تصاعدت المخاوف من أن توقظ الانتخابات البرلمانية في تونس المقررة 17 ديسمبر (كانون الأول) المقبل النزعة القبلية في ظل القانون الانتخابي الجديد الذي اعتمد الاقتراع على الأفراد بدلاً من القوائم وكرس تقسيماً جديداً للدوائر الانتخابية.
وكان من اللافت تحذير أطلقه رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر، من أن يتم في الاستحقاق المذكور تغليب النزعة القبلية، بخاصة عند اختيار المقترعين لممثليهم، وذلك بعد مخاوف مماثلة عبرت عنها قوى سياسية ونشطاء حقوقيون.
خطر يتربص الدولة
تحذير بوعسكر الذي أطلقه في شأن النزعة القبلية جاء بعد تحذيرات مماثلة صدرت عن نشطاء سياسيين وحقوقيين على غرار الأمين العام لاتحاد الشغل، النقابة ذات الثقل الشعبي والتاريخي القوي، نور الدين الطبوبي، الذي قال في وقت سابق من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، إن "هناك خطراً يتمثل في عودة العروشية في هذا الظرف السياسي المترهل".
ومنذ صدوره، في سبتمبر (أيلول) الماضي أثار القانون الانتخابي موجة من الانتقادات حيث اشترط على المرشح المحتمل أن يجمع 400 تزكية بالتناصف، ووضع تقسيماً جديداً للدوائر الانتخابية التي باتت ضيقة، ما جعل عديداً من الأطراف تحذر من استغلال النفوذ المالي والجهوي من قبل المرشحين المحتملين.
ونجحت الدولة الوطنية خلال العقود السابقة في إخماد قوة القبائل والعروش، لكن عديداً من الحوادث شهدتها البلاد في السنوات الماضية أحيت المخاوف من عودة القبلية بقوة، بخاصة في ظل حالة الوهن التي تعيشها السلطات المركزية التي تشتت بعد ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011.
وقال بوعسكر إن "القانون الانتخابي الجديد سيخلق احتداداً في التنافس بين المرشحين، بخاصة في الدوائر الضيقة، ما قد يؤدي إلى تغليب نزعة العروشية على التنافس النزيه وعلى المصلحة العامة في الجهات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهته اعتبر النائب في البرلمان المحلول، حاتم المليكي أن "العروشية والقبلية هي قبل كل شيء تبقى خطراً يتربص الدولة، بخاصة في ظل القانون الانتخابي الجديد، والسبب هنا ليس الاقتراع على الأفراد في حد ذاته، بل في التقسيم الجديد للدوائر الانتخابية".
وتابع المليكي في تصريح لـ"اندبندنت عربية" أن "القانون الانتخابي نص على دمج بعض المعتمديات في إطار دوائر انتخابية، وهو ما سيؤدي إلى تنافس بين مرشحين كل واحد منهم ينتمي إلى معتمدية معينة، بالتالي هذا القانون أخذنا مباشرة عن قصد أو عن غير قصد إلى أن يصبح هذا الاستحقاق قبلياً بامتياز، حيث سيخلق تنافساً محموماً بين المعتمديات بخلاف ما كان يحدث سابقاً، حيث التنافس على أساس برامج حزبية وأيديولوجية أكثر منه تنافساً على أساس انتماء جهوي".
وحول أسباب توجيه هيئة الانتخابات انتقادات للقانون الانتخابي في هذا التوقيت الذي بدأ فيه العد التنازلي للانتخابات، اعتبر المليكي أن "الهيئة الحالية اختارت منذ البداية القبول بإخلالات عدة بخلاف ما كان سائداً لدى الهيئات السابقة التي كانت تحدد عدد ساعات الاقتراع وغيره دون تقديم تنازلات، ووصل الأمر بها إلى القبول بعزم رئيس الجمهورية قيس سعيد تغيير القانون الانتخابي حتى بعد بدء تقديم الترشحات".
واستدرك المليكي بالقول "لكن من الواضح أن الهيئة اليوم بدأت تدرك أن دورها في العملية الانتخابية كان سلبياً للغاية، وربما أرادت أن تنأى بنفسها عن بعض الإخلالات وعدم مطابقة الانتخابات للمعايير الدولية، وقد تكون أدركت أنها معزولة محلياً ودولياً بسبب خياراتها".
وواجهت الهيئة انتقادات حادة في الأيام الماضية، لا سيما بعد صدور وثيقة مطلب الترشح للانتخابات البرلمانية، وأيضاً تمديدها آجال قبول الترشحات بثلاثة أيام، إضافة إلى الانقسامات التي طغت على عملها منذ البداية، حيث استقال منها عضو وهو قاض، وجمدت عضوية آخر.
والمخاوف في شأن عودة القبلية في تونس ليست وليدة اللحظة على رغم المساعي التي كرستها الحكومات السابقة من أجل درء هذا الخطر.
وقال المحلل السياسي، محمد صالح العبيدي، إن "القانون الانتخابي أثار منذ البداية مخاوف مشروعة، حيث سيكون الجاه المالي والانتماء إلى جهة ما محدداً بشكل كبير للمرشحين الذين سيصعدون إلى مجلسي النواب والجهات والأقاليم".
وأردف العبيدي في تصريح لـ"اندبندنت عربية" أن "المخاوف تتضاعف إذا ما استحضرنا حوادث لا تزال ماثلة لدى التونسيين مثل الاشتباكات التي تمت في عام 2020 بين قبيلة من ولاية مدنين وأخرى من ولاية قبلي جنوب البلاد".
ورأى أن "النزعات القبلية لا تزال موجودة بقوة في بعض المناطق التونسية على رغم سعي الدولة الوطنية لوضع حد لها، والأرجح أن هذه النزعات ستسهم بشكل كبير في صعود مرشحين على حساب آخرين في الانتخابات المقبلة، وإذا ما أضفنا المناخ السياسي المتوتر أصلاً فإن الوضع يصبح صعباً فعلاً".
يأتي ذلك في وقت تحتدم فيه الأزمة بين الرئيس قيس سعيد ومناوئيه الذين يتهمونه بقيادة انقلاب ومحاولة إرساء ديكتاتورية جديدة، وهي تهم ينفيها الرجل الذي يعد بحماية الحقوق والحريات، لكنه يسعى في المقابل إلى إعادة هندسة المشهد السياسي.
مخاوف غير مبررة
في المقابل، تذهب أوساط سياسية تونسية موالية للرئيس سعيد إلى اعتبار أن المخاوف التي تطرحها أطراف عدة في شأن النزعة القبلية التي قد تشهدها الانتخابات المقبلة غير مبررة.
وقال الناشط السياسي المؤيد للرئيس سعيد، نبيل الرابحي، إن "في الأنظمة الديمقراطية هناك تقريباً 250 طريقة للاقتراع وكلها ديمقراطية ومع الأسف كلها فيها إيجابيات، لكن فيها أيضاً سلبيات، هناك اقتراع على الأفراد وآخر على القوائم وهناك اقتراع على دورتين وغيرها".
وأوضح الرابحي في تصريح لـ"اندبندنت عربية" أن "المخاوف التي يطرحها بعضهم في شأن القبلية غير مبررة، لأن المسألة تعود إلى طبيعة المجتمع التونسي، حتى في الانتخابات البرلمانية عام 2019 وقبلها في 2014 وانتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 2011 قامت الأحزاب التي قدمت قوائمها بمراعاة الوازع القبلي في الجهات".
ويقر الرابحي بأن النزعة القبلية لا تزال موجودة بمناطق عدة في تونس، لافتاً إلى أنه "لم يقع الانصهار بشكل تام في الدولة الوطنية وفي بعض الأحيان تخرج النزعات القبلية إلى العلن، بخاصة بعد الثورة سواء في التنافس في مناجم الفوسفات أو غيرها".
وعلى رغم إقرارهم بأن النزعة القبلية ستكون حاضرة في الاستحقاق المقبل، إلا أن الأوساط السياسية المقربة من الرئيس التونسي تستبعد أن تؤثر هذه النزعة في إفرازات الانتخابات البرلمانية التي تعد المرحلة الثانية من خريطة طريق أعلنها سعيد في ديسمبر 2021 بعد استحواذه على أغلب الصلاحيات في خطوة مثيرة.
وقال الرابحي إن "النزعة القبلية لن تؤثر أو تغير منحى الانتخابات، لأنها تبقى في نهاية المطاف عاملاً من مجموعة عوامل، من بينها العامل الذكوري والديني وهي عوامل تشكل خصوصية الشعب التونسي".
وتأتي هذه التطورات في وقت يسعى فيه الرئيس التونسي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي بحيث "تعاد السلطة إلى أصحابها، أي الشعب" وذلك في توجه يثير معارضة واسعة، لكن سعيد لم يتراجع على رغم الضغوط الداخلية والخارجية التي كرست ضده منذ تدشينه المسار الحالي في 25 يوليو (تموز) 2021.
وقد تشهد الأيام المقبلة احتدام الاستقطاب والشد والجذب بين السلطة والمعارضة التي تتوعد بمزيد من الضغط في الشارع ضد خيارات الرئيس التونسي والمسار الذي يقوده وسط غموض يلف مآلات هذه الأزمة، بخاصة أن سعيد لم يقم بأي خطوة تنطوي على تراجع محتمل له، ولم تبعث المعارضة بدورها بأي رسالة مفادها أنها قد تلجأ إلى المهادنة بعد فشلها في المراهنة على عرقلة هذا المسار.