عندما أنهى مايكل وورين (59 عاماً) علاجه الكيماوي لسرطان الدم في شهر يناير (كانون الثاني) الفائت، بدت مؤشراته الحيوية جيدة. لكن فيما كان يستعد للعودة لمزاولة عمله أصيب بعدوى "كوفيد"، وبعد خضوعه لعلاجات عدة في المستشفى طوال الأشهر التالية، وتعافي جهازه المناعي الضعيف من الفيروس، تدهورت صحته مرة أخرى لدى عودته للمنزل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي شهر يونيو (حزيران)، وبعد علمه بأنه سيصبح جداً لحفيد ذكر هو الأول في العائلة، فارق الحياة.
وترى تشيلسي ابنة مايكل (29 عاماً)، أن والدها كان ليحتضن طفلها البالغ من العمر أسبوعين لو تمكن من الحصول على عقار "إيفوشيلد" Evusheld الذي يقلل خطر إصابة المرضى ذوي المناعة الضعيفة بأعراض "كوفيد" بنسبة 77 في المئة، والذي كانت وافقت على استخدامه "وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية" Medicines and Healthcare Products Regulatory Agency في مارس (آذار) الفائت، وكان من المتوقع أن يتم تأمينه للمرضى خلال أغسطس (آب).
لكن التأخيرات والأعذار التي برزت بدلاً من ذلك جعلت هذا الدواء الذي هو قيد الاستخدام في الوقت الراهن في 32 دولة، بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل، غير متوافر في مرافق "الخدمات الصحية الوطنية" NHS، لنحو نصف مليون شخص معرضين للخطر من الناحية السريرية في المملكة المتحدة، ولا تفيد معهم جرعات لقاح "كوفيد"، والسبب في ذلك أن عدداً من الأفراد الذين يعانون نقصاً في المناعة لا يطورون أجساماً مضادة، مما يعرضهم لخطر شديد إذا ما أصيبوا بفيروس "كوفيد".
وعلى رغم صدور أرقام إحصائية تظهر فاعلية منخفضة للقاحات في الحماية من بعض سلالات "كوفيد"، إلا أن الحكومة البريطانية أعلنت الشهر الماضي أن "جودة البيانات لا تزال غير كافية لتبرير اتخاذ إجراءات تمكن المرضى من الحصول على هذا الدواء".
وقالت إنها ستعاود تقييم الوضع بعد انتهاء التجارب السريرية في أواخر ربيع السنة المقبلة 2023.
لكن في المقابل أصبح بإمكان المرضى منذ أسبوعين الحصول على دواء "إيفوشيلد" بناء على وصفة طبية خاصة، لقاء مبلغ 1000 جنيه استرليني (1150 دولاراً أميركياً) لكل جرعة يدوم مفعولها ستة أشهر. (المبلغ لا يشمل كلفة الاستشارة الطبية وحقن الجرعتين).
وتعتبر تشيلسي أن تأمين هذا الدواء في مقابل مبلغ ضخم من المال يشكل بحد ذاته صفعة أخرى، وليس من شأنه سوى أن يفاقم حال عدم المساواة التي يعانيها أصلاً الأشخاص الضعفاء.
وتضيف، "سيكون هذا الأمر كما لو أنه تم تقديم لقاح كوفيد للذين لديهم القدرة على دفع ثمنه فقط، وسيثير ذلك موجة من الاعتراضات (إذا ما حدث فعلاً)"، لأنه يعني أن أولئك الذين ليست لديهم أجسام مضادة لفيروس ’كوفيد‘ تحميهم، كما أفراد أسرهم، سيبقون في غياهب النسيان وسيتعين عليهم تحمل شتاء قاتم ثالث، والانزواء داخل أربعة جدران".
ومع مواجهة المرضى الذين يعانون نقصاً في المناعة خطراً كبيراً بالوفاة جراء "كوفيد"، فإن الأفراد الذي يضطرون إلى الاحتماء والوقاية تصبح حياتهم الشخصية والمهنية في حال يرثى لها، فمنذ تفشي جائحة "كوفيد" في مطلع العام 2020 تم استدعاء عالمة الطب الحيوي كيتاي سيثول البالغة من العمر 44 عاماً، والتي كانت أجريت لها عملية زرع كلية قبل أربعة أعوام، ثلاث مرات إلى المستشفى الذي تعمل فيه [يتم تصنيف الأشخاص الذين خضعوا لعملية زرع الكلية باعتبارهم ضعيفي المناعة]، وطلب منها أن تواصل عملها من بعد "إلى حين انتهاء الوباء مهما كان لذلك من معنى".
وهي تعتبر أن ذلك يشكل "نوعاً من التمييز"، وتقول "بصفتي عالمة فإنني أطرح السؤال الآتي إلى متى سننتظر؟ لن يكون هناك علاج سحري، فاللقاحات ليست فعالة بنسبة 100 في المئة، لكنها أنقذت أرواحاً، أليس هذا أفضل من لا شيء على الإطلاق؟".
وتلقت الدكتورة كيتاي حتى الآن خمس جرعات من اللقاح المضاد لـ "كوفيد"، لكنها لم تتمكن من تطوير أي أجسام مضادة في نظامها المناعي، وإذا ما أصيبت بعدوى "كوفيد"، فإن الأمل الأفضل لها لتجنب الإصابة بمرض خطر يتمثل في تناول أدوية مضادة للفيروسات لا تتوافق جميعها مع الأدوية الأخرى التي يتناولها كثير من الأشخاص الذين يعانون نقصاً في المناعة، وتقول "إنها حقاً لفكرة مرعبة أنه في حال إصابتنا بمرض نحصل على العلاج ثم نترك لمشيئة القدر، لكن ماذا عن مبدأ أن الوقاية خير من العلاج"؟
وتشعر هذه العالمة وغيرها من الأشخاص الذين يجدون صعوبة في الحصول على عقار "إيفوشيلد" (الاسم التجاري لـ Tixagevimab Cilgavimab، وهو مزيج من الأجسام المضادة أحادية النسيلة)، أنهم يتعرضون للعقاب، فصحتهم الهشة تمثل تفصيلاً صغيراً ومزعجاً بالنسبة إلى حكومة عازمة على تجاوز الوباء بأسرع ما يمكن.
أليكس ريشتر، أستاذة المناعة السريرية في "جامعة برمنغهام" تقول "لقد اتخذنا كثيراً من القرارات العملية في شأن الأدوية واللقاحات خلال فترة تفشي وباء ’كوفيد‘ ويبدو أن اتخاذ قرار يتعلق بنشر دواء ’إيفوشيلد‘ يخرج عن سياق جميع الإجراءات المتبعة سابقاً".
وترى البروفيسورة أن السبب في تلكؤ الحكومة يعود لأمرين، المال والسياسة، فإلى جانب الكلفة سيكون طرح الدواء "إقراراً بأن ’كوفيد‘ لم ينته بعد، وهو ما لا يتناسب مع خط حزب (المحافظين)".
وتضيف، "إنه لأمر مربك للغاية أن يكون لدينا دواء يمكن أن يؤثر بشكل كبير في حياة الأفراد المؤهلين للحصول عليه وقيد الاستخدام في عشرات دول أخرى، وأن يكون متاحاً فقط بكلفة عالية للذين يحتاجونه، مع العلم بأن كثيرين من الذين يحتاجونه قد عانوا بشدة من الناحية المالية بفعل تفشي الجائحة.
هذا هو حال روبن بوكسال الذي اضطر إلى عزل نفسه بعدما تم تشخيص زوجته بمرض "سرطان الغدد الليمفاوية اللاهودجكين" Non-Hodgkin Lymphoma (يصيب الجهاز اللمفاوي والطحال ونخاع العظم والجهاز الهضمي) مطلع العام 2020.
بوكسال الذي عمل في قطاع الرعاية الصحية المتخصص بمساعدة شباب معوقين فقد وظيفته الآن، لأنه لم يعد في إمكانه إنجاز عمله، وهو الآن يتلقى المساعدة الحكومية التي تعرف بـ "الدعم الشامل" Universal Credit (معونة تمنح شهرياً لأصحاب الدخل المنخفض أو للعاطلين من العمل لمساعدتهم في تحمل كلف معيشتهم).
يقول روبن (56 عاماً) "أجد نفسي الآن مضطراً إلى الاعتماد على المعونات الحكومية التي تجعل الفرد يشعر بأنه مذنب لارتكابه خطأ ما طوال الوقت".
لكن ما يجعل الأمور أكثر تعقيداً هو الاعتقاد بأنها ستتغير في مرحلة ما، فروبن الذي يعتني أيضاً بابنته مولي (30 عاماً) والمصابة بشلل دماغي، لا يزال يتمسك كما يقول بـ "بصيص أمل في أن يكون دواء ’إيفوشيلد‘ خشبة خلاص للعودة لحياتنا الطبيعية".
لكن بالنسبة إلى الأسرة لا يزال الأمل في أن يتحقق ذلك بعيد المنال، وبعد عامين ونصف من العزلة فإن أبرز ما تقوم به للترويح عن النفس خلال الأسبوع لا يعدو كونه أكثر من مجرد تسلم بعض السلع التي لا يزال يتعين تعقيمها وتنظيفها، أو ربما رؤية ساعي البريد، وفي أثناء ذلك تتوالى على الأسرة سلسلة من الأحداث القاتمة، بدءاً من تشخيص ماندي بالمرض يوم عيد ميلاد زوجها في يناير 2020، إلى قضاء ذكرى زواجهما الـ 36 داخل أبواب مغلقة مرة جديدة الأسبوع الماضي، ووصولاً إلى اقتراب تاريخ الـ 18 من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، الذي سيكمل مدة 1000 يوم منذ قيام الأسرة بالتزام الحجر الصحي من الفيروس.
ويقول روب الذي لم يتمكن على مدى عامين من معانقة والدته البالغة من العمر 92 عاماً والتي تعيش على مقربة من منزله، "لقد حرمنا هذا الفيروس من الكثير".
وإذا ما أرادت أسرة ابنته الكبرى زيارتهم والمكوث لديهم فسيتطلب الأمر ما يشبه "عملية عسكرية" تتمثل في أسابيع من الاختبارات والعزل، وعندما يصل حفيده البالغ من العمر أربعة أعوام ويهرع نحوهم بذراعيه الممدودتين، يضطرون إلى إدارة ظهرهم له ولا يسمحون له إلا بمعانقة ساقيهم حفاظاً على سلامتهم، ويعبر عن ذلك بحسرة "ماذا تقول لطفل يبلغ من العمر أربع سنوات؟ إنه لأمر مدمر من الناحية العاطفية وكأن عالمنا يصبح أشد صغراً مرة تلو الأخرى".
وتشكل حملات الضغط التي تقوم بها جماعات مثل "إيفوشيلد للمملكة المتحدة" Evusheld for the UK و"جمعية مكافحة سرطان الدم في المملكة المتحدة" الخيرية Blood Cancer UK، الأمل الوحيد بالنسبة إلى "نحو 500 ألف شخص منسي" وأسرهم كي يكون صوتهم مسموعاً، وبات يتعين الآن بذل جهود أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بعدما أصبح الدواء متاحاً لقلة من الأشخاص المختارين. وتقول تشيلسي إن "هذه المسألة لا تزال تحظى بمقدار ضئيل من الاهتمام، لذا يجب أن تستمر الحملة كي يصبح الدواء متاحاً في مرافق الخدمات الصحية، كما ترى أن غياب والدها في وقت كان يجب أن تستمتع أفراد الأسرة معاً بمناسبة سعيدة (الاحتفال بولادة طفل جديد)، إنما يعزز أهمية الحاجة الملحة إلى أن يتلقى الأشخاص الضعفاء سريرياً الحماية الطبية نفسها المقدمة لأي شخص آخر، وما تسمية ابنها حديث الولادة مايكل اسماً أوسط، إلا تيمناً بوالدها الحبيب، ولمواصلة الضغط نيابة عن أولئك الذين لا يزال في الإمكان تقديم المساعدة لهم.
وتختم بالقول "لا ندري إن كان من الممكن طرح دواء ’إيفوشيلد‘ في الوقت المناسب لوالدي أم لا، لكنه بالتأكيد يمكن أن ينقذ أرواح أفراد وضعهم يشبه وضعه تماماً".
© The Independent