يدخل الصراع الإثيوبي بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وحكومة رئيس الوزراء آبيي أحمد منعطفاً مهماً عبر الانتقال بالمحادثات إلى جنوب أفريقيا الإثنين، 24 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
تأتي محاولات السلام هذه المرة كأول لقاء رسمي ومباشر بين الطرفين، وفي ظل ظرف دولي معقد، ينشغل فيه العالم بالحرب الأوكرانية، وواقع ميداني يحرص فيه كل جانب على دعم مواقفه ضمن حرب لا تزال مشتعلة، فهل يسهل التوصل إلى سلام يحقن الدماء؟
نداءات متكررة
خلال الأشهر الأخيرة بذلت أطراف دولية وإقليمية جهوداً كبيرة لوقف الصراع الإثيوبي، وعلى الرغم من "شعار السلام" الذي ظل يتوافق عليه الطرفان المتحاربان، إلا أن معظم الاستجابات كانت تكتيكية، إما رهينة للضغوط يتعرضان لها، أو لحسابات في مسار تأرجح الحرب ما بين التقدم والإخفاق.
نداءات متكررة عبر الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ظلت طيلة العامين الماضيين منذ بدء الحرب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، تطالب الأطراف المتنازعة بالحل السلمي والوصول إلى سلام ضمن ظروف إنسانية بالغة السوء.
وكانت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي استعادت في يوليو (تموز) 2021 العاصمة مقلي بعد انسحاب القوات الحكومية والإريترية الحليفة من الإقليم.
وتمكنت من السيطرة على عديد من المناطق في إقليمي أمهرا وعفر، وبدأت الزحف نحو العاصمة أديس أبابا بعد استعادة مدينة دسي الاستراتيجية في أكتوبر2021.
ورافق ذلك التقدم في الخامس من نوفمبر 2021 تكوين تحالف أطلق عليه اسم "الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية والكونفيدرالية الإثيوبية"، ضم إلى جانب جبهة تحرير "تيغراي" وجبهة تحرير "أورومو" المتحالفتين، حركات مسلحة من إثنيات تمثل (غامبيلا وعفار والصومال وبني شنقول وكيمانت وسيداما وأغوي).
وكانت الحكومة الإثيوبية أعلنت حالة الطوارئ وسط التصعيد العسكري بين الجانبين، وبعد اقتراب الفصائل المتحالفة من العاصمة بأقل (400 كيلومتر)، بدأت الحكومة في مزيد من الاستعدادات العسكرية والاستنفار الشامل بشعار "إن جرذاً يبتعد عن جحره أصبح أقرب إلى الموت".
حينها تكاثرت الضغوط الدولية على الطرفين، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى الوقف الفوري للقتال والركون للتفاوض السلمي.
كما صدرت توجيهات صارمة من الولايات المتحدة الأميركية وعديد من الدول الغربية لوقف القتال، وإتاحة وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين في مختلف المدن.
وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن دعا وقتها إلى وضع حد للحرب، معبراً "عن قلق الولايات المتحدة الكبير من خطر العنف العرقي والطائفي الذي تفاقم بسبب الخطاب العدائي لمختلف أطراف النزاع".
وتراجعت الجبهة عن زحفها نحو العاصمة وسط الضغوط الدولية إلى جانب ظروف ميدانية، كما استردت الحكومة بعض المناطق في إقليمي عفر وأمهرا.
تحول جديد
بدأ تحول جديد في مسار الصراع وكانت مبادرة السلام الأولى، التي رشح لقيادتها الاتحاد الأفريقي بدعم وتنسيق من أطراف دولية، أعقبت القرارات الحكومية في تبني دعوة الحوار، التي أطلقها رئيس الوزراء آبيي أحمد في السابع من يناير (كانون الثاني) 2022.
وقال آبيي إن الحرب التي خاضتها حكومته مع "جبهة تحرير تيغراي" والقوى التي دعمتها "كانت بسبب تهديدها لسيادة البلاد وأمنها ووحدتها"، وتبع ذلك عفو شامل عن سجناء سياسيين في مقدمتهم مؤسس جبهة تحرير تيغراي سبحت نغا وآخرون.
واتخذت الحكومة قراراً بوقف إطلاق النار و"هدنة مفتوحة" من جانب واحد في مارس (آذار) 2022 لتسهيل وتسريع وصول المساعدات العاجلة إلى إقليم تيغراي، وهي الهدنة الثانية، بعد أن كانت اتخذت قراراً مماثلاً في يونيو (حزيران) 2021 عقب عملية إنفاذ القانون وسط ضغوط دولية واتهامات لها في الحقل الإنساني.
وامتدت الهدنة الأخيرة لخمسة أشهر، وعادت المعارك منتصف شهر أغسطس (آب) الماضي، وسط تبادل طرفي النزاع الاتهامات في الخرق.
ثم جاءت مبادرة جبهة تحرير تيغراي في سبتمبر (أيلول) الماضي لتنفيذ وقف فوري لإطلاق النار مع الحكومة من أجل توفير أجواء ملائمة لعملية السلام.
وقال بيان للجبهة إن سلطات إقليم تيغراي مستعدة للانخراط في مفاوضات سلام فورية مع الحكومة بدعم دولي وتحت قيادة الاتحاد الأفريقي من أجل إنهاء الصراع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان إعلان الجبهة بادرة تفاؤل نحو السلام أشادت بها جهات دولية وإقليمية بعد رفضها لمبادرة حكومية سابقة، تحفظت فيها على قيادة الاتحاد الأفريقي، وعلى إشراف المبعوث الخاص للقرن الأفريقي أولوسيغون أوباسانغو لقيادة المفاوضات.
تبع موافقة الطرفين الحكومي والجبهة على مبادرة الاتحاد الأفريقي، التي أطلقها في السادس من أكتوبر الحالي دعوة لعقد مفاوضات سلام في جنوب أفريقيا، ولقاءات بين رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسي فكي والمبعوث الأميركي للقرن الأفريقي مايك هامر.
وأشارت دوائر دبلوماسية حينها إلى أن الجانبين عملا على وضع خريطة طريق لتسوية الصراع، ووقف إطلاق النار، وبدء التجهيز لعقد المفاوضات بين الطرفين للوصول إلى اتفاق يحقق الاستقرار ويحقن الدماء.
وكان المبعوث الأميركي بدأ مطلع سبتمبر الماضي اتصالات مكوكية مع جميع الأطراف ضمن التفويض الأفريقي من أجل الوصول إلى مفاوضات جادة لإنهاء الصراع.
أبعاد محسوبة
يعد تيغراي من أهم الأقاليم الإثيوبية، سواء باعتبارات حضارية سياسية أو اقتصادية، فضلاً عن موقع جوسياسي محايد لكل من السودان وإريتريا، كما يتميز بقربه من البحر الأحمر، وكونه إرثاً حضارياً قديماً يرتبط تاريخياً بمملكة أكسوم.
وتصب حضارة الإقليم كذلك في إمكاناته السياحية التي لا تزال آثارها باقية، ويزخر برصيد ثروات معدنية متنوعة وإمكانات زراعية، ويمثل الإقليم الخامس مساحة، والرابع تعداداً في السكان بعد كل من أروميا وأمهرا والصومال، ولقومية تيغراي أبعاد محسوبة في صفات حضارية متوارثة.
كما تمثل التجربة السياسية الحديثة التي حكمت فيها إثيوبيا لمدة 30 عاماً خلال القرن الماضي في ظل قيادة "الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية" بقيادة رئيس الوزراء السابق ملس زيناوي رصيداً سياسياً ذا أثر مباشر في الصراع الدائر.
معارك وتفاوض
وفي الوقت الذي لا تزال المعارك تدور بين الجانبين، ومع إعلان الحكومة سيطرتها على بعض المناطق الحضرية في تيغراي، وعزمها "السيطرة على جميع المطارات والمرافق الفيدرالية والمنشآت الأخرى في الإقليم، وفق ما يمليه الواجب الدستوري من حماية سيادة إثيوبيا وسلامتها الإقليمية"، حسب إعلانها، تظل المفاوضات المرتقبة في حكم المجهول.
ويغذي ذلك خلافات تتمثل في جوانب سياسية ودستورية ترجع خلفياتها الحقيقية إلى تنافسات عرقية بين قوميتي أمهرا وتيغراي، لكن على رغم ما يراه بعض المراقبين من صعوبات قد تطيل أمد المحادثات بين الطرفين، هناك أمل كبير للتوافق في ظل الوساطة والضغوط الأممية على الجانبين.
وتعد هذه المفاوضات هي الأولى منذ تفاقم الخلاف بين جبهة تحرير تيغراي وحكومة آبيي أحمد، بعد استبدال "تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية" الحزب الحاكم في السابق، بالحزب الجديد لرئيس الوزراء "حزب الازدهار" في ديسمبر (كانون الأول) 2019، ضمن تحالف جمع بين قوميتي أمهر وأرومو، وتمكن من عزل عناصر تيغراي، الذين فقدوا سيطرتهم على السلطة وفضلوا الاحتماء بإقليمهم.
ثم ما تبع ذلك من تطورات الحرب في اتهام الجبهة بالهجوم على القيادة العسكرية الشمالية، مما اعتبرته الحكومة تعدياً على النظام والجيش، وأمر رئيس الوزراء آبيي أحمد بعملية إنفاذ القانون ضد الإقليم في نوفمبر 2020.
ويتمثل الخلاف السياسي الأساسي بين الجانبين في اتهام الجبهة رئيس الوزراء آبيي أحمد بمخالفه الدستور، وتعطيل الانتخابات عن موعدها الذي درجت عليه كل خمسة أعوام، واستئثاره بالسلطة مخالفاً بذلك قواعد النظام الفيدرالي.
وفيما ترى الحكومة تخطي جبهة تيغراي لسلطة أديس أبابا المركزية بعد إجرائها انتخابات الإقليم وتكوين سلطة مخالفة للمركز، إلى جانب استنادها وإشراكها لقوى أجنبية داعمة لها، سيرت الحكومة تظاهرات في أديس أبابا وعديد من الأقاليم نددت بالتدخل الأجنبي ودعت الولايات المتحدة الأميركية للتوقف عن دعم الجبهة التي وصفتها بالإرهابية، وعدم التدخل في شؤون إثيوبيا بأي شكل من الأشكال.
وإلى جانب الخلافات السياسية، تمثل التحالفات بين الجبهة والقوميات الصغيرة الأخرى في مواجهة القوميتين الرئيستين، بما تحتويانه من كيانات كميليشيات فانو الأمهرية وغيرها تعقيداً آخر ضمن مطالبات ذاتية، وخلافات قومية حدودية بخاصة بين أمهرا وتيغراي على بعض المناطق المتنازع عليها، إلى جانب التعديات الإقليمية التي تتهم فيها إريتريا بالتدخل المباشر لطرف الحكومة، وارتكابها تجاوزات إنسانية في إقليم تيغراي.
تحد أفريقي
وضمن المهمات الملقاة على عاتق الوسيط الأفريقي من المقرر أن يلعب دوراً مهماً في حمل الجانبين للوصول إلى توافق يحقق تراضياً تدعمه القوى الدولية المراقبة للأوضاع، تبدأ أولى خطواته في إيقاف الحرب وإعادة الثقة بين الجانبين ورفع الحصار عن إقليم تيغراي، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية ورد الخدمات الأساسية من كهرباء وغيرها.
وكان رئيس الوزراء آبيي أحمد قال، الخميس الماضي، إن "الحرب في شمال إثيوبيا ستنتهي ويسود السلام، لن نواصل القتال إلى أجل غير مسمى، أعتقد أنه في فترة قصيرة من الزمن سنقف مع إخواننا في تيغراي من أجل السلام والتنمية".
وتمثل هذه المحادثات في جوانب أخرى اختباراً حقيقياً للاتحاد الأفريقي ولجنته المنبثقة لمنطقة القرن الأفريقي برئاسة أولوسيجون أوباسانجو إلى جانب الرئيس الكيني ويليام روتو وغيره من وساطة أفريقية.
فبعد التشكيك السابق للجبهة في قيادة الاتحاد وممثلها للقرن الأفريقي ثم تراجعها عن ذلك، في ظل التفويض الدولي لآلية الاتحاد يتوقع للوساطة الأفريقية لعب دور مهم يمثل اختباراً لها في التصدي والقيام بالواجب تجاه قضايا المنطقة.