مع فشل محاولة رئيس الوزراء البريطاني وزعيم حزب المحافظين الأسبق بوريس جونسون العودة للحكم بعد استقالته قبل أكثر من شهرين، ربما يسدل الستار موقتاً على أشهر صحافي تحول إلى سياسي مستفيداً من مهاراته المهنية في الصعود السياسي وكسب التأييد الشعبي.
ولم يكن جونسون أول من عمل في الصحافة قبل أن يصل إلى مقدم السياسة في بريطانيا، لكنه بالتأكيد تجاوز الجميع بمن فيهم الشخص الذي ألف عنه كتاباً وهو رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل، كما أن دخول الصحافيين إلى السياسة ليس حكراً على بريطانيا، لكن لم يصل أحد إلى مقدم صفوف الحكم مثلما حدث في تاريخ السياسة البريطانية.
فقد عمل تشرشل مراسلاً عسكرياً لمدة عام في صحيفة "ذا مورننغ بوست" خلال حرب "البوير"، وفي الستينيات من القرن الـ 20 عمل نايغل لاوسون رئيساً لتحرير مجلة "ذا سبيكتاتور" صوت حزب المحافظين، وبعد ذلك أصبح لاوسون الرجل الثاني في حكومة مارغريت تاتشر حين تولى حقيبة وزارة الخزانة في المبنى رقم "11 داوننغ ستريت" المجاور لها.
يذكر أن العمل الصحافي الأخير لجونسون قبل تفرغه للبرلمان وسياسة الصفوف الأولى كان رئاسة تحرير مجلة "ذا سبيكتاتور" خلال الفترة من 1999 إلى 2005.
ومن البارزين في حزب المحافظين حالياً وبدأ حياته بالعمل صحافياً لفترة مايكل غوف، فقد كان وزيراً في حكومة جونسون قبل أن يستقيل ويحتمل أن يعود للصفوف الأولى في حكومة ريشي سوناك.
ولا يقتصر دخول الصحافيين إلى السياسة على حزب المحافظين، بل إن لحزب العمال نصيباً من الصحافيين الذين تحولوا إلى سياسيين، فمايكل فوت زعيم حزب العمال وقاده إلى هزيمة مدوية خلال ثمانينيات القرن الماضي، كان رئيساً لتحرير صحيفة "ذا إيفننغ ستاندرد".
الصحافيون وميولهم السياسية
يظل جونسون السياسي الذي عمل في الصحافة لفترة طويلة، إذ بدأ بعد تخرجه من الجامعة متدرباً في صحيفة "تايمز" عام 1987 قبل أن يطرد منها لأنه "فبرك" تقريراً نشرته الصحيفة عن موضوع أوروبي، وبعد ذلك عمل جونسون منذ نهاية الثمانينيات حتى النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي مراسلاً للشؤون الأوروبية من بروكسل لصحيفة "ديلي تلغراف" المقربة من حزب المحافظين.
وتشير الفضائح والاتهامات التي طاولت جونسون خلال سنوات زعامته لحزب المحافظين ورئاسته مجلس الوزراء إلى أنه لم يتخل عن سلوكه الذي بدأ به عمله الصحافي وطرد بسببه من "التايمز".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن الصحافة في الولايات المتحدة مثلاً تتسم بغياب تام لرأي الصحافي وميوله السياسية وكذلك الصحافة "الموضوعية" في أنحاء العالم الغربي، إلا أن الصحافة في بريطانيا متسامحة إلى حد ما مع الميول السياسية للعاملين فيها.
وأحياناً ينظر إلى ذلك على أنه نوع من التوازن، لكن الأمر يصبح واضحاً في توجهات الصحف الرئيسة، فمثلاً صحيفة "ديلي تلغراف" معروفة بأنها تعبر عن حزب المحافظين وإن لم تكن مرتبطة به، أما صحيفة "ديلي ميرور" فتعبر عن حزب العمال وإن لم تكن مرتبطة به أيضاً، وقديماً كان ينظر إلى صحيفة "الغارديان" على أنها معبرة عن وجهة نظر اليسار السياسي البريطاني قبل أن يصبح توجهها ليبرالياً إلى حد ما.
وفي النهاية فإن الصحافة والسياسة مهنتان لا تحتاجان إلى المؤهلات نفسها، بمعنى أنهما ليستا بحاجة إلى ماجستير أو دكتوراه في فرع علمي محدد، والكفاءة في المجالين تتطلب مهارات تواصل وقدرة على المراقبة والتحليل، والأهم التواصل مع الجماهير، وهذا ما برع فيه جونسون وإن فشل فيه غيره من الصحافيين السياسيين.
مهارة الصحافي سياسياً
وبما أن الصحافة مهنة إيصال الأخبار والمعلومات والرأي إلى الجماهير، فإن الصحافي الذي يصبح سياسياً يمتلك مهارة في القدرة على الوصول إلى الجماهير وكسب تأييدهم خلال الانتخابات، وعلى رغم أن الجماهير بشكل عام تشكك في تصريحات السياسيين إلا أن السياسي ذو الخلفية الصحافية يمكنه أن يغلف خطابه السياسي بشكل يوحي بالصدقية أكثر من غيره، وتتميز بريطانيا بعدد معقول من الصحافيين الذين نجحوا كسياسيين في الوصول إلى أعلى المناصب، لكن محاولات نظرائهم في الولايات المتحدة مثلاً غالباً ما باءت بالفشل من البداية.
وأخيراً ذكرت الأنباء أن كاتب الرأي والصحافي في "نيويورك تايمز" نيكولاس كريستوف ينوي الترشح لمنصب حاكم ولاية أوريغون هذا العام.
وفي مقارنة بين الصحافيين السياسيين في بريطانيا والولايات المتحدة لمناسبة نية كريستوف الترشح لمنصب حاكم أوريغون، كتبت هيلين لويس في مجلة "ذا أتلانتيك" مقالة عن تقنية الصحافة في الولايات المتحدة الأميركية ربما كانت سبباً في فشل الصحافيين الذين تحولوا إلى سياسيين.
وتقول لويس "إن الصحافي في بريطانيا ليس مضطراً إلى الالتزام بمعايير صارمة كتلك التي تفرضها المؤسسات الإعلامية الأميركية كي تبدو غير منحازة سياسياً"، لكنها تشير إلى نقطتين في غاية الأهمية عن خطورة عدم الفصل بين الصحافة والسياسة، أولهما "أن الصحافي يعتبر إثارته لرد فعل غاضب من أحد الأطراف إنجازاً حتى لو من طريق فبركة وهذا ما يجب ألا يصح في السياسة، وثانيهما أن الصحافي في بريطانيا يقدم ميوله السياسية أحياناً على الموضوعية المهنية، وتلك مشكلة حين يتولى الصحافي منصباً عاماً كسياسي عليه أن يراعي مصالح الناس كافة وليس أصحاب تيار سياسي معين".
وعلى رغم أن احتمالات عودة جونسون للصفوف الأولى في السياسة البريطانية تظل واردة، إلا أن اضطراره إلى الاستقالة في يوليو (تموز) بعد سلسلة فضائح ومخالفات مع فشله في دخول المنافسة لخلافة ليز تراس قد يعني ضربة لمسيرة الصحافيين في السياسة البريطانية على الأقل لفترة مقبلة.