أحد "الألغاز" التي طرحتها حرب بوتين على أوكرانيا هي سبب نظرة غالبية الروس الموالية لها، ولامبالاة القسم الآخر. سبب غياب التعاطف التام لما يحصل لمن كانوا يعتبرونهم أقرب الشعوب إليهم أي الأوكرانيين.
لا أقدم أجوبة عن هذه الأسئلة أدناه، ولكن أسرد جانباً من تجربة عايشتها لا أشك أنها تنطبق على كثير من الروس، ولربما تقدم تفسيراً لنظرتهم إلى بلادهم وقاداتهم وإلى العالم بالتالي لموقفهم مما يحصل.
كيف يتغير فكر الإنسان، ما الذي يؤثر في خياراته، وكيف يمكن للمرء أن يحكم على الأمور بموضوعية. يبدو لي أحياناً أن كثيرين منا يعلقون في الماضي ويخلطونه بتخيلاتهم عنه، ويخاطرون بذلك بالابتعاد عن الواقع والعيش في مكان مواز لا يمت للواقع بصلة. وتجد نفسك معها، تنظر إلى العالم عبر نظاراتك الإيديولوجية بدلاً من تقييم الواقع على حقيقته. وأحياناً كثيرة هذه المعتقدات والتصورات الشخصية تفرض نفسها على مواقفنا في الحياة بدلاً من الحقائق والأدلة.
لقد ولدت في ليننغراد وترعرعت فيها حتى انهيار الاتحاد السوفياتي ورحيلنا عنه. وقبل ذلك بقليل صوت سكان المدينة لصالح إعادة تسميتها التاريخية سان بطرسبرغ وذلك أثناء موجة من خلع ثياب الشيوعية الذي ساد في جمهوريات الاتحاد السوفياتي. طبعاً كنت صغيراً حين انتقلنا من البلاد ولكن عندما أصبحت في سن المراهقة وهي تزامنت مع عقد التسعينيات فقد أصبحت أطالع عن روسيا وأخبارها.
من المعلوم أن الأوضاع في التسعينيات في روسيا كانت صعبة لغالبية السكان ورائعة لحفنة قليلة منهم، لذلك تحول الحنين إلى الماضي السوفياتي إلى وباء عام. كنت مثلاً بنفسي من الملتزمين بتسمية مسقط رأسي بـ"ليننغراد" كما لو أن التسمية الحالية هي المسؤولة عن تحويل المدينة إلى عاصمة الجريمة المنظمة في روسيا. وما أضاف بهرة على موضوع الحنين للماضي والتفاخر به هو بعض تلك الموروثات المادية التي تركتها لنا الحقبة السوفياتية، وفي حالتي مثلاً كانت هي الميدالية التذكارية التي تمنح لكل من ولد في "ليننغراد" مع عبارة منقوشة عليها "ولد في مدينة لينين". رباه، يا له من شرف.
هنا لا يهم أننا لم نكن حينها ملمين بتاريخ الرجل، ماذا فعل وكيف حكم وإلام أفضت ثورته. المهم أنه بدا عظيماً وأوحى بالزمن الذي كانت فيه المدينة آمنة ومنضبطة ومكاناً جميلاً للطفولة (أليس معظمنا يميل إلى الاعتقاد بأن طفولته كانت سحرية؟).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهناك الحنين إلى الحجم الكبير للبلاد، قطعة اليابسة الهائلة هذه كانت مدعاة للتفاخر، وعلى رغم الأسى لفقدان الأطراف إثر تفكك الاتحاد السوفياتي كان العزاء أن روسيا لا تزال كبيرة لا بل كبيرة جداً، وهو أمر كان مهماً لتغذية كبرياء مراهق روسي الأصل مثلي. أما وإن أضفت إليها الاعتراف بامتلاكنا العدد الأكبر من الرؤوس النووية حتى بعد انهيار الإمبراطورية السوفياتية فإن ذلك كان يجعل الدماغ ينتشي (لا وقت للتفكير بالجحيم النووي المحتمل).
لم ينته عالم المراهق الخيالي هنا، هناك شحنات إضافية كانت تلعب دائماً دوراً في تأجيج مشاعر الحنين هذه، كالتذكير الدائم بالإنجازات السوفياتية في الفضاء التي سبقت أعداءنا الأميركيين اللدودين، هناك الانتصار الكبير في الحرب العالمية الثانية، هناك نوابغ الشطرنج وأبطال الهوكي والأمة التي تواظب على القراءة.
نجح النظام الشيوعي السوفياتي على رغم كل جرائمه بحق شعبه قبل الشعوب الأخرى، في خلق هالة من المجد حول صورته وتحول لدى كثيرين إلى مخلوق أسطوري، خصوصاً أن آخر ربع قرن من عمره تخلى عن دمويته الفاضحة وتحول إلى "القمع الناعم" ضد المعارضين والمنشقين.
كل هذا يقارن بماذا في التسعينيات؟ الفوضى والاغتيالات، الفضائح السياسية، الرئيس المريض والسكير، الحرب الشيشانية ووحولها، انعدام مصادر الدخل وانهيار الصناعة، سمعة روسيا ومكانتها الدولية في الحضيض.
كان هناك توق لرجل ينهي الفوضى ويرتب البلاد داخلياً ويحصنها دولياً هو الطاغي لدى كثيرين وأنا من بينهم. ظهور فلاديمير بوتين بشرنا بأنه سيكون ذلك الشخص المخلص لهذا الوطن العظيم الجريح.
في قفزة زمنية إلى الأمام، أعترف أن وضوح الرؤية عندي كما عند كثيرين أخذ وقتاً طويلاً. ومما لا شك فيه أن المحطات الأساسية التي تفتح البصيرة على الحقيقة خلال العقد الأول من حكمه كانت: اعتقال ميخائيل خودوركوفسكي (2003)، وتسميم المرشح الأوكراني المعادي لموسكو فيكتور يوشنكو والعداء للثورة البرتقالية في أوكرانيا (2004)، واغتيال رجل الاستخبارات المنشق ألكسندر ليتفينينكو في لندن عبر تسميمه بالبولونيوم المشع (2006)، وحرب جورجيا (2008)، ومقتل سيرغي ماغنيتسكي في الحبس وهو المحامي الذي كشف عن سرقات أموال الدولة (2009).
لكن بصيرتي تجاه حقيقة الأوضاع في روسيا، لم تظهر إلا مع حرب جورجيا، وكلياً - أي عندما توقفت معها عن إيجاد تبريرات لنفسي لأفعال الرئيس - عقب إعادة انتخاب بوتين في 2012 وقبلها التزوير الكبير في انتخابات الدوما (2011) وما تبعها من تظاهرات عرفت باحتجاجات ساحة بالوطنايا في موسكو.
ما يعني أن هناك ما يقرب من العقد من المديح لرئاسة بوتين وإنجازاته والقبول العام بنظامه، الذي يبدو اليوم [النظام]، من هذا البعد الزمني الذي نحن فيه، أنه لم يكن سوى مسيرة في إعادة بناء إمبراطورية لطغمة حاكمة وشعب تعيس.
في بدايات حكمه، في عام 2000 أعاد بوتين لحن النشيد السوفياتي وهو بالمناسبة وموضوعياً، لحن جميل، قوي، آسر، ربما من أكثر الأناشيد الوطنية جاذبية في العالم. وكنت هللت لهذا القرار، ليس لأنه ذكرني بالاتحاد السوفياتي، بالنهاية كنت صغيراً ولم أختبر سماعه خلال العصر السوفياتي. بل لأنه كان فعلاً مجيداً أو يوحي بذلك ويتناسب مع الأسطورة السوفياتية التي بدأنا نعيشها. في الألعاب الأولمبية لعام 2022، والتي منعت روسيا من المشاركة فيها (بسبب فضائح المنشطات المتكررة) وسمح لرياضيين من روسيا بالمشاركة تحت العلم الأولمبي الروسي ومن دون عزف للنشيد الوطني الذي استبدل بمقطع من كونتشيرتو رقم 1 للبيانو من تأليف الموسيقي الروسي العظيم بيتر تشايكوفسكي، أدركت أخيراً كم هي نقية تلك الموسيقى التي لا غبار أيديولوجي عليها، وكم يحتاج المرء من إرادة لإعادة النظر والتفكير ليفهم رمزيات الصورة والألحان والأفعال.
ومعها أدركت حماقتي (المعذورة) من سن المراهقة لحنيني لاسم ليننغراد، وهي مدينة لا يوجد لها أية صلة حقيقية بلينين وحتى لو وجدت سطحياً. اسمها الحقيقي سان بطرسبرغ، مدينة القديس بطرس، شفيع الإمبراطور الروسي بطرس الأكبر الذي أمر ببنائها، هذا هو اسمها الحقيقي، التاريخي، الذي ولدت به. نعم هذا الاسم يأخذ منحى ألمانياً، ولكن ليس لأن ألمانيا فرضته، وليس لأنها احتلت المدينة وأعادت تسميتها، بل لأن القيصر الروسي كان معجباً بالجالية الألمانية في موسكو، معجباً بجهودها، وطريقة عيشها، برخائها وعقيدتها البروتستانتية، ولأنه طبعاً كان مولعاً بشرب البيرة في حاناتها ومعاشرة الفتيات هناك. ما أقصد قوله إن الإيحاء الألماني في الاسم مثل إشارة إلى عولمة المدينة آنذاك وانتمائها إلى العالم الأوروبي. أما ليننغراد وكالننغراد وستالينغراد وغيرها فليست إلا غنائم وزعها البلاشفة على قاداتهم الأموات، وأحياناً الأحياء.
إذا تخلصت من تعلقي باسم المدينة ومن النشيد السوفياتي، وفقدت اهتمامي بالحجم الجغرافي للبلاد، عندما أدركت أن هذا لا علاقة له بتاتاً بسعادة المواطن.
يا له من تباه سخيف بكبر البلاد وتمددها على 9 أو 10 أحزمة زمنية، لا بل كنت ألقي باللائمة على قيصر ألكسندر الثاني لبيعه ألاسكا (سنة 1867) للأميركيين وبسعر زهيد، آه كم لكنا أكبر لو بقيت ألاسكا معنا. ثم بعد حين، عندما تمعنت بالأمر شكرت الله على ما حصل، أتتخيل لو كان بمقدور ستالين أن يرسل ضحاياه إلى مكان أبعد وأكثر قسوة مثل معسكراته للأعمال الشاقة في ألاسكا. ما ينفع أن تكون بلادك الأكبر في العالم وزميلك المواطن الأكثر تعاسة في العالم. السعادة لا تأتي من حجم البلاد بل من عدالة نظامها وحكمة حكامها وهذا ما لم نجد إليه سبيلاً بعد في روسيا. بل علقنا مع رئيس علق في طفولته وحنينه للماضي وسحب البلاد معه إلى جحيم الحرب بيد حاملاً الحقيبة النووية بيده الأخرى.
أخيراً، هناك شريحة كبرى في روسيا تعيش في أمجاد الماضي التي ذكرت بعضها أعلاه. تعيش بالماضي لأن حاضرها لا يبدو مشرقاً. ولكن هناك أيضاً شريحة كبيرة، وبينها أناس من جيلي، يعيشون على فكرة أن روسيا أكبر من مجرد بلد. بأن لديها رسالة روحية للعالم، وهناك مهمة تقوم بها لنشر هذه الرسالة (عن طريق الحروب والدمار كما يبدو). ثم إن هناك العالم الغربي الذي بأكمله يريد تدمير هذه البلاد المباركة لأنها حرب بين الخير والشر، وروسيا الخيرة لا بد أن تنتصر ولذلك لديها الحق باللجوء لكل الوسائل المتاحة ومن بينها إبادة الكوكب، لكن حتى لو فعلها زعيم الكرملين فإن المسؤولية - كما يردد الشعب الروسي - ستقع على الغرب الذي يدفع روسيا للحرب والقتل والتدمير.