تنفيذ الحكم لأصحاب العلاقة. مثلاً لأبناء وأحفاد إرفين العامل الشيوعي الذي تغتاله مجموعة من النازيين في أول الرواية، لكن اغتياله لا يعني اختفاءه بل حضوره في كل فصل بل صفحة، لأن معظم الأحداث ستدور من حول تلك الجريمة وصولاً إلى لحظة انتقام حفيده له في النهاية انتقاماً ليس في حقيقته سوى صورة للانتقام لألمانيا وتاريخها من المجرمين القتلة، لكن الأمور ليست مع ذاك على تلك البساطة، إذ على خلفية ذينك الحدثين اللذين يفتتحان الرواية ويختتمانها، تضعنا سيغرز على تماس مع الناس وليس فقط مع السياسات التي تحركهم، مع فعل الأحداث في مجتمع يتكون من بشر أحياء حتى وإن ماتوا. وذلكم هو أجمل ما في هذه الرواية التي تبدو كلوحة بانورامية لبلد وزمن كان يبدو من المستحيل اجتماعهما في نص واحد، لكن قلم هذه الكاتبة الكبيرة عرف كيف يخترع للمجتمع الألماني روايته التي تظهر الأعداء متجمعين من حول تاريخ واحد يحاولون تناتشه لكنهم يعجزون عن ذلك في نهاية الأمر. فلئن كانت سيغرز تفضل دائماً أن تصور الناس وهم يحفرون في التاريخ ليصنعوه، فإنها في النهاية، وكما في معظم رواياتها الكبرى، لا يمكنها أن تبتعد عن فكرة أن التاريخ هو في الحقيقة من يصنع الناس بغثهم وسمينهم، في بؤسهم وانتصاراتهم.
حياة حافلة
ولعل هذا ما يضعنا أمام سؤال أساسي هنا: ترى ما الذي جعل ابنة البورجوازية الكبيرة الألمانية نيتي ادفانيي، التي ولدت عائمة على الحرير في منزل أب يعمل في تجارة العتائق ويكسب منها أموالاً طائلة، تتحول لتصبح ذات يوم مناضلة يسارية تكتب عن الصراع الطبقي وتصف ثورات البائسين وتبدل كل ما كان يرتبط بماضيها، حتى اسمها الذي أصبح آنا سيغرز؟ السفر! "السفر وحده هو الذي بدلني، كانت آنا سيغرز تقول، السفر الذي أخرجني من قوقعتي الطبقية المخملية ووضعني على تماس مع آلام الناس". ومن ذلك التجابه ولدت خلال العقود المتوسطة من القرن العشرين تلك الروايات التي جعلت من آنا سيغرز واحدة من أكبر الكتاب الألمان، وإن كانت مواضيع تلك الروايات ذات الطابع الخطي، قد جعلتها في أحيان كثيرة تصنف في خانة الكتاب الستالينيين. وفي جميع الأحوال كانت آنا سيغرز ذات كتابة إشكالية، تسحر قارئيها لكنها تثير فيهم في الوقت نفسه حذراً لا برء منه.
بداوة طويلة
ولدت آنا سيغرز في 1900 في مايانس. وتابعت منذ صباها دراسة علم الفلسفة، كما درست الصينيات في جامعتي كولونيا وهايدلبرغ، ثم بعد أن كتبت أطروحة حول أعمال رامبرانت في عام 1924 أحست فجأة برغبة عارمة في السفر إلى الخارج. وبدأت سلسلة رحلاتها التي لم تقدها فقط إلى مشاهدة أقطار العالم ميدانياً، بل كذلك إلى الاحتكاك بالشعوب وبالنخب المثقفة. ومن هنا شكلت تلك الرحلات المنعطف الأساسي في حياتها. فلئن كانت تلك الرحلات قد كشفت لعينيها ضروب بؤس العالم، فإنها في الوقت نفسه وضعتها في إزاء ما خيل إليها، يومها، أنه الحل: النضال المنظم، وهكذا ما إن عادت إلى ألمانيا في 1928 حتى انضمت إلى الحزب الشيوعي الألماني، وبرزت في الأوساط الثقافية الألمانية من خلال العمل في الحزب، لكن ذلك العمل نفسه سرعان ما جعل النازيين، ما إن تسلموا السلطة في 1933، يودعونها السجن، لكنها لم تبق في السجن طويلاً، إذ إنها سرعان ما دبرت نفسها بحيث تهرب، بطريقة وصفتها مباشرة أو بشكل غير مباشر في عديد من رواياتها. وبعد هروبها توجهت إلى فرنسا ومنها إلى المكسيك في عام 1941 بعد أن احتل النازيون فرنسا وصارت إقامتها هناك مستحيلة. في المكسيك أسست آنا سيغرز "نادي هايني" الذي اجتمع فيه كتاب الاغتراب الألماني المعادين للفاشية، وضمن إطار ذلك النادي واصلت آنا العمل ضد هتلر وجندت المئات من الألمان ومن غير الألمان في المعركة الفكرية التي راحت تخوضها.
بعد انتهاء الحرب عادت آنا سيغرز إلى ألمانيا، وهناك سرعان ما أضحت شخصية رسمية إضافة إلى كونها شخصية أدبية وفكرية، إذ إنها في ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) التي تكونت في ذلك الحين، أصبحت رئيسة لاتحاد الكتاب، وعضواً فخرياً في أكاديمية الفنون، كما أن السوفيات منحوها في 1951 أعلى وسام لديهم وهو وسام لينين. ومنذ ذلك الحين وحتى رحيلها عام 1983 ظلت آنا سيغرز شخصية رسمية في السلطات الفكرية والأدبية، مما جعل الأجيال الجديدة من الكتاب تباديها بالعداء إذ اعتبرتها قيِّمة على قيم كلاسيكية من تلك التي يحلو للسلطات السياسية أن تجابه تجديدية وتجريبية الأجيال الجديدة بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العودة من المنفى
انطلاقة آنا سيغرز الأدبية تواكبت مع انطلاقتها السياسية، إذ إنها كتبت روايتها الأولى "ثورة صيادي سانت بربارا" في 1928 لتصف فيها ثورة الصيادين في إحدى جزر بحر المانش ضد التجار الجشعين الذين يستغلونهم، كما تصف تواطؤ الجنود مع التجار إلى درجة أن الأمر ينتهي بقمع الثورة بقوة السلاح، هذا الموضوع هو نفسه، وإن كان بأشكال مختلفة، الذي ستعود إليه آنا سيغرز في معظم أعمالها. فالثورة لديها هي الموضوع الدائم: الثورة على المستغلين، والثورة على الفاشية. مهما يكن فإن معظم الروايات التي كتبتها آنا سيغرز لم تنشر وتعرف على نطاق واسع إلا بعد عودتها من المنفى، حتى وإن كانت قد كتبت في المنفى وأحياناً من وحي ذلك المنفى. ولعل أشهر أعمال آنا، "الصليب السابع" التي تصف هروب سبعة مناضلين من سجون هتلر، سرعان ما يعتقلون من جديد ويصلبون باستثناء واحد منهم يبقى صليبه خاوياً كرمز للأمل. والثانية "الموتى يبقون شباناً".