في عام 1665 نشر العالم البريطاني الموسوعي روبرت هوك كتاباً مصوراً حقق رواجاً كبيراً وغير متوقع، عنوانه "ميكروغرافيا: بعض الأوصاف الفسيولوجية لأجسام دقيقة شوهدت من خلال عدسات معظمة مع ملاحظات وتساؤلات". وضم الكتاب رسوماً لأشياء عادية تعمرها كائنات لا تدركها العيون، فهي في الغالب حشرات وهوام ضئيلة رسمها هوك بأحجام ضخمة بعد أن فحصها بأحدث تقنيات عصره، أي المجهر المركب من عدستين. وما بين صور النمل والبراغيث والقمل ظهرت رسمة مضخمة لقطعة من نبات لاحظ فيها هوك "وفرة غزيرة من صناديق صغيرة" أطلق عليها (الصوامع) أو بالأحرى كلمة (cells) الإنجليزية التي كانت حتى ذلك الحين تعني (صوامع الأديرة) ثم صارت تعني إلى جانب ذلك (الخلايا).
كذلك هو ماضي العلم حينما كان العلماء أيضاً فلاسفة أو لاهوتيين أو في أقل تقدير واسعي الاطلاع لا يعيشون أسرى تخصصاتهم الضيقة، فكان يتصادف أن تستعمل كلمة واحدة لتعني وحدة بناء الإنسان، مثلما تعني وحدة بناء الأديرة.
على مدى القرون الثلاثة التالية انتقلت الخلية من شيء ضئيل مثير للفضول إلى مركز ما يدرسه الطب بحثاً عن منشأ المرض أو غاية العلاج، بل إن الخلايا تتحول الآن إلى أن تصبح هي العلاج نفسه.
تلك الرحلة التي قطعتها الخلية في الوعي الإنساني منذ أن وقعت عليها عينا روبرت هوك هي موضوع كتاب سيد هارتا موكيرجي الجديد الصادر بعنوان "أغنية الخلية". وموكيرجي، الذي يعرفه القراء العرب جيداً إذ سبقت ترجمة أهم كتبه إلى العربية، طبيب أورام وأستاذ مساعد للطب بجامعة كولومبيا الأميركية، فاز بجائزة "بولتزر" المرموقة عن كتابه الأول "إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان" (2010)، ويحظى منذ ذلك الحين بشعبية كبيرة وقراءة واسعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في كتابه "أغنية الخلية: استكشاف للطب والإنسان الجديد"، يكرر موكيرجي وصفته التي أثبتت نجاحها من قبل، فيملأ الكتاب بقصص جذابة، منها قصة إصابة صديق عزيز بسرطان الجلد، وقصة مرض شخص معين والنجاح في علاجه، وقصة تجربته الشخصية مع الاكتئاب، وتفاصيل مجاهداته في البحث سواء في الماضي أو الحاضر، رابطاً تلك القصص بالعلم، مخففاً بطاقاتها السردية من جفافه. وكشأنه في كتبه السابقة يستعين في كتابته هذا الكتاب الجديد بالاستعارات والمجازات بوصفها أدوات تعليمية، فالخلية عنده "مركبة فضائية"، والنواة "مركز القيادة"، والجينوم "المكتبة"، والعدلات أو خلايا الدم البيضاء اللازمة للاستجابة المناعية هي "الجنود المراهقون المبعوثون للقتال"، إلى غير ذلك.
ذلك العالم الغريب
في حوار مع صحيفة "جارديان" البريطانية -29 أكتوبر (تشرين الأول) 2022- قال موكيرجي إن "علم أحياء الخلية كان دائماً في مركز تفكيري، فبصفتي طبيب أورام أنظر إلى الخلايا من خلال السرطان، أي في أقصى حالات تشوهها. ولقد انصب كثير من اهتمامنا خلال القرن الماضي على الجينات، والجين عديم الحياة بغير الخلايا. ولا يمكن أن نقرأ في جزيء الحمض النووي ما يفسر اتخاذ العينين شكل العيون أو الكليتين شكل الكلى، ولكن الخلايا فقط في إطارها الصحيح هي التي قد تفسر هذه الشيفرة".
فما الخلية أصلاً؟ يقول موكيرجي في تعريف بسيط إنها "وحدة الحياة، الوحدة المستقلة الصغرى التي تتشكل منها كل حياة على هذا الكوكب"، إذن فالحاجة ماسة إلى معرفة مزيد عن طريقة عملها، وفي ظل اتساع الموضوع كان التحدي الكبير الذي واجه موكيرجي هو "العثور على بنية. فليس من الممكن الكتابة عن علم أحياء الخلية بمثل طريقة الكتابة عن الجين [كما في كتابه السابق الرائج]، لأن التسلسل التاريخي شديد الاختلاط. ولأنه في حال الجين أو السرطان كان ثمة جيش من العلماء يحاولون التوصل إلى حل لغز واحد، أما في حال علم أحياء الخلية فما من جيش وإنما هناك آلاف الألغاز. منها "كيف تكتسب كل خلية ما تنفرد به من شكل ووظيفة؟ ولماذا يختلف المخ عن القلب وإن تألف كل منهما من خلايا؟". وهذه الآلاف من الألغاز هي موضوع سعي تاريخي بدأ قبل قرون قليلة، وهي في الوقت نفسه موضوع "أغنية الخلية" المؤلف من قرابة 500 صفحة فقط.
في استعراضه لـ"أغنية الخلية" -"وول ستريت جورنال" في 28 أكتوبر 2022- يقدم ديفيد آيه شايوتز، الطبيب والمحاضر بجامعة هارفرد، ما يشبه الإطار العام للكتاب، فيكتب أن الكتاب يضعنا أمام تتابع سريع يبدأ بتاجر هولندي غامض يدعى أنطوني فان لوفينهوك أبصر للمرة الأولى سنة 1675 من خلال مجهر أحادي العدسة صممه بنفسه كائناً أحادي الخلية يعيش في قطرة من مياه الصرف، وعلى رغم ذكاء الرجل فإنه لم يرجع إلى الشكل الخلوي الذي رآه أية أهمية، فناب عنه في ذلك عالم النبات ماتياس شليدن وعالم الحيوان تيودور شوان في مطلع القرن التاسع عشر. كذلك كان للعالم والطبيب الألماني "المنطوي، التقدمي، الهامس باللغة الألمانية" رودولف فيرتشو دور أساس، إذ ذهب في محاضراته في برلين عام 1858 عن علم الأمراض الخلوي إلى أن "الخلايا تأتي من الخلايا"، داحضاً بذلك عقيدة عصره السائدة وهي أن الحياة تتجسد من "سائل حيوي" سار في الطبيعة، كما أكد فيرتشو أن "كل اضطراب مرضي، وكل تأثير علاجي، أي كل مرض وكل دواء إنما يمكن رده إلى نشاط خلوي أصلي".
مستعيناً بتشبيه رائد فضاء يقترب مستكشفاً سفينة فضائية غريبة، يقودنا موكيرجي عبر حدود الغشاء البلازمي إلى داخل الخلية، حيث نتحرك عبر السيتوبلازم الدبق ونقابل تكوينات مثل الميتوكوندريا أو محطات توليد الطاقة في الخلايا، والشبكة النوبلازمية وهي أنظمة أغشية شريطية يجري فيها تركيب البروتينات، والنواة أو مركز القيادة حيث التعليمات الأساسية مشفرة بالحمض النووي، ثم تتسارع وتيرة الرحلة فإذا بنا في فصل مخصص لتناسخ الخلايا، وفي آخر مخصص لعلم الأحياء التطوري حيث نعرف كيف تتكون الكائنات المعقدة من خلية واحدة، لنجد أنفسنا في النهاية أمام كم من المعلومات يراه ديفيد آيه شايوتز "ساحقاً".
غير أن الكتاب يؤوب إلى إيقاعه الهادئ حينما يبدأ موكيرجي في التركيز على ما قد يكون موضوعه الأثير، أي خلايا الدم عامة، ومكونات الجهاز المناعي بصفة خاصة، بادئاً مع إيلي ميتشيكوف، عالم الحيوان الذي وخز في عام 1882 سمكة نجمية بشوكة وراقب الخلايا وهي تتجه إلى الجرح، موثقاً "الدراما التي تكشفت داخل ذلك الكائن" بينما تقوم الخلايا بصد "الغزاة" الذين أدخلهم ميتشيكوف.
ميتافيزيقا العلم
في استعراض الروائية الأميركية سيري هوستفد الكتاب -"واشنطن بوست" في 24 أكتوبر 2022- تقول إن طموح الكتاب الجامح هو أن يظهر "كيف أن مفهوم الخلية وفهمنا علم وظائف الأعضاء الخلوي قد غيرا الطب والعلم وعلم الأحياء والتركيب الاجتماعي والثقافة"، فضلاً عما يعتقد أن مستقبل التلاعب الخلوي سيأتي به، أي قطع غيار "الإنسان الجديد" الذي يرد في عنوان الكتاب الفرعي. وتقول هوستفد إن موكيرجي "يلح على فكرة أن الخلية كائن حي مستقل"، وأنها تشكل جزءاً من كل، وأن الكائنات الحية ومن جملتها البشر ليست إلا مجموع هذه الخلايا. ويبدو أن هذا ما تحاول هوستفد بمقالتها أن تزعزعه إن لم نقل تدحضه.
فهي تتوقف عند تناول "أغنية الخلية" أمام النقاشات التي احتدمت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بين القائلين بالآلية (mechanists) الذين كانوا يفهمون الطبيعة بوصفها آلة يمكن اختزالها في أجزائها المنفصلة (فهم الاختزاليون)، والقائلين بالحيوية (vitalists) الذين ذهبوا إلى أن هذا المجموع غير كاف لتفسير الحياة.
وفي حين أن موكيرجي يدعم الرؤية التقليدية التي ترى أن الحيويين أدخلوا مكوناً إلهياً اعتبروا أنه مصدر الحياة. فإن الروائية الأميركية المرموقة تؤكد أنه وإن فعل بعضهم ذلك حقاً "فإن في مدرسة مونبلييه الفرنسية أعضاء آخرين لم يقترحوا أي مكون ماورائي، وإنما اقترحوا بالأحرى بيولوجيا وظيفية عقلانية ديناميكية لا يمكن اختزالها إلى عناصرها. ووفقاً لهذا النموذج الشمولي، يكون المجموع أكبر من أجزائه".
وتمضي فتكتب أنه "على رغم أن الاختزاليين انتصروا في الجدل حتى لم تعد كلمة الحيوية (vitalism) تستعمل في العلم إلا بحذر، فإن الجدل بين الاختزاليين والشموليين تجدد في فلسفة العلم وفي أنظمة البيولوجيا في القرن الحادي والعشرين، إذ توصلت أبحاث في القرن الحالي إلى أنه بازدياد الكائنات الحية تعقيداً تنشأ خصائص جديدة من شبكاتها الدينامية، ومن هذا المنظور فإن تفكيك الكائن إلى أجزائه المنفصلة ثم تجميعه مرة أخرى لن يوفر فهماً تاماً لكلية حياة الكائن الحي. غير أن هذه المسألة برمتها غير حاضرة في الكتاب".
ولا أعرف إلى أي مدى أغامر حين أحاول تبسيط طرحي هوستفد وموكيرجي إلى قولين: فموكيرجي يقول إن الكائن الحي هو مجموع أجزائه أو خلاياه، في حين تؤمن هوستفد بأن الكائن الحي أكبر من مجموع أجزائه.
يستعين موكيرجي كثيراً مثلما سبقت الإشارة بالاستعارات، وهو أيضاً ما تأخذه عليه هوستفد. فهو يستعير من رودولف فيرتشو استعارة الخلية بوصفها مواطناً في مجتمع أكبر، لكن موكيرجي يتوسع في هذه الاستعارة فيتكلم عن "فك شيفرة قوانين المواطنة الخلوية، قوانين التسامح والتواصل والتخصص والتنوع وإقامة الحدود والتعاون، بما سيؤدي إلى ولادة نوع جديد من الطب الخلوي".
تقول الروائية سيري هوستفد إن "الاستعارات ضرورة للتفكير في العلم"، ولكن "أحد فلاسفة العلوم، أي إيفيلين فوكس كيلر، ذهبت إلى أن الاستعارات قد تفتح طرق الاكتشاف وقد تغلقها، إذ يسهل الخلط بين المجازي والحرفي"، ومن ذلك مثلاً "تصوير الجينوم باعتباره الجزيء الرئيس أو الجزيء القائد، واضع الخطط والشيفرات"، على رغم أن الجينوم بحسب ما يقول موكيرجي نفسه نقلاً عن عالمة الجينات باربرا مكلينتوك ليس سوى جزء حساس من الخلية، يكون "خاملاً لولا بيئته الخلوية"، وهو ما يتعارض مع دوره القيادي الاستعاري.
على مدار الكتاب، يستعمل موكيرجي في وصف النظام المناعي استعارة شائعة عن معركة بينـ"نا" وبينـ"هم"، أي بين الخلايا الخاصة بشخص (فهي: الذات) والميكروبات الغازية له أو "الأجانب" عليه (فهي: اللاذات). ويوضح موكيرجي أن فرانك مكفارلين بيرنت هو الذي وضع في منتصف القرن العشرين إطار (الذات في مقابل اللاذات"، واصفاً له النظام المناعي، ويقدم أمثلة كثيرة للخلايا التي تتعرف إلى الأجسام الغريبة وتدمرها، أي المواد التي تثير الاستجابة المناعية. على رغم أن موكيرجي يتعامل حرفياً مع التمييز بين الذات واللاذات، فإن هوستفيد تؤكد أن ذلك ليس إلا مجازاً، ومفهوماً مستعاراً من علم النفس والفلسفة يدحضه علم المناعة.
تقول هوستفد إن موكيرجي لا يشير إلى أن التناسل البشري هو اندماج تعاوني بين ذوات مختلفة، فالخلية المخصبة "الزيجوت" (zygote) مؤلفة من شخصين، والجنين غريب -جزئياً- على جسد الحبلى من الناحية الجينية، لكن النظام المناعي للأم لا يرفض الجنين، وهو أمر حار العلماء فيه على مدى السنين.
تقول هوستفد "لطالما تساءلت لماذا يندر أن يذكر الحمل الذي يتهاوى خلاله نموذج الذات/ اللاذات في النقاش، فضلاً عن ذلك، فإن انتقال الخلايا عبر المشيمة من الجنين إلى الأم ومن الأم إلى الجنين بات يعترف به أخيراً باعتباره جزءاً من الحمل الطبيعي".
وتضيف هوستفد أن الخلايا الجنينية قد تبقى لعقود داخل الأم، و"لم يزل الباحثون يعملون على فهم الدور الذي تلعبه هذه الخلايا المهاجرة في الإنقاذ المناعي والمرض، كما أن موكيرجي يتجاهل حقيقة أن البشر يستضيفون أعداداً هائلة من الميكروبات والفيروسات الغريبة (أي اللاذوات)، فلا تتسامح معها الأجسام وحسب، بل إنها لازمة من أجل بقائنا".
وتشير هوستفد أخيراً إلى أن فلاسفة في علم الأحياء من قبيل جون دوبريه وبولي ماتزنغر وتوماس برادو وألفريد توبير يتحدون افتراض الذات/ الآخر الذي يعده موكيرجي من قبيل المسلمات.
لقد أشرت في صدر هذا المقال إلى أن الصورة القديمة للعالم متعدد الاختصاصات الذي كثيراً ما جمع بين الفيلسوف واللاهوتي والأديب والعالم كان بطريقة ما يرقق العلم أو يوسع أفقه، مضفياً على برودة واقعيته واقتصار نظره على الملموس دفئاً من غموض الميتافيزيقا واتساع الخيال، وذلك ما تجلى في تسمية الخلية بالصومعة. ولعل ما قد يعوض هذا الآن هو أن يهتم الأدباء بالعلم، فما تفعله سيري هوستفد، وهي قديمة الاهتمام بالعلوم، في بعض رواياتها ناهيكم بمقالاتها وكتبها غير الخيالية، أثر واضح لهذا. وتناولها كتاب موكيرجي ليس محاولة للوصل بين الملموس والغامض، وإنما هو إلقاء ضوء على جهود علمية قد تكون أقل حضوراً لكنها جديرة بأن تزاحم قليلاً النظريات السائدة في وعينا.
ربما لا تكون إشارة هوستفد إلى الحمل دليلاً قاطعاً ينفي كون الجسد الإنساني قلعة موصدة دون الغرباء مثلما يصورها العلماء، لكنه قد يكون حافزاً كافياً لنا على عدم التسليم بأننا نضمر في أجسامنا جيوشاً لحمايتنا. وقد لا يكون مطلوباً أكثر من زعزعة هذه الاستعارة، وهي استعارة كفيلة بأن تخلق فينا من دون وعي تحفزاً ضد كل غريب أو مختلف أو آخر. فلعل "أغنية الخلية" شأن الأغنيات جميعاً بحاجة إلى آلات مختلفة الأصوات، ونغمات تتباين في انعزالها، لكنها باجتماعها وتآلفها تصبح جميعاً في خدمة لحن واحد، هو أكبر من أجزائه.
العنوان: The Song of the Cell: An Exploration of Medicine and the New Human
تأليف: Siddhartha Mukherjee
الناشر: Scribner