يقول سيرهي المقاتل الأوكراني - الذي يندفع مسرعاً مع جندي محلي كان يقوم معه بدوريات في إحدى قرى المواجهة، للاحتماء من القصف المنهمر على المنطقة - إن كل يوم من المواجهات مع الروس يشبه معركة "هرمجدون" Armageddon.
لا تكاد تمضي لحظات قليلة محفوفة بالتوتر على توقف القصف، حتى يدوي خلفهما انفجار آخر أشد قوة. يجلس الرجلان القرفصاء بالقرب من مكتب بريد مدمر جزئياً، ويشرعان في احتساب المسافة من مصدر القصف، واتجاه النيران التي تتساقط على المكان.
إنها قرية نوفوليكساندريفكا المهجورة في إقليم خيرسون الأوكراني الجنوبي، الواقعة على الضفة الغربية لنهر دنيبرو الذي يشطر المنطقة إلى نصفين، وهي تتعرض لقصف متواصل من جانب القوات الروسية التي لا تبعد سوى أميال قليلة عن الجانب الآخر من النهر.
البلدات والقرى الصغيرة الأخرى في هذه المنطقة التي كانت تنعم بالسكينة في الماضي باتت هي الأخرى موضع استهداف من المواقع الروسية الموجودة على بعد نحو 20 ميلاً (32.19 كيلومتر) جنوباً. هناك، تشتعل جبهة أخرى حول العاصمة المحتلة للإقليم - يخوضها الأوكرانيون بشق الأنفس، إلى درجة أن الروس أعلنوا انسحاباً كبيراً لقواتهم منها.
لكن في نوفوليكساندريفكا التي تفتقر إلى المياه والكهرباء، يبقى الاحتفال بأي تراجع روسي سابقاً لأوانه. فدوي القصف العنيف ما زال يتردد صداه في أرجاء هذه المنطقة وأرضها المحروقة.
ويروي سيرهي "كان هناك قرابة ألف شخص يعيشون في هذه القرية، لكن لم يتبق منهم الآن سوى بضع مئات"، ويروي كيف عانت البلدة من فظاعة الاحتلال الوحشي الذي دام سبعة أشهر، وكذلك من آثار "استفتاء ضمها" إلى روسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف، "كانت المنطقة تستهدف يومياً بالقصف وبقذائف الهاون والمدفعية والمسيرات. لقد تلقينا سبع هجمات مدفعية هذا الصباح. والوضع يزداد سوءاً".
البلدات والقرى الأوكرانية في إقليم خيرسون الجنوبي التي كانت تقع تحت الاحتلال الروسي باتت الآن مدمرة، وما زالت تحمل ندوب بعض أعنف المعارك في الحرب الدائرة هنا. ويعود ذلك إلى الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة بالنسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغزوه للبلاد الذي بدأ في شهر فبراير (شباط) الماضي.
هذه المنطقة كانت في طليعة الأهداف الأولى لعسكر موسكو عندما توغلوا في الريف الأوكراني وأخذوا يسيطرون على مدن وبلدات في إقليم زابوريجيا المجاور، قبل أن يتوجهوا غرباً إلى خيرسون. وهي تقع أيضاً على حدود شبه جزيرة القرم التي كان الرئيس بوتين قد ضمها بشكل غير قانوني إلى بلاده في عام 2014. وتشكل تالياً بالنسبة إلى موسكو جسراً برياً بالغ الأهمية، يربطها بشبه جزيرة القرم الواقعة على البحر الأسود، والتي تتمركز فيها قوة عسكرية روسية ضخمة، وتأوي أسطول بوتين في البحر الأسود.
تعد خيرسون العاصمة الإقليمية للمنطقة - الواقعة على الضفة الغربية لنهر دنيبرو على بعد نحو 30 ميلاً (48.28 كيلومتر) جنوب قرية نوفوليكساندريفكا - أحد المكاسب الثمينة للغزو الروسي المستمر، وآخر مركز إقليمي متبق تم الاستيلاء عليه خلال هذه الحرب التي يقوم بها الكرملين. وبعد سلسلة من الاستفتاءات، أقام الرئيس بوتين مراسم احتفال لـ"ضم" مدينة خيرسون ومناطق أوكرانية أخرى إلى روسيا، في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي.
لكن يوم الأربعاء الماضي، وبعد مواجهة هجمات أوكرانية مستمرة، أمر وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قواته بالانسحاب من خيرسون، وكذلك من جميع المواقع التي تسيطر على الضفة الغربية لنهر دنيبرو.
هذا القرار يؤشر إلى ما قد تكون انتكاسة مدمرة ومحرجة للكرملين، الذي كان قد أجبر سابقاً على الانسحاب من المنطقة المحيطة بالعاصمة الأوكرانية كييف ومن مدينة خاركيف في الشمال الشرقي للبلاد.
إلا أن الإعلان المتلفز عن الانسحاب الروسي - الذي جاء تتويجاً لأسابيع من "عمليات إخلاء" روسية للمدينة حظيت بتغطية إعلامية جيدة - قوبل بحذر وتشكيك كبيرين من جانب السياسيين والجنود الأوكرانيين على حد سواء.
وأعرب مسؤولون لـ"اندبندنت" عن اعتقادهم بأن القوات الروسية اضطرت إلى مغادرة الضفة الغربية لنهر دنيبرو بعد أن تم قطع خطوط الإمداد عنها، إلا أن تلك القوات ما زالت متمركزة داخل المدينة، ولديها احتياطيات إضافية، وهي تنتظر في المنطقة لنصب مكامن للأوكرانيين.
ماكايلو بودولياك كبير مستشاري الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أوضح لـ"اندبندنت" أنه إلى حين إعادة رفع الأعلام الأوكرانية فوق المباني الإدارية في مدينة خيرسون، فإن كل ما تقوله روسيا ليس سوى "مصيدة إعلامية".
ونبه في وقت لاحق عبر حسابه على "تويتر" إلى أن روسيا ستحول خيرسون إلى "مدينة أشباح"، من خلال زرع شوارعها بألغام أرضية، واستهدافها بالقذائف من مواقع لا تزال تحتلها في الضفة الشرقية للنهر.
هذا الكلام يؤكده جنود أوكرانيون يقومون بدوريات في البلدات التي تم تحريرها في المدة الأخيرة في إقليم خيرسون، إذ يتوقعون أن تزداد عمليات القصف ضراوة على بلدات مثل نوفوليكساندريفكا، فيما تواصل القوات الروسية هجماتها العنيفة على المواقع الأوكرانية، وتحاول استدراج الأوكرانيين إلى الاندفاع [التسرع] في التقدم.
هذه العمليات يصفها جندي في إحدى البلدات المحررة - لم يشأ الإفصاح عن اسمه لأنه غير مخول بالتحدث مع وسائل الإعلام - بأنها "حيل وتكتيكات عسكرية" ويقول، "توقعوا قصفاً عنيفا". ويوافقه في الرأي مدنيون ما زالوا يقيمون في المنطقة.
في أركانيلسيكي، وهي قرية تقع غرب نوفوليكساندريفكا وتبعد نحو 15 كيلومتراً عن المواقع الروسية في جنوب خيرسون، يعاني السكان انقطاعاً للمياه والكهرباء والغاز. ويصف أهلها الذين تقطعت بهم السبل نتيجة تدمير القصف مبانيهم السكنية، كيف تعرضوا للتعذيب والخطف والقتل في ظل احتلال روسي دام قرابة سبعة أشهر، ووسط حصار في إحدى أعنف جبهات القتال.
موسكو دأبت مرات عدة على نفي ارتكاب جنودها أي جرائم في أوكرانيا، واتهمت كييف بارتكاب فظائع لكسب تأييد دولي.
لكن فالنتين المواطن الأوكراني البالغ من العمر 57 سنة، الذي كان يجمع مساعدات إنسانية على دراجته. يقول إن ابن عمه جرى اعتقاله، وتعرض للتعذيب في قبو تحت مبنى مركزي لشقق سكنية سيطرت عليها القوات الروسية. ويوضح أنهم اشتبهوا في أنه كان يساعد الجيش الأوكراني، لأنه حاول تسلق تلة في محاولة منه لالتقاط إشارة شبكة هاتف محمول، بغية التواصل مع أفراد أسرته الذين هم خارج البلدة. ويضيف، "كان الجنود يشتبهون في أي شخص يتوجه إلى هناك، ويستدعونه للاستجواب، كما كانوا يعمدون إلى ضرب الناس وإقحام أزاميل تحت أظافرهم".
أما ميكولا البالغ من العمر 60 سنة وهو عامل في قطاع السكك الحديدية، وابنه محاصر في مدينة خيرسون، فيقول إن زوجين صديقين له من القرية نفسها - هما فالنتين (56 سنة) ولاريسا (50 سنة) - عثر عليهما مقتولين رمياً بالرصاص في قبو منزلهما. ويقول بحزن عميق أن السكان يشتبهون في أن لاريسا تعرضت للاغتصاب قبل الإجهاز عليها.
ويتابع ميكولا مردداً كلام مواطنين أوكرانيين آخرين عالقين داخل البلدة، أنه في ظل الوحشية التي يمارسها الجنود الروس، ومعرفتهم بمدى أهمية السيطرة على خيرسون خلال غزوهم، يشعر بأن "من السابق لأوانه الاحتفال" أو الوثوق بالأخبار المتداولة في شأن الانسحاب الروسي من هذه العاصمة الإقليمية.
ويضيف، "ما لم نسمع أنباء رسمية عن تحرير خيرسون، ونرَ القوات الأوكرانية داخل المدينة، فإننا لن نحتفي بهذا الحدث".
ميكولا لديه ابن (33 سنة) وأحفاد عالقون داخل مدينة خيرسون، شأنه شأن كثير من مواطنيه في مختلف أرجاء الإقليم. وقد حاول ابنه - الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية - النزوح ثلاث مرات إلى أراض لا تزال في عهدة أوكرانيا، لكن القناصة الروس ظلوا يستهدفونه بإطلاق النار عليه، مما دفعه إلى العدول عن ذلك في نهاية المطاف.
ويستنتج ميكولا من خلال المكالمات القصيرة التي أجراها مع ابنه، أن الوضع داخل العاصمة الإقليمية يتفاقم. ويتابع قائلاً، "أخبرني بأنه لا توجد كهرباء ولا ماء، وأن نصف البنية التحتية للمدينة صار مدمراً، وأن سكانها لا يحظون بتغطية إنترنت جيدة".
وكانت معلومات قد أفادت بأن الأعلام الروسية قد أنزلت من على المباني الإدارية للمدينة، ولم يكن هناك ما يشير إلى وجود عناصر من الجيش الروسي، الذين كانوا قد انتقلوا في وقت سابق إلى شقق السكان الذين تم إجلاؤهم، لكن ميكولا يقول إن ابنه ليس متأكداً من حدوث انسحاب روسي كامل.
في الوقت نفسه، يتعرض مدنيون أوكرانيون كهؤلاء، لضغوط من أجل الانتقال إلى أراض تسيطر عليها روسيا بما فيها شبه جزيرة القرم، لكنهم يجبرون هناك، وفق ما يقول ابنه، على تغيير هويتهم وحمل جوازات سفر روسية، ليصار لاحقاً إلى تجنيد من هم في سن القتال (موسكو تنفي ذلك).
ويضيف ميكولا باستهجان يائس: "لهذا السبب قرر ابني البقاء في خيرسون. إنني قلق للغاية عليه. آمل في أن يتمكنوا من إنشاء ممر آمن لإخراجه، لكن هذا كل ما أستطيع أن أتمناه، إلى حين تحقيق التحرير الكامل".
ما قاله ميكولا يعكس صداه كثيرون غيره أجرت "اندبندنت" حديثاً معهم، وهم ما زالوا عالقين داخل منطقة خيرسون التي لا تزال تسيطر عليها روسيا. وفي مستوطنة تقع في شرق الإقليم، وصف أحدهم لـ"اندبندنت" من خلال تطبيق مشفر، كيف تم إجبار أوكرانيين على قبول جوازات سفر روسية. ولفت إلى أنه لا يتم منح دعم اجتماعي للنازحين من أجزاء أخرى من البلاد، ولا الحق في شراء عقارات، ما لم يكونوا حاملين جوازات سفر روسية.
ويشير إلى أنه "وسط كل ذلك لا توجد وظائف [مصادر عيش]، إذ إن كل شيء معطل الآن، فيما الأسعار تواصل الارتفاع".
أما في نوفوليكساندريفكا، فقد دأب سكانها على استغلال الفترات الفاصلة بين قصف وآخر، من أجل العمل على تأمين نقل المياه إلى البلدة عبر سيارات الإطفاء. وبالنسبة إليهم، فإن الشتاء المقبل هو شاغلهم الأبرز [مصدر الهم والقلق].
أولكسندر (61 سنة) وأندري (44 سنة) اللذان يعملان ميكانيكيين، يخشيان أن تكون الأشهر المقبلة مميتة، في ظل غياب الماء أو الكهرباء، ومع انخفاض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر مئوية.
ويختم بالقول: "إن عدم التفكير بالقتال الدائر أو بأي أخبار عن الانسحاب، لا يمنحنا شعوراً أفضل، لكن علينا أن نصب تركيزنا على البقاء على قيد الحياة خلال فصل الشتاء".
© The Independent