في التطور الذي رافق التغيرات المجتمعية الحديثة لعبت كرة القدم دوراً في التغييرات الاقتصادية في مجال المال والأعمال، وفي المجال الاجتماعي والثقافي الترفيهي، ولكن في مجال السياسة كانت هي القوة الدافعة لإحداث تغييرات في الرياضة عبر وسائل شتى وتحقيق أهداف سياسية مختلفة.
نظرياً تطبق الملاعب الدولية فصل الرياضة عن السياسة والدين، بتعرض أي فريق أو لاعب يستخدم مباراة أو حدثاً رياضياً للتعبير عن رأي سياسي أو ديني أو طائفي، للعقاب، ولكن عملياً حملت كرة القدم في المنافسات الدولية ميولاً سياسية قديمة وظلت تحتفظ بكثافتها لتمرير رسائل سياسية عند الحاجة، تأييداً أو اعتراضاً على مواقف عدة. وظلت تتخفى تحت ظلال الإمتاع والنفقات الباهظة من أجل هذا الغرض.
منذ أن أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 2010 في زيورخ فوز قطر باستضافة
كأس العالم 2022، أثار هذا الحدث الرياضي العالمي الذي ينظم لأول مرة في دولة عربية منذ الإعلان وحتى الآن كثيراً من ردود الأفعال، غالبيتها تعبر عن آراء سياسية سالبة حول الشرق الأوسط، والمنطقة العربية تحديداً، وتطعن في جدارة دولة عربية باستضافة مثل هذا الحدث، وتثير عدداً من القضايا الخلافية مثلما جاء في وصف وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر أن "حق الاستضافة هذا خادع للغاية، وهناك معايير يجب التزامها وسيكون من الأفضل عدم منح حق استضافة البطولات لمثل هذه الدول".
أبعدوا السياسة عن كرة القدم (مواقع التواصل)
وبعد استدعاء السفير الألماني في الدوحة، والاستهجان الواسع واستنكار "مجلس التعاون لدول الخليج العربية" تصريحات فيزر في بيان أكد فيه "موقف دول المجلس الداعم لدولة قطر في التصدي لأي تدخل في شؤونها الداخلية"، صرحت نانسي فيزر بأنها أجرت مباحثات جيدة في الدوحة، وتم التأكيد فيها "أن حزمة القوانين التي سنتها قطر في السنوات الأخيرة جيدة للغاية، وأن التحسينات في هذا الأمر تحققت وستستمر إلى ما بعد كأس العالم، وأنها حصلت على نظرة ثاقبة إيجابية للغاية من المباحثات مع الجانب القطري".
ساحة التفاعلات
بدأ تاريخ كرة القدم المدون من الصين في القرن الثالث قبل الميلاد، حيث ذكرت كتب تقليدية عسكرية أن أسرة هان الحاكمة في الفترة من 202 قبل الميلاد إلى عام 221 بعد الميلاد كانت تمارس لعبة تشبه كرة القدم، وفي نهاية المباراة يقدمون الولائم للفريق الفائز ويجلدون الفريق المنهزم.
وصولاً إلى تاريخ بدايتها الحديثة في إنجلترا في عام 1016، خلال احتفال الإنجليز بإجلاء الدنماركيين عن بلادهم، وفيما يقال إنها كانت مباراة شديدة العنف استخدمت فيها الرؤوس المتبقية من الجثث، فمنعت ممارستها.
وتكررت ممارستها ثم منعها بمراسيم ملكية مراراً لأسباب متعددة. ومن ثم في عام 1863، كان إنشاء أول مجموعة من القواعد لكرة القدم وهي ما أسست للقوانين الحديثة، حتى هذه الألفية، حيث تطورت
مظاهر اللعبة كثيراً، من آليات الأداء وشكل الميادين، وأصبحت نسختها المعدلة أكثر تنظيماً، كما باتت ساحة للتفاعلات الاجتماعية ومساحة وسيطة في العلاقة المتبادلة بين السياسة وأنصار فرق كرة القدم، إلا أن انعكاسها عن عواطف ومشاعر الجماهير ومقدرتها السريعة على التعبير عن الانفعالات لم يتغيراً كثيراً. ويظهر ذلك في الهتافات الحماسية والانفعالات الصاخبة، والتشجيع الحار الذي يتجاوز الرياضة ذاتها إلى حيث يشد الولاء السياسي، بما يؤثر في الجماهير والمتابعين في آن معاً.
تعيد بعض الآراء تسييس كرة القدم على نطاق أشمل من الدولة إلى الفترة التي حدثت فيها التغييرات بعد الثورة الاشتراكية عام 1944 في أوروبا الشرقية، والتي كان يفترض أن تعزز قيم المساواة السياسية والاجتماعية.
وكان يروج لها على أساس توحيد هوية المجتمعات مع أيديولوجية شيوعية من خلال الأحزاب الشيوعية في أوروبا. وحدثت تغييرات لعبت فيها كرة القدم دوراً بارزاً في توحيد المجتمعات تحت أيديولوجية معينة، واستمرت حتى بعد سقوط الشيوعية وانهيارها نتيجة لثورات عام 1989. وأيضاً في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا استخدمت كرة القدم لأغراض قومية من قبل بعض الديكتاتوريات والحكومات الاستبدادية.
حدود مرسومة
على مدى عقود طويلة كان هناك نوع من التأثير تشكله الأيديولوجية السياسية من جهة، ومن جهة أخرى كرة القدم باعتبارها الرياضة الأكثر انتشاراً وشعبية في العالم بتخطيها الحدود المرسومة حول الهويات المعروفة مثل الجنس والعقيدة، والأقرب إلى الجماهير بمختلف أعمارهم، كل على حدة باعتبارهما من الموضوعات المفضلة لكثير من الشعوب، والأشد إثارة للجدل ومدعاة لتكوين الآراء الموالية أو المناهضة، ومسرحاً للتعبير عن المشاعر العنيفة المتعلقة بها في كل مستوى من مستويات الحياة الاجتماعية وثقافة شعبها.
الفيفا تحذر وتمنع السجود والتثليث في الملاعب (مواقع التواصل)
ولكن من الواضح أيضاً أن الموضوعين اندمجا معاً منذ وقت مبكر. واتخذت مشاركة السياسيين باختلاف مستوياتهم في مباريات كرة القدم شكلاً صارخاً من الولاء السياسي، وأصبحت تستغل أثناء الحملات الانتخابية، باعتبارها تنطوي على عنصر جذب جماهيري.
وكان لافتاً إلى أن يكون نطاق صغير كفريق كرة القدم قادراً على تشكيل الهوية السياسية ولو جزئياً من خلال الهوية الثقافية الفرعية أو أي نمط آخر من أنماط الحياة، ومراكز أخرى خارج نطاق السياسة التقليدية، ذلك أن الولاء الذي يجري في مستوى من مستويات الحياة الاجتماعية والثقافة الشعبية يتبدى في الجماهير التي تدين بالولاء لفرقها وشعاراتها التي تمتزج بالأيديولوجية السياسية أحياناً، خصوصاً لو كانت الفرق مدعومة من أحزاب سياسية، وعلى رأسها الحزب الحاكم في بلد معين، فيكون الدفاع عن الفريق هو دفاعاً عن الحكومة، وفوزه فوزها وخسارته خسارتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما خفف من إدانة كرة القدم حين تصبغ بمظاهر أو آراء سياسية أن النشاطات الترفيهية عامة تعد نشاطات غير جادة، ويغلب على تصنيفها العفوية. وكان في البداية يرفض
تسليع كرة القدم واعتبارها رياضة خالية من المكاسب المادية، ولكن مع حصول كرة القدم على تسويق تجاري ودعم مالي لم تضاهها فيه النشاطات الترفيهية الأخرى، ومع دخولها حالة أكثر مادية، بالتسليع المفرط في تسعينيات القرن الماضي ثم بروز تسييسها وخدمتها مالياً من قبل منظمات رياضية غالبها نافذة سياسياً، أو لها مكانتها الاجتماعية والاقتصادية، خلق لها ذلك سلطة تعادل السلطة السياسية، وبدأ الانتباه إلى مدى التأثير الذي تحدثه في السياسة.
واجهة الأحداث
من الأحداث السياسية التي ارتبطت ببطولات كأس العالم غياب النمسا عن بطولة كأس العالم الثالثة في الاستاد الأولمبي بباريس عام 1938، بسبب احتلالها من قبل ألمانيا حيث ضمتها إلى الرايخ الثالث، وكان أدولف هتلر قد ادعى أن النمسا أرض ألمانية، وأن البلدين دولة واحدة، لأنهما يتكلمان لغة واحدة.
وأمر هتلر بأن يضم فريق كأس العالم الألماني لعام 1938 خمسة نمساويين على أرض الملعب، وقرر أن بطولة العالم ستظهر قوة ووحدة الشعب الآري في الرايخ الثالث، كما غابت إسبانيا بسبب اشتعال الحرب الأهلية هناك.
وخلال فترة الحرب العالمية الثانية أصبحت كرة القدم في واجهة الأحداث التي سيطرت على العلاقات الدولية، وإحدى أدوات الدعاية السياسية خصوصاً في الدول الفاشية مثل إيطاليا وألمانيا وإسبانيا.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، تواردت أخبار عن إجراء مجلس الشيوخ الأميركي تحقيقاً حول صرف الجيش الأميركي أموالاً لصالح اتحاد كرة القدم الأميركي من أجل حثه على تأدية العروض العسكرية خلال المباريات. وشهدت حقبة ما بعد 11 سبتمبر استعداد البنتاغون لاستقطاب أعداد كبيرة لقواته في الحرب الأفغانية، فروج للأمر من خلال دعم الفرق الرياضية.
أبو تريكة متضامناً مع غزة في بطولة كأس أمم أفريقيا عام 2008 (غيتي)
ومن الأحداث المهمة التي شهدتها السنوات القليلة الماضية أنه خلال عملية الاستفتاء التي أجريت عام 2017 لتقرير مصير إقليم كتالونيا في إسبانيا، استخدمت المنظمات والأحزاب المؤيدة والمناهضة للاستقلال معاً جماهير كرة القدم، ووجد رابط محدد بين المؤيدين للانفصال والفرق المدعومة وتصويتهم في الاستفتاء، وكان التفكير منصباً حول أنه في حالة فوز دعاة الانفصال عن إسبانيا، فسيكون نادي برشلونة الإسباني الداعم للانفصال في موقف عسير بين الاستمرار في البطولة الإسبانية أو اللعب ضمن الدولة الكتالونية الجديدة حال حصولها على الاستقلال عن مدريد.
وفي فبراير (شباط) أوقف الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) اتحادي كينيا وزيمبابوي من جميع المسابقات بسبب التدخل السياسي من قبل حكومتيهما في اتحاداتهما الوطنية لكرة القدم. وأخيراً، على أثر غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، استبعد الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) روسيا من المشاركة في مونديال كأس العالم بقطر.
تصورات سياسية
يعتقد عالم الاجتماع السياسي الفرنسي جاك لاغروي أن "التسييس هو إعادة تأهيل للأنشطة الاجتماعية الأكثر تنوعاً، والتي تنتج عن اتفاق عملي من الفاعلين الاجتماعيين الذين يميلون، لأسباب متعددة إلى التعدي أو التشكيك في تمايز مساحات النشاط". ويؤكد "إعادة تأهيل الأنشطة الاجتماعية".
احتفال لاعبي المنتخب التركي بتأدية التحية العسكرية بالتزامن مع هجوم عسكري على مواقع مسلحين أكراد شمال شرقي سوريا (غيتي)
وعليه باعتبار كرة القدم منفذاً قوياً فهي لا تجمع فقط المشاعر والاستجابات العاطفية ومزاج المشجعين والداعمين، بل يمكنها أيضاً إعادة توجيهها نحو مجتمع سياسي معين. ويصف لاغروي كيفية حدوث التسييس، وهنا خصوصاً تسييس كرة القدم بما سماه عملية "تحويل الغرض" و"تجاوز الحدود" بأن يتم تسييس البيان عندما يكون سياق البيان سياسياً أو عندما يقدم محتوى متعلقاً بالمجال السياسي.
ونظراً إلى أن كرة القدم عنصر أساسي وجوهري في المجال الاجتماعي والثقافي لغالب شعوب العالم، فإنها تظهر أن تأثيرها في أحكام الناس وتصوراتهم قد يجعل من الصعب عليهم الفصل بين التعبير عن كون الشخص مشجعاً خالصاً للكرة في حد ذاتها كرياضة، وامتلاك رأي سياسي سواء أكان مع الرأي الذي يبدو به الفريق أو ضده. وذهبت كرة القدم بعيداً مجتاحة وسائل الإعلام والندوات العامة ثقافية وسياسية، لدرجة أنه أصبح يربط بين تراجعها وتراجع الحياة العامة السياسية والاقتصادية لبلدان معينة. ولم يقتصر ذلك على تشكيل الهوية السياسية للرأي العام للمشجعين أو اللاعبين، وإنما اتجهت إلى إحداث تداخلات أخرى في مجالات العلاقات الدولية.
ويتوقع أن يستمر التسييس بشكل أو بآخر، لهذه البطولة أو ما بعدها، لأن كرة القدم وضعت في موضع القوة السياسية، بشكل لا يمكنها أن تتغاضى عن كثير مما يدور في العالم، سواء أكانت أداة للفعل السياسي، أو مرتبطة بتصورات سياسية معينة، إذ يمكن أن يكون التركيز على المؤسسات السياسية أو السياسيين الذين يتدخلون في الرياضة، ويضغطون عليها وعلى الفرق المختلفة، كما أن هنالك نظرة أشمل بأن يكون التسييس من خلال الجمهور، حيث يشارك المشجعون بنشاط أكبر لدعم الآراء السياسية لفرقهم الوطنية أو أي توجه يتبنونه ويحاولون إبرازه خلال المباريات.