رواية الألمانيّ توماس مان "الآثِم المقدّس"، وهي روايته الأخيرة التي نشرها عام 1951 قبل وفاته بأربع سنوات، صدرت في ترجمة عربية أنجزها الكاتب العراقي علي عبد الأمير صالح، عن دار الرافدين. ويعرف محبّو الأدب أنّ بول توماس مان الحائزة جائزة نوبل في الأدب عام 1929 نال شهرة ذائعة بعد نشره عملين رائعين اثنين أوّلهما رواية "موت في البندقيّة" (1912) التي حوّلها المخرج الإيطاليّ فيسكونتي إلى فيلم سينمائي عام 1971، وثانيهما روايته "الجبل السحريّ" (1924) التي عرفت نجاحاً عالمياً كبيراً.
أمّا مسيرة مان فكانت حافلة بالمواقف السياسيّة إلى جانب الإنجازات الأدبيّة، فعدا عن الروايات والقصص القصيرة والرسائل التي اشتهر بها هذا الكاتب، عرف كذلك بمواقفه السياسيّة التي كانت داعمة للراديكاليّة القوميّة الألمانيّة في الحرب العالميّة الأولى ثمّ ما لبثت أن تحوّلت إلى ليبراليّة اجتماعيّة مع وصول هتلر إلى الحكم عام 1930. وتذكر سير مان كلّها الخطاب الذي ألقاه عام 1922 والذي رفض فيه النظام القوميّ والقيصريّة التي وصفها بالبربريّة السياسيّة، وحذّر من مخاطرها ومن مخاطر النازيّة والتطرّف اليمينيّ. وما لبث مان أن غادر ألمانيا عام 1933 متوقّعاً ما سيقع من مآسٍ ومجازر، لكنّه لم يتخلّ عن قضيّته والتزامه وراح يحمّل نصوصه شحنات سياسيّة مبطّنة، حتّى من خارج ألمانيا، الذي وجد دوماً أنّ مهمّة المثقّف أكبر وأخطر من مجرّد تسلية القرّاء. رأى مان أنّ الكاتب لا يمكن أن يقف موقف المحايد إزاء المشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة المحيطة به، ومن واجبه أن يرفع صوته مدافعاً عن الإنسانيّة. فالفنّ ليس مجرّد تزجية للوقت، إنّما هو صوت عالٍ في وجه الجهل والبطش والبربريّة، وهو أمر التزمه طيلة مسيرته الأدبيّة.
بعد أن توقّع مان الخطر المحدق بألمانيا وبأهلها غادرها إلى السويد ومنها إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة ما كلّفه جنسيّته الألمانيّة عام 1936. لكنّ ذلك لم يغيّر من مواقفه بتاتاً وظلّ ملتزماً بقضايا وطنه وأرضه وأهله في كتاباته، هو الذي كتب في أحد نصوصه وعلى لسان إحدى الشخصيّات الرمزيّة التي وجد فيها النقّاد مرآة لنفسه: "ربّي كن رحيماً بروحي الفقيرة وبصاحبي وببلدي".
اعتبر كثيرون أنّ توماس مان سار بأدبه على خطّ كلاسيكيّ أسلوباً ومضموناً، ومن النقّاد مَن وجد فيه مكمّلاً بأعماله منهج غوته (1749- 1832)، أبي الأدب الألمانيّ، نظراً لما في أسلوبه من رصانة ومتانة ودقّة تكوين، يُضاف إليها الأسلوب الساخر والزاخر بالتهكّم. أمّا الميزة المشتركة بين مختلف أعمال مان فهي طبعاً ثيمة السحر التي كانت السبب وراء منحه لقب "الساحر" في عدد من الأوساط.
استيحاء الملحمة
استند توماس مان في روايته "الآثِم المقدّس" إلى ملحمة ألمانيّة تعود إلى القرن الثاني عشر وضعها أديب وشاعر ألمانيّ هو فارس نبيل في الأساس يُدعى "هارتمان فون أوه" (Hartman Von Aue, 1165-1215) كان من أبرز مؤلّفي الملاحم في الأدب، وعُرِف بثلاث ملاحم إحداها بعنوان "غريغوريوس" وضعها حوالى عام 1190، وهي التي اقتبسها مان في عمله النثريّ هذا الذي يتخطّى الثلاثمئة وستّين صفحة.
تدور الملحمة التي باتت نصّاً روائيّاً على يد مان حول حياة غريغوريوس الشاب الذي ولد لوالدين آثمين هما شقيق وشقيقة. ومع تطوّر الأحداث يجد غريغوريوس نفسه قد تزوّج والدته من دون أن يدري لكونها تخلّت عنه في صغره جرّاء شعورها العميق بالإثم والخطيئة، لكنّ القدر أعاده أمامها رجلاً غريباً وزوجاً، قبل أن يكتشف الاثنان هول المأساة والخطيئة التي وقعا فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تدور أحداث حياة غريغوريوس الطفل الملعون الذي تكون أمّه هي نفسها زوجته وهي نفسها عمّته أي شقيقة أبيه، في فضاء سرديّ أسطوريّ تمهّد له عبارة "كان يا ما كان" في بداية السرد وتبقي عليه اللغة الملحميّة الكلاسيكيّة المتينة الرصينة. ويكتشف القارئ أنّ مان اختبأ بحنكة روائيّة خلف صوت راوٍ يمسك بزمام السرد فيفتتحه ويختتمه وكأنّه يفتح ستارة ثمّ يسدلها في نهاية العرض. ويظلّ راوي مان حاضراً طيلة الوقت عبر جمل قصيرة جذلة غير متوقّعة، تؤطّر السرد وتذكّر القارئ بأنّ ما بين يديه هو قصّة. فيبدأ السرد بالراوي الذي يعرّف القارئ بنفسه قائلاً: "أنا كليمنز الرجل الإيرلنديّ" (ص: 10)؛ "الآن أبدأ بالكتابة وأكرّس نفسي لسرد حكاية تكون في الوقت نفسه مرعبة ومنوّرة إلى حدّ بعيد" (ص: 17)؛ "أنا راهب ولا أعلّق آمالاً على أيّ شيء على وجه هذه الأرض" (ص: 69). ثمّ ينتهي السرد بالقاصّ نفسه الذي يشكر القارئ على اهتمامه وانتباهه قائلاً: "كليمنز الذي جلب الحكاية هكذا إلى النهاية، يشكركم على حسن انتباهكم" (ص: 364).
عدا عن هذه الافتتاحيّة السرديّة والخاتمة المسرحيّة اللتين تؤطّران النصّ، يقع القارئ على ملاحظات يلقي بها الراوي في أماكن متعدّدة من السرد حيث يقول مثلاً لدى وصفه لوحاً يحتفظ به غريغوريوس طيلة السرد (هو اللوح الذي كُتِبت عليه قصّة حياته): "إنّني راهب مسكين ولوح كهذا من أجمل أنواع العاج، مؤطّر بالذهب ومطوّق بكلّ صنوف الأحجار الكريمة، لن يكون يوماً ملكاً لي". (ص: 79).
حلقة مغلقة من أحداث مسرحيّة يمسك بزمامها راهب إيرلنديّ يختار أن يبدأ سرده بالنهاية ليعود إلى الوراء رويداً رويداً، ويكشف للقارئ مأساة هذا الرجل الآثِم الذي يُدعى غريغوريوس والذي صبّ عليه القدر جامّ لعناته.
بين الميثولوجيا الإغريقيّة والمغفرة المسيحيّة
تقوم قصّة غريغوريوس بطل توماس مان على المزج بين عدّة أساطير من الميثولوجيا الإغريقيّة. فغريغوريوس يشبه أوّلاً بقصّته، قصّة الملك "أوديب" الذي ولد بخطيئة ثمّ كبر وقتل والده وتزوّج والدته من دون أن يعلم، بعد أن أنجز مهمّة صعبة أنقذ بها البلاد والعباد من شرّ محدق. و"أوديب" هي تراجيديا إغريقيّة من الأدب الكلاسيكيّ وضعها الكاتب سوفوكليس حوالى عام 429 قبل المسيح، تلتقي في معظمها مع قصّة غريغوريوس الملعون، هو الآخر، منذ ولادته والذي كان سبب وفاة والده/ خاله (نظراً لأنّ والده هو شقيق والدته). وبعد سفر طويل ينقذ غريغوريوس أهل بلاد بعيدة من الحرب والحصار بشجاعته وحنكته ويتزوّج الملكة الدوقة التي ليست سوى والدته. وبينما يعاقب أوديب نفسه على خطيئته وإثمه بأن يفقأ عينيه ويهيم تائهاً في الأرض، يختار غريغوريوس عقاباً على طريقة عقاب بروميثيوس الإله الذي عاقبه زوس بأن علّقه على صخرة لسنوات طويلة. فيجتمع غريغوريوس في هذه النقطة الثانية بأسطورة بروميثيوس ويمضي سبعة عشر سنة معلّقاً على صخرة قبل أن يتمّ إنقاذه.
أمّا الخلاص الذي يبلغه غريغوريوس فهو مستوحى تماماً من الدين المسيحيّ القائم على محبّة الله ورحمته ومغفرته. فعلى عكس أوديب وبروميثيوس اللذين يبقيان معاقبين في الميثولوجيا الإغريقيّة، يُسامح الله غريغوريوس ويغدقه بنعمه ويجعل قصّته مثالاً للرحمة والمغفرة. ومن هنا عنوان الرواية "الآثِم المقدّس" بمعنى أنّ الإنسان الآثم النادم تُغفر له خطاياه ويتحوّل بمحبّة الله من خاطئ إلى إنسان مرضيٍّ عنه، غمره الله برأفته. وهذا السماح المسيحيّ يهيّئ له الكاتب بحنكة سرديّة منذ البداية حينما يكتب: "مباركون أولئك الذين أُخفيت خطاياهم" (ص: 8)، وكأنّ الآثم صار مغفوراً برحمة الله عليه ومغفرته.
رواية "الآثِم المقدّس" لتوماس مان هي رواية الإثم والندم والرحمة الإلهيّة في إطار سرديّ سهل إنّما كلاسيكيّ ميثولوجيّ ممعن في الوصف والتفاصيل. فبين الميثولوجيا الإغريقيّة والدين المسيحيّ رجل ينتقل من ضفّة الإثم إلى ضفّة الخلاص، من ضفّة الهلاك إلى ضفّة المغفرة.