بعد كازاخستان وطاجيكستان ظهرت قيرغيزستان وأرمينيا على مشارف الطريق تلوحان بما يثير مخاوف العاصمة الروسية من احتمالات خروجهما عن السياق، في توقيت مواكب لتحذيرات وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف من مغبة محاولات ما وصفه بـ "تجزئة" فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي التي قال إنها تظل في صدارة أهداف الغرب.
وكان لافروف كشف في كلمته التي ألقاها خلال اجتماع لرؤساء وكالات الاستخبارات في بلدان رابطة الدول المستقلة "الكومنولث" في موسكو عن أن هدف الغرب هو زيادة تفتيت ما وصفه بفضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي والتشاجر بين الشعوب، وأبرز مثال على ذلك هو خلق "مناهضة لروسيا" في أوكرانيا.
ونقلت وكالة "ريا نوفوستي" عن وزير الخارجية الروسية ما قاله حول أنه "لا يخفى على أحد أن فلسفة فرق تسد تستخدم بنشاط من الغرب، في ما يتعلق بدول الاتحاد السوفياتي السابق"، إلى جانب تصريحاته حول أن هدف البلدان الغربية واضح تماماً ويتمثل في "تفتيت فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي بشكل أكبر، وإثارة الشجار بين بلداننا وشعوبنا لفرض مخططات تفاعل غير مربحة تستهدف الدفع بها إلى هامش الساحة الدولية".
محاولات أميركية وغربية
وذلك ما يعني كثيراً من الخطورة التي يتصاعد أوارها يوماً بعد يوم منذ ما قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2014، فما إن كشف الرئيس بوتين عن استراتيجية بلاده على الصعيدين الإقليمي والعالمي خلال تقريره الذي ألقاه في مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونخ عام 2007، وأعلن فيه رفض روسيا عالم القطب الواحد، حتى عادت الولايات المتحده ومعها بعض حلفائها من بلدان الاتحاد الأوروبي إلى سابق محاولاتها التي لم تكن توقفت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية عام 1991، وتواصلت في روسيا إبان تسعينيات القرن الماضي من أجل تنفيذ مخطط تقسيمها على غرار ما سبق وواجهته الدولة السوفياتية من تفرقة وانقسام.
وها هي واشنطن تعود ثانية لبلدان آسيا الوسطى على وقع محاولة استرجاع شعارات الثورات الملونة، ومنها "ثورة الورد" في جورجيا عام 2003، و"الثورة البرتقالية" في أوكرانيا 2004، و"ثورة السوسن" في قيرغيزستان 2005.
ولعل ما يشهده العالم من تطورات في عدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق يقول إن الأوضاع الراهنة هناك لا تبشر بخير وفير، فما يجري في مولدوفا من صراع لم يتوقف منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي السابق بين شطري الجمهورية، يتخذ أبعاداً جديدة على وقع احتدام المواجهة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا على مقربة من الحدود المولدوفية، ويهدد باحتمالات فتح جبهة جديدة، في توقيت مواكب لتحول واضح على صعيد الأوضاع في ما وراء القوقاز، إذ كشفت أرمينيا عن توجه جديد في سياساتها مغاير لما سبق وقبلت به بالأمس القريب.
وكانت القيادة الأرمنية بزعامة رئيس الحكومة نيكول باشينيان اضطرت إلى قبول الوساطة الروسية في صراعها التاريخي طويل الأمد مع أذربيجان، وهي الوساطة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأسفرت عن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وقبول نشر قوات حفظ السلام الروسية على الحدود التي بلغتها القوات الأذربيجانية في معاركها التي استهدفت إعادة مقاطعة ناغورنو قره باغ والأقاليم الأذربيجانية التي كانت أرمينيا تحتلها منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنافس روسي تركي أميركي
وفي وقت تصور كثيرون أن روسيا تستعيد سابق مواقعها المؤثرة في ما يسمى بالجوار القريب، بما سمح لها ضمناً احتواء محاولات تركيا الرامية إلى استعادة سابق نفوذها ومكانتها بين البلدان الطورانية التركية الأصول والثقافة والتاريخ، عادت الولايات المتحدة لذات المحاولات التي لم تتوقف منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وكانت الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى العاصمة الأرمنية يريفان في سبتمبر (أيلول) الماضي نقطة تحول في ميول القيادة الأرمنية، تتبدى بوادرها اليوم في ما أعلنه رئيس الحكومة الأرمنية نيكول باشينيا حول دعوته المراقبين الأوروبيين للحدود مع أذربيجان، وهو ما يعتبره مراقبون في موسكو انتهاكاً لما جرى توقيعه من اتفاقات مع موسكو وباكو.
وتقول مصادر روسية إن مثل هذه التوجهات تبدو تفسيراً لما احتدم من جدل ونقاش بين صفوف منظمة بلدان "معاهدة الأمن الجماعي" التي تضم أرمينيا مع روسيا وبيلاروس وعدد من بلدان آسيا الوسطى خلال عدد من اجتماعاتها التي جرت في غضون هذا العام.
ومن المثير في هذا الصدد أن يأتي ذلك مواكباً لتحركات من جانب قيرغيزستان التي يحتدم نزاعها مع جارتها طاجيكستان حول الحدود المشتركة، في توقيت لاحق لمناورات عسكرية مشتركة جرت في طاجيكستان تحت رعاية مباشرة من جانب القيادة الوسطى للقوات الأميركية.
أما عن جوهر هذه التحركات فيقول مراقبون إنها لم تقتصر على إعلان القيادة القيرغيزية حول التزام قيرغيزستان بما تنص عليه العقوبات المفروضة ضد روسيا، ووقوفها على الحياد بالنسبة إلى ما يجري من مواجهة عسكرية بين روسيا وأوكرانيا، على رغم كل ما يربطها مع روسيا من اتفاقات وما تتلقاه منها من مساعدات، ومنها ما هو مقابل قاعدة "ماناس" الجوية الروسية في قيرغيزستان.
بين التاريخ والأبجدية
وها هي قيرغيزستان تعلن موافقتها على ما قررته منظمة البلدان الطورانية التي تضم كلاً من تركيا وبلدان آسيا الوسطى وأذربيجان، حول التحول إلى الأبجدية اللاتينية التي سبق وأعلنت تبنيها بديلاً للأبجدية الكيريلية، كازاخستان وأوكرانيا وبلدان سوفياتية سابقة أخرى، وإن كانت كازاخستان عادت لتعلن تريثها وعدم تعجلها في تنفيذ هذه الفكرة التي ثمة من يراها مقدمة لانفراط عقد العلاقة التاريخية مع روسيا وأبجديتها الكيريلية.
واللافت في هذا الصدد أن كل هذه التحولات جاءت لاحقة لاندلاع المواجهة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا التي أعلنت صراحة انحيازها للمعسكر الغربي ورغبتها في الانضمام إلى منظماته، سواء كان ذلك إلى حلف الـ "ناتو" أو الاتحاد الأوروبي، بما يقول ضمناً ببداية عالم جديد يمكن أن نسميه "عالم ما بعد الحرب الروسية - الأوكرانية".
فما يجري من تطورات في الفضاء السوفياتي السابق صار محكوماً بما تبذله قوى خارجية من جهود للتغلغل إلى داخل هذه المنطقة في إطار محاولاتها نشر نفوذها وحماية مصالحها السياسية والاقتصادية بل والأمنية، وليس غريباً أن تتباين مصالح هذه القوى بقدر تباين استراتيجيتها وتوجهاتها، على وقع ما يفصل بينها من تضارب واختلافات، وذلك عبر ما تكشف عنه وتتبناه كل من الصين والولايات المتحدة وتركيا من استراتيجية وتوجهات، تقف كل منها على طرفي نقيض من الأخرى، وكلها تبدو بشكل أو بآخر في غير مصلحة روسيا بكل ما بذلته وتبذله من جهود للحفاظ على سابق مواقعها مع أشقاء الأمس من بلدان الجوار القريب في الفضاء السوفياتي السابق.
برمجة النزاعات
وفي تقرير لها بهذا الشأن أشارت وكالة أنباء "ريا نوفوستي" الروسية شبه الرسمية إلى أن "المشكلة تتمثل الآن في أن جزءاً كبيراً من مساحة ما بعد الاتحاد السوفياتي تمت برمجته للنزاعات من خلال حقيقة الظهور العرضي والمفاجئ لدول مستقلة هناك"، وقالت أيضاً "إنه إذا لم تتعامل روسيا مع هذه النزاعات فإنها تكون وكأنما تمنح القوى الخارجية الأخرى الفرصة للعب هذه الأوراق، وإن لم تكن مصلحتهم دائماً هي إلحاق الأذى بروسيا"، في إشارة إلى بعض مواقف كل من الصين وتركيا، حتى ولو كانت تجري في إطار تعزيز مصالحها التي ليست دائماً على النقيض من المصالح الروسية.
وأشارت وكالة "نوفوستي" إلى مواقف تركيا التي قالت إنها ما فتئت تزيد من توسعها في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى طوال السنوات الـ 30 التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم تكتف الوكالة الروسية بهذه الاعترافات إذ مضت لتقول "إنه لمن الحماقة اتهام الأتراك بإبراز قوتهم على شعوبهم، فهم يعملون من أجل مصالحهم الخاصة ويستغلون الفرص المتاحة لهم".
وطرحت الوكالة الروسية بعضاً من التساؤلات حول ما إذا كان في مقدور روسيا التدخل فيما يقوم به لاعبون آخرون، وما إذا كانت في حاجة إلى ذلك، لتجيب بالإيجاب حول ضرورة اتباع مثل هذا النهج قائلة "إن مثل هذا التدخل ضروري، نظراً إلى اهتمام روسيا بإعادة دمج فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي". وقالت إن ذلك لا يمكن أن يتم من خلال السياسة وحسب، كما هو الحال بالنسبة إلى أوكرانيا، لكنه دائماً اقتصادي وجيوسياسي كما هو الحال بالنسبة إلى بيلاروس التي ترتبط روسيا معها بمعاهدات اتحادية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي.
وأكدت الوكالة الروسية شبه الرسمية أن آسيا الوسطى وما وراء القوقاز سيظلان جيراناً دائمين لروسيا، وهما من المناطق التي يعتمد عليها أمن روسيا بشكل مباشر. وأضافت أيضاً "أن هذه المناطق ليست في حد ذاتها قادرة على خلق هيكل مستقر لتوازن القوى بين الدول القائمة، بسبب الافتقار إلى تقاليد بناء الدولة والنزاعات الإقليمية والاهتمام المتزايد للاعبين الخارجيين في هذه الدول".
واللافت في هذا الشأن ما تبديه السلطات الروسية من حرص واضح على التفرقة بين ما تقوم به كل من الصين وتركيا من جهود لحماية مصالحها في الفضاء السوفياتي السابق، وما تقوم به الولايات المتحدة وبريطانيا ومن معهما من بلدان غربية بين جنبات الفضاء السوفياتي السابق، وهناك من المراقبين من انبرى لتبرير مثل هذه السياسات من جانب الدول المجاورة مثل تركيا أو الصين، على اعتبار أنها بلدان يمكن لروسيا الاتفاق معها، إن لم يكن على تقسيم مناطق النفوذ فعلى الأقل في شأن مراعاة المصالح، ولربما لما هو أكثر من ذلك في إطار عدم استخدام أراضي الدول الثالثة ضد بعضها بعضاً.
وذلك على النقيض من مواقفها تجاه اللاعبين الأجانب ومنهم الأنجلو-ساكسون الذين قالت "إنهم يهتمون بهذه البلدان فقط كعنصر من عناصر اللعبة ضدنا، وبالتالي لا تستطيع روسيا ببساطة إضعاف مواقعها في آسيا الوسطى والقوقاز، ناهيك عن خسارتها"، بحسب ما أشارت إليه وكالة "نوفوستي" الروسية التي دعت إلى "ضرورة زيادة نفوذ روسيا في هذه المناطق اعتباراً من الوقت الراهن، وحتى لا يتوهم أحد أنه يمكنه الاستفادة من اللحظة في أثناء انشغال روسيا بأوكرانيا".
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حدد ملامح هذه التوجهات في كلمته التي ألقاها في ختام أعمال منتدى "فالداي" بما كشف عنه من أهمية ما تملكه بلاده من مواقع داخل عدد من منظمات التكامل مع أصدقاء روسيا، الذين قال إنهم كثيرون في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وذلك تأكيداً على أن روسيا لا تزال تمتلك جميع الأدوات اللازمة للحفاظ على موقعها وتعزيزه في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي.
كما كشف أيضاً عن أهمية كثير من هذه المنظمات ومنها "منظمة شنغهاي" ومنظمة "معاهدة الأمن الجماعي" ومنظمة "بريكس" التي رحب بانضمام بلدان جدد إليها ومنها السعودية.
ولم يغفل بوتين الإشادة بمواقف تركيا التي ثمة من يعتبرها تهديداً للمواقف الروسية في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، بما أغدقه على رئيسها رجب طيب أردوغان من سمات وأوصاف كرجل دولة يمكن التعامل معه، بما يعود بالنفع على كل من بلديهما، على حد تعبير الرئيس الروسي.