يبدو أن القاهرة في طريقها إلى التحرر من عقدة الدولار الأميركي بعد ارتباط وثيق غير معلن رسمياً لأكثر من 60 عاماً بعد خسائر مدوية حققها الجنيه المصري مقابل العملة الأميركية فقد الأول خلالها أكثر من 25 في المئة لصالح الأخير، بعد أن هبطت العملة المصرية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، إذ تسجل حالياً 19.71 جنيه مقابل الدولار، بحسب بيانات البنك المركزي المصري في الوقت الحالي، وسط زيادة كبيرة في الطلب على العملة الأجنبية ونقص بالمعروض. وارتفع الدولار الأميركي بأكثر من 25 في المئة منذ مارس (آذار) الماضي مقابل الجنيه المصري.
وأعلن محافظ البنك المركزي المصري حسن عبدالله خلال رئاسته الجلسة الرابعة بعنوان "التضخم والسياسات النقدية" في اليوم الأول للمؤتمر الاقتصادي المنعقد حالياً بالعاصمة الإدارية شرق العاصمة القاهرة، اعتزام البنك المركزي إطلاق مؤشر جديد للجنيه المصري مقابل سلة من العملات والذهب وغيره قريباً، موضحاً أن "من الخطأ ربط البعض العملة المحلية بالدولار، بخاصة أن أميركا ليست الشريك التجاري الأول لمصر".
تغيير ثقافة ربط الجنيه بالدولار
وأكد أن "الجنيه المصري حقق صعوداً مقابل بعض العملات مثل الجنيه الاسترليني والليرة التركية"، مستدركاً "لكن البعض لم يلحظ ذلك بسبب التركيز على ربط قوة الجنيه بالدولار". وأكد أن "الاتجاه الآن في البلاد يميل نحو مسعى جديد لتغيير الثقافة والفكر في شأن ارتباط سعر صرف الجنيه بالدولار"، قائلاً "نحن لسنا دولة مصدرة للبترول حتى يستمر سعر الصرف مرتبطاً بالدولار". وأشار إلى أن "الأزمة المالية الحالية الناتجة على أثر اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، والمصنفة على أنها صدمة عرض في الأساس، يكون حلها الأنسب بالعمل علي خفض كلفة السلع المستوردة". وتابع أن "البنك المركزي بصدد الانتهاء من إعداد عقود التحوط المستقبلية لمخاطر تذبذب سعر العملة"، لافتاً إلى أن "العقود المستقبلية للتحوط لمخاطر العملة تسهم في سرعة حركة الاقتصاد".
وكانت وكالة "بلومبيرغ" قد كشفت في وقت سابق عن أن البنك المركزي المصري يخطط للسماح بإطلاق مشتقات جديدة للعملة من أجل إطلاق العنان للسيولة في السوق المحلية، وإتاحة الأدوات للتحوط ضد المخاطر التي يتعرض لها الجنيه بعد أن هبط إلى مستوى قياسي وبموجب الخطة، ستوفر البنوك المحلية عقوداً محلية (للجنيه) غير قابلة للتسليم التي تسمى "أن دي أف"، فضلاً عن خيارات تسمح للشركات والمستثمرين لأول مرة بالمراهنة أو التحوط ضد التقلبات في العملة المصرية، وفقاً لأشخاص على دراية مباشرة بالأمر، وهي الخطوة التي تهدف إلى بناء سوق محلية أكثر شفافية وذات صدقية لبناء التوقعات في شأن تحركات العملة، وفقاً للأشخاص.
مستهدفات جديدة للتضخم
وحول مكافحة البنك المركزي لمستويات التضخم المرتفعة، قال محافظ "المركزي" إن "رفع أسعار الفائدة يكون فعالاً بشكل كبير في ظل حدوث الصدمات الاقتصادية النابعة من جانب الطلب، بينما التضخم الحالي جاء بسبب نقص المعروض، وليس لزيادة الطلب، وهو ما لا يجدي معه رفع سعر الفائدة، فمن السهل قرار زيادة العائد، لكن تبعاتها ستكون سلبية، إذ ستدخل في الدورة الإنتاجية التالية، وستزيد من الكلفة وزيادة الأسعار"، مشيراً إلى أن "الأزمة المالية الحالية مستمرة، وليس من المتوقع أن تكون هناك انفراجة قريبة بحسب توقعات المحللين الاقتصاديين الدوليين"، مضيفاً "تركيز البنك المركزي في الفترة الحالية هو السيطرة على التضخم ونعمل على أكثر من محور، ويراقب المستجدات كافة من تحركات البنوك المركزية العالمية واستمرارها في رفع الفائدة، وكذلك خروج الأموال الساخنة، إضافة للمعروض النقدي"، كاشفاً عن إعداد مستهدفات جديدة للتضخم خلال السنوات المقبلة قبل نهاية العام الحالي.
ويستهدف البنك المركزي متوسطاً آمناً من وجهة نظره لمستوى التضخم خلال الربع الأخير من العام الحالي 2022 يدور في فلك الزيادة والنقصان عن السبعة في المئة، وهو مما يعني إمكان وصول معدل التضخم إلى تسعة في المئة أو الهبوط إلى خمسة في المئة.
ووفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، فقد ارتفع التضخم لأسعار المستهلكين إلى 15 في المئة خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، مقابل نحو 14.6 في المئة خلال أغسطس (آب). وهذا أعلى معدل للتضخم السنوي لأسعار المستهلكين في مدن مصر منذ نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2018 عندما سجل التضخم مستوى 15.7 في المئة. وبلغ الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية مستوى 133.8 نقطة خلال سبتمبر 2022، مسجلاً بذلك ارتفاعاً قدره 1.6 في المئة عن أغسطس 2022.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبه، قال نائب محافظ البنك المركزي رامي أبو النجا، إن "وتيرة التخارج للتدفقات النقدية كانت كبيرة، مما أثر على الأسواق الناشئة"، مضيفاً في كلمته خلال الجلسة نفسها أن "المؤشرات أثبتت أن أزمة التضخم العالمية ليست موقتة أو انتقالية"، موضحاً "آليات التعاون مع الحكومة لتحقيق هدف استقرار الأسعار والتعامل مع الأزمة الحالية، إذ يعمل الجانبان على عديد من الأهداف المشتركة".
آراء المحللين
واتفقت آراء المحللين والمتخصصين لـ"اندبندنت عربية" على أهمية استحداث مؤشر جديد للجنيه المصري، إذ اعتبرها البعض خطوة تاريخية للتحرر من سطوة الدولار الأميركي، بينما اعتبرها آخرون فرصة جيدة للحفاظ على قيمة العملة المحلية ومحاربة ظاهرة اكتناز الدولار محلياً.
الهرب من سطوة الدولار
وقال المتخصص في شؤون المصارف ماجد فهمي إن "استحداث مؤشر للجنيه المصري جديد ليكون مرتبطاً بسلة من العملات والذهب قرار جيد للغاية، إذا تم تنفيذه بالفعل لأسباب عدة"، موضحاً أن "الثقافة المصرفية والاقتصادية عند المصريين منذ عقود بنيت على ربط الجنيه مقابل الدولار في صباح كل يوم جديد على رغم أن أميركا ليست شريكاً تجارياً أو اقتصادياً أول لمصر، ولكن إذا كان هناك ربط بعملة، فليكن اليورو أكبر شريك تجاري لمصر". وأكد أن "مصر وعدداً كبيراً من دول العالم ربطت عملتها جبراً بعد توقيع اتفاقية عالمية في الأمم المتحدة عند تأسيس صندوق النقد الدولي، اعتمدت ضغطاً أن الدولار الأميركي هو أساس لتقييم العملات والعقود والصفقات تحت سقفها، مما دفع عدداً كبيراً من الدول، تحت هذا الضغط، لربط عملتها بالعملة الخضراء الأميركية"، مشيراً إلى أن "الجنيه المصري ظل مرتبطاً بالجنيه الاسترليني حتى عام 1962 قبل ربطه بالدولار الأميركي، عام 1962، عند سعر 2.6 دولار مقابل كل جنيه". وأكد أن "دولاً كثيرة تبحث في الوقت الحالي فك الارتباط بالدولار بعد أن حققته من خسائر بسبب التضخم، خصوصاً مع اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية في فبراير (شباط) 2022"، لافتاً إلى أن "أسباب التضخم الحالي في مصر ترجع إلى سببين أحدهما نتيجة ضعف العملة المحلية مقابل الدولار، بينما الآخر مرتبط بارتفاع أسعار السلع في بلد المنشأ".
الحرب العالمية الثانية
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) نظمت هيئة الأمم المتحدة مؤتمراً أطلق عليه اسم (مؤتمر النقد العالمي)، وانعقد في غابات بريتون في نيوهامشير بالولايات المتحدة، وخلص إلى توقيع اتفاقية بين الدول الـ44 المشاركة تحوي خططاً من أجل استقرار النظام المالي العالمي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس صندوق النقد والبنك الدوليين، واعتمدت الاتفاقية الدولار الأميركي المعيار النقدي الدولي لكل عملات العالم، بعد أن كان الذهب هو الغطاء النقدي لكل هذه العملات، وتعهدت واشنطن آنذاك أنها ستمتلك غطاءً من الذهب، يوازى ما تطبعه من دولارات، وتثبيت قيمة الدولار أمام الذهب بما يعادل 35 دولاراً للأوقية، أي إن من يسلم أميركا 35 دولاراً تسلمه "أوقية ذهب"، بينما باقي العملات يتم تقييمها بالدولار.
ظاهرة اكتناز الدولار
من جانبه، قال أستاذ الاقتصاد بالأكاديمية البحرية لعلوم النقل البحري علي الإدريسي إن "إعلان البنك المركزي المصري وضع مؤشر الجنيه المصري أمام العملات الأخرى والذهب بدلاً من الدولار ليس جديداً، لكنه نظام معمول به لدى الاقتصادات المتقدمة". وأوضح أن "المؤشر يعني ربط الجنيه مع العملات الأجنبية والعربية الأخرى بسلة واحدة مع الذهب وقياس زيادة أو انخفاض قيمة الجنيه أمام تلك العملات"، مضيفاً أن "أهمية ذلك تكمن في الحفاظ على قيمة الجنيه المصري من خلال وضع مؤشرات واضحة ومحددة منعاً لتقلباتها، مما يفيد في اتخاذ القرارات الاقتصادية في الفترات المستقبلية وفقاً لمحددات واضحة، إضافة إلى أن ربط الجنيه أمام العملات الأخرى والذهب سيساعد على منع ظاهرة اكتناز الدولار ويرفع الطلب عليه، بالتالي سيدعم التحوط في شأن العملة وسعر الصرف الأجنبي علاوة على تغيير الثقافة في شأن سعر الصرف الأجنبي"، مشيراً إلى أن "الجنيه المصري ليس مربوطاً رسمياً بالدولار على رغم اعتماد حركة التجارة الخارجية، سواء الصادرات والواردات به، بعكس الدول النفطية والخليجية التي تربط عملتها بالدولار صعوداً وهبوطاً".
القيمة العادلة
وقال المحاضر بالجامعة الأميركية هاني جنينة إن "المؤشر الجديد المزمع إطلاقه يقيس سعر صرف الجنيه المصري مقابل سلة من العملات لدول لديها شركات تجارية كبيرة مع مصر، ومنح كل سعر صرف للعملة وزناً نسبياً وفقاً لحجم وقيمة الشراكة مع الدولة صاحبة العملة"، مضيفاً أن "القياس سيتم وفق الآليتين الأولى (سعر الصرف الإسمي) وتعني مراقبة سعر صرف الجنيه المصري مقابل سلة العملات المحددة على الشاشات ووضع متوسط لها ليكون هو مؤشر الجنيه المصري"، أما الآلية الثانية فـ"يطلق عليها سعر الصرف الحقيقي ليكون موازياً لسعر الصرف الاسمي، وهذا المؤشر يعتمد على قياس سلة من أسعار السلع والخدمات في مصر مقارنة بسلة من الأسعار والخدمات في الدول ذات الشراكة التجارية الكبيرة مع القاهرة"، مشيراً إلى أن "هذا المؤشر أكثر دقة، إذ يعتمد على السعر الحقيقي ويضع في اعتباره مستويات التضخم"، لافتاً إلى أن "أهم ميزة لسعر الصرف الحقيقي أنه يحدد القيمة العادلة للجنيه المصري".
التبادل التجاري
وبلغ حجم التبادل التجاري بين مصر والولايات المتحدة 9.1 مليار دولار خلال العام الماضي 2021، بينما وصل حجم التبادل التجاري بين مصر والاتحاد الأوروبي العام الماضي إلى نحو 29.6 مليار دولار في الوقت الذي سجل فيه حجم التبادل التجاري بين مصر والصين نحو 19.7 مليار دولار، وسجل حجم التبادل التجاري بين القاهرة وموسكو 4.7 مليار دولار عام 2021، وفقاً لبيانات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري.