قدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعوداً كثيرة، بما في ذلك جعل روسيا مكاناً جذاباً للعيش بحلول عام 2020. وبدلاً من ذلك، هاجر ملايين الروس واستقروا في الغرب. كما فشلت جهود الحكومة لإبطاء التدهور الديموغرافي ودفعت التعبئة العسكرية أكثر من 300 ألف روسي إلى الفرار من البلاد.
وفي مقالة له في "وول ستريت جورنال"، يخلص ميخائيل خوداركوفسكي* إلى أن هذه العوامل ترسم صورة قاتمة مع تداعيات واضحة: فبدلاً من إحياء عظمة بلاده، ربما يكون بوتين شاهداً على انهيار الإمبراطورية الروسية الأخيرة. لطالما كانت روسيا قوة استعمارية في حالة إنكار، وأصرت على أنها، على عكس الفتوحات الغربية العنيفة، قامت بحماية الشعوب الأصلية. هذا التناقض بين الخطاب والواقع يتجلى في اسم البلد الرسمي الحالي على أنه "الاتحاد الروسي".
هناك 21 جمهورية داخل روسيا، كل منها تمثل اسمياً مجموعة عرقية غير روسية. في العهد السوفياتي، رسمت موسكو الحدود الإقليمية وسمحت لكل منطقة باستقلال ثقافي خاص بها. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، طالبت هذه الجمهوريات الصغيرة باستقلال إداري وسياسي حقيقي. كانت الحكومة الروسية الديمقراطية الجديدة بقيادة بوريس يلتسين مستعدة للتنازل ووقعت معاهدات ثنائية مع الجميع باستثناء الشيشان.
ويقول خوداركوفسكي إنه خلال تلك السنوات القليلة من الديمقراطية، ظهرت مواضيع كانت محظورة. لكن مع صعوده إلى الحكم عام 2000، كبح بوتين أجواء الحرية والنقاشات وقرر تقويض الاستقلال الذاتي للجمهوريات العرقية ومحو حدودها العرقية الإقليمية وتحويلها إلى كيانات إدارية روسية نظامية. لكن وتيرة ما يسمى الترويس [فرض اللغة والثقافة الروسية] لم تكن سريعة بما يكفي وهو ما أدركه بوتين وحلفائه، إذ انخفض عدد السكان من أصل روسي بشكل حاد على مدى ثلاثة عقود، بينما زاد عدد السكان غير الروس بسرعة. وفقاً لبعض التقديرات، يمكن أن تصبح روسيا دولة ذات غالبية مسلمة بحلول عام 2050.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى خوداركوفسكي أن بوتين مهووس بالجين الروسي الذي وصفه بأنه "خاص" و"معرض للخطر". لقد غزا أوكرانيا جزئياً لزيادة عدد السكان السلاف في روسيا من خلال دمج الأوكرانيين الذين يعتبرهم "الروس الصغار" [أو "مالوروسيا" وهو مصطلح جغرافي وتاريخي استخدم لوصف مناطق أوكرانيا الحديثة]. هذا الموقف، جنباً إلى جنب مع تطلعات السيد بوتين لـ"العالم الروسي" الذي يتحد فيه جميع المتحدثين بالروسية تحت حكم موسكو، يحمل تشابهاً قوياً مع سياسات ألمانيا في الثلاثينيات. لهذا السبب تقوم موسكو باختطاف ونقل الأشخاص، بخاصة الأطفال، من الأراضي الأوكرانية المحتلة إلى روسيا.
لطالما اعتبرت موسكو الطابع الروسي متعدد الأعراق تهديداً للدولة الموحدة. واستخدم بوتين حربه مع أوكرانيا لتنظيم ما تصح تسميته: الإبادة الجماعية لمختلف الشعوب غير الروسية. منذ الأيام الأولى للغزو، دأبت موسكو على تجنيد الأفراد من الأعراق غير الروسية بشكل غير متناسب. ومع ذلك، بدأت المناطق غير الروسية بالاستيقاظ على مخططات موسكو الشائنة. في الأسابيع الأخيرة، اندلعت الاحتجاجات في عدد من المناطق الإسلامية في داغستان وباشكورتوستان، وادعت الشيشان أنها استوفت حصتها ورفضت إرسال مزيد من الرجال، ومثلها فعلت ياقوتيا (جمهورية ساخا)، وهي منطقة كبيرة في سيبيريا.
لم تقلل السلطات الأوكرانية من أهمية تلك الاحتجاجات، إذ دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي شعوب القوقاز وغيرهم من غير الروس إلى رفض إرسال أبنائهم للموت في أوكرانيا. وأضاف أن لديهم قضية مشتركة واحدة وهي التحرر من الهيمنة الروسية.
ودعا خوداركوفسكي بوتين إلى النظر إلى التاريخ. فخلال الحرب العالمية الأولى، حاولت السلطات الروسية تجنيد مسلمين من آسيا الوسطى. كانت النتيجة انتفاضة كبيرة في صيف عام 1916، استغرقت أشهراً وقمعها عشرات الآلاف من القوات الروسية. في النهاية، لم يرسل أي من المسلمين إلى المعركة، وبسحب وحدات الجيش من الجبهة لمواجهة الانتفاضة الداخلية، سرعت روسيا بهزيمتها في نهاية المطاف. بعد أقل من ستة أشهر، أجبر القيصر وحكومته على الاستقالة.
من خلال إرسال رجال غير روس غير مدربين تدريباً جيداً إلى أوكرانيا، ربما تواجه موسكو قريباً مصيراً مشابهاً. قد تمتد قرون من المرارة والإحباط المكبوتين من حكم موسكو إلى مواجهة عسكرية وحرب أهلية. بالنظر إلى الهزائم العسكرية الحالية لروسيا، فإن هذا ليس بعيد المنال. إذا حدث ذلك، وعندما يحدث ذلك، ستنهار روسيا كما حدث مع إمبراطورية القياصرة والاتحاد السوفياتي. سيكون من المفارقات أن الرجل الذي أراد إحياء الاتحاد السوفياتي بدلاً من ذلك، كان شاهداً على انهيار الإمبراطورية الروسية الأخيرة.
*ميخائيل خوداركوفسكي هو بروفيسور في التاريخ بجامعة لويولا في شيكاغو