نحن هنا إزاء ثلاثة أفلام عربية نادرة تتساوى في قوتها وتتشابه في إخفاقاتها، ولا شك في أن الذين شاهدوا فيلم "المومياء" في مصر وبخاصة خارجها، يفوق عددهم كثيراً نظراءهم الذين شاهدوا فيلم "الجبل"، غير أن الذين شاهدوا الفيلمين، وهم بالتأكيد أقل من هؤلاء وأولئك، لاحظوا من دون شك نوعاً من القرابة غير المباشرة بين العملين.
ولعل سر ذلك يكمن في أن الفيلمين معاً، وكلاً على طريقته، ينطلقان من المغامرة الإبداعية العمرانية التي خاضها المعماري المصري المهندس حسن فتحي صاحب كتاب "العمارة مع الشعب"، كما سيرينا فيلم ثالث هو "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" الذي سيبدو وكأنه توليف استنتاجي بين الفيلمين.
ومهما يكن، فإذا كان شادي عبدالسلام في "المومياء" بدا متأثراً وإن بطريقة موازية وجمالية أكثر منها موضوعية أو تاريخية حدثية، بعوالم حسن فتحي وأفكاره، فإن فيلم "الجبل" استناداً إلى قصة فتحي غانم المعروفة والتي اقتبس منها الفيلم، يبدو أكثر ارتباطاً بحكاية حسن فتحي، وذلك لأن غانم إنما أراد أصلاً في روايته أن يروي الحكاية، وينطلق منها في تأمل عميق لمفهوم الثورة، لا سيما حين تنزل إلى الناس من أعلى من دون أن تأخذ في حسبانها مصالحهم وتاريخهم وتراثهم، ثم بخاصة مصادر رزقهم.
من العمران إلى الثورة
الحقيقة أن فتحي غانم في قصته، وبالتالي خليل شوقي في فيلمه، عرفا كيف يقدمان أعمق مرافعة حول الثورة تتجاوز من بعيد مغامرة حسن فتحي حتى وإن كانت ترويها بشكل يكاد يكون حرفياً، فحكاية الفيلم هي حكاية أهالي قرية القرنة التي بنى حسن فتحي تجربته العمرانية فيها، والذين كما يقول ملخص حكاية الفيلم "رفضوا هجر سكناهم في الجبل، إذ كانوا هناك يؤمنون عيشهم من نهب آثار مصر الفرعونية وبيعها لمن يشتري من الأجانب".
وكانت السلطات قد بنت لهم بمبادرة من المهندس فتحي فهمي في الفيلم قرية نموذجية أُمنت لهم فيها كل مقومات العيش الحديث معطوفاً على التراث العمراني العربي - المصري الأصيل.
رفض السكان إذاً الانتقال إلى القرية النموذجية لسبب بسيط، وهو أن العيش الذي كانت تؤمنه لهم سرقة الآثار لم يعد متوافراً هنا، وأضف إلى هذا أن السكان كانوا ومنذ زمن بعيد يتوقعون اليوم الذي يعثرون فيه هنا على كنز توارثوا أخباره. وحده الشاب حسين من بين السكان يحاول مساعدة المهندس، إذ كان الجبل قد شهد مقتل أبيه وأخته أثناء البحث عن الكنز، مما جعله غير قادر على الإيمان بعد بهذه الخرافة.
حفلات صاخبة
غير أن دعم حسين هذا للمهندس لن يجديه نفعاً، لا سيما إذ تظهر إحدى أميرات العائلة المالكة المشاركة لسيدة أجنبية في المتاجرة بالآثار، وهذه حتى وإن كان وجودها وتجارتها يعززان تمسك سكان الجبل بمساكنهم القديمة، فإنها تقيم الحفلات الصاخبة في القرية النموذجية الجديدة مما يفاقم رفض السكان لهذه القرية، فيواصلون البحث عن الكنز، لكنهم حتى نهاية الفيلم ولقطته الأخيرة، لن يتمكنوا على العثور عليه، بل تطالعهم الخيبة التي لن تثنيهم على أية حال عن إلحاق الهزيمة بالمشروع النموذجي، وهو ما تعبر عنه اللقطة الأخيرة التي تلي العثور على بئر عميقة جافة.
هذه اللقطة تصور الجبل في شموخه وكبريائه، أي في انتصاره على الحداثة، وربما يمكننا أن نقول هنا في انتصاره على الثورة، حتى وإن كانت أحداث الفيلم تدور في أيام العهد الملكي، أمينة في ذلك لتاريخ تجربة حسن فتحي نفسه.
غير أن في إمكاننا أن نفهم، إذ كتب غانم قصته أيام العهد الثوري وحقق الفيلم في ظل ذلك العهد وبأموال القطاع العام، أن التلميح كان واضحاً ولا يمكن تغيير حياة الناس من فوق لمجرد أن ثمة رغبات ثقافية تدفع دعاة الحداثة، لا سيما الحداثة الاقتصادية إلى الدفاع عما يعتبرونه الثورة من فوق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جماليات طاغية
أما بالنسبة إلى فيلم "المومياء" لشادي عبدالسلام فإنه ينطلق من منطلق شبيه بمنطلق فيلم "الجبل"، ولو أنه يروي أحداثاً أخرى تغوص أبعد في الزمن ويتسم بجماليات أخرى تبدو في نهاية الأمر شديدة الغنى والتجديد بخاصة أن المخرج حقق فيلمه بمساندة وربما بمبادرة من المخرج الإيطالي روبرتو روسليني، وكان التوافق منذ البداية على ألا تسيطر السياسة على الفيلم، كما هو حال "الجبل"، بل إن يكون ثورة جمالية تشاكس على السائد في السينما العربية.
ومن هنا انتهى "المومياء" بأن يكون منطلقاً لتيار سينمائي عربي جديد وليس فقط مصرياً، سرعان ما سار مبدعون عرب شباب على خطاه التشكيلية الرائعة التي وضع فيها عبدالسلام كل خبرته كفنان تشكيلي، وهندس ديكوراً قل نظيره في عالم السينما العربية، ومنهم ناصر خمير وإلى حد ما منصف ذويب، والاثنان تونسيان.
أحداث من القرن الفائت
ولئن كان سيناريو "المومياء" يعتمد على أحداث حقيقية حدثت أثناء رحلة أثرية فرنسية إلى وادي الملوك عام 1881، ولأن بعض الآثار كانت تباع سراً وبكثافة متزايدة، شرع علماء الآثار المصريون في العثور على مقابر فراعنة الأسرة الـ 21.
وتبين أن من يتاجر بها مهربون من قبيلة عبدالرسول، لكن أحد أعضائها وهو ونيس المعذب بضميره، يفكر في الكشف لعلماء الآثار عن موقع التوابيت، ومن ثم تنطلق الحكاية مختلفة في ظاهرها عن حكاية "الجبل"، ولكن لتصب في نهاية الأمر في السياق نفسه الذي يتناول قضية الحياة التي تعيشها مجموعة من الناس بفضل "اكتشافها" الآثار القديمة والمتاجرة بها في غياب الحكومات العاجزة عن مد تلك المجموعات السكانية بعمل خلاق ومنتج يعفيهم من بيع تاريخ البلد وآثاره.
رابط بين فيلمين
وفي هذا السياق يأتي في نهاية الأمر السينمائي اللبناني الراحل قبل حين برهان علوية ليجعل من فيلمه البديع "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء"، مرافعة يتحاور فيها مع المعماري المصري الكبير حسن فتحي حول الموضوع نفسه، ولكن من خلال رصد سياسي بديع التصوير للوضع العمراني في مصر على ضوء ذلك التوتر الدائم في الرغبات التغييرية للمثقفين، والتي قد يستجيب لها النظام الحاكم إنما من دون أن يمتلك من البدائل، مما يمكنه من أن يؤمن لمواطنيه أدواتاً تمكنهم من الاستغناء عما اعتادوا عليه من طرق معيشية ووسائل تعفيهم من أن يركنوا إلى بطالة أو يقبلوا بحلول تخفض من مستوى عيشهم المنخفض أصلاً إلى أدنى من الحدود الدنيا، وهو أمر يقول لنا الفيلم من طرف ملتو أن ثقافة حسن فتحي الجمالية ورغباته الثورية التغييرية لا تعطيه ترف التفكير فيه، ومن هنا كان الفشل الذريع لمشروعه الذي إذا كان يصلح اليوم لكي يعتبر متحفياً، فإنه لم يقدم أي حلول واقعية للمشكلات التي يعانيها المواطنون.
ومن هنا تتكامل هذه الأفلام العربية الثلاثة في ما بينها، ولكل منها من القوة ما يجعله تحفة سينمائية نادرة على مستوى المضمون "الجبل" أو الشكل "المومياء" أو طرح القضية في عمق أعماقها من منطلق عقلاني "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء".
المشكلة الأساس
غير أن المشكلة تبقى في أن الموضوع نفسه والذي تطرقت إليه الأفلام الثلاثة بقوة لم يصل إلى المعنيين به، سواء كان هؤلاء المواطنين أنفسهم الذين تطرح الأفلام الثلاثة همومهم المعيشية من خلال تجاراتهم الممنوعة والمدمرة لضمير البلد وتاريخه، أو السلطات العاجزة عن تقديم أي حلول فتكتفي بـ "الثورة من فوق"، وهي تعرف مسبقاً أنها حراك غير كاف بأي حال من الأحوال، أو أخيراً المثقفون والمبدعون الذي يكتفون في نهاية الأمر بقول كلمتهم من دون نتيجة سوى تلك التي تتمخض عن إبداعهم تحفاً فنية تبقى ذخراً للتاريخ، وربما يكون مصيرها في نهاية الأمر كمصير مدينة القرنة التي بناها حسن فتحي كمسكن للشعب، وها هو برهان علوية يخبرنا في "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" أن الشعب آخر من يهتم بها في نهاية الأمر، وتحديداً على لسان ذلك المعماري الكبير الذي يخبرنا بدوره أن مشروعه قد فشل وتحولت مدينته بعدما أنجزها إلى متحف للرمال.