بدت مؤشرات التضخم في الولايات المتحدة الأميركية تميل إلى الهبوط نحو 7.7 في المئة خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2022، نزولاً من معدلات وصلت إلى 9.1 في المئة خلال يونيو (حزيران) في أعلى مستوى لها منذ أكثر من 42 عاماً، بينما في القاهرة مرّ أكثر من 270 يوماً على أولى محاولات البنك المركزي المصري قمع ثورة التضخم في مهدها خلال مارس (آذار) 2022 عندما سجل معدل التضخم آنذاك 12.1 في المئة، برفع أسعار الفائدة خلال جلسة استثنائية بنحو 100 نقطة أساس وهو ما يعادل واحداً في المئة.
وبعد شهرين قفز معدل التضخم السنوي إلى 14.9 في المئة ليتدخل البنك المركزي المصري للمرة الثانية في مايو (أيار) ويرفع أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس، وهو ما يعادل اثنين في المئة، وهنا هدأت ثورة التضخم قليلاً لتتراجع إلى 13.2 في المئة خلال الشهر التالي يونيو (حزيران) 2022.
وفي أول اجتماع للجنة السياسة النقدية بقيادة محافظ جديد للبنك المركزي حسن عبدالله قررت اللجنة الإبقاء على أسعار الفائدة في أغسطس (آب)، ثم ثبتت الأوضاع كما هي في الشهر التالي، أي سبتمبر (أيلول)، لتسجل أسعار الفائدة حينها عند 11.25 في المئة على الإيداع و12.25 في المئة على الإقراض.
وبعد فترة من سكون الجانبين عادت مستويات التضخم إلى الارتفاع مجدداً لتصل المؤشرات إلى أعلى مستوياتها منذ أربع سنوات عند 15 في المئة خلال سبتمبر في مقابل 14.6 في المئة خلال أغسطس.
وعاد البنك المركزي للتدخل من جديد باجتماع استثنائي في الـ 27 من أكتوبر (تشرين الأول) ورفع أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس وهو ما يعادل اثنين في المئة، لكن ذلك لم يكن كافياً لردع معدلات التضخم التي سجلت أعلى مستوياتها.
وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، الخميس 10 نوفمبر (تشرين الثاني)، أن التضخم السنوي في المدن ارتفع بأكثر من المتوقع خلال أكتوبر إلى 16.2 في المئة، مسجلاً أعلى مستوى خلال أربع سنوات، وبالتزامن أعلن البنك المركزي المصري ارتفاع المعدل السنوي للتضخم الأساس ليبلغ مستوى 19 في المئة خلال شهر أكتوبر الماضي مقارنة بنحو 18 في المئة خلال شهر سبتمبر.
لجنة السياسة النقدية التابعة للبنك المركزي بررت في كل مرة تتخذ قرار رفع أسعار الفائدة بأنه يهدف إلى احتواء الضغوط التضخمية الناجمة عن جانب الطلب وارتفاع معدل نمو السيولة المحلية والتوقعات التضخمية والآثار الثانوية لصدمات العرض، وأن الاقتصاد العالمي واجه العديد من الصدمات والتحديات التي لم يشهد مثلها منذ سنوات.
وتعرضت الأسواق العالمية خلال الآونة الأخيرة إلى انتشار جائحة كورونا وسياسات الإغلاق، ثم استتبعها الصراع الروسي - الأوكراني الذي كان له تداعيات اقتصادية وخيمة، وقد تسبب ذلك في الضغط على الاقتصاد المصري إذ واجه تخارجاً لرؤوس أموال المستثمرين الأجانب، فضلاً عن ارتفاع أسعار السلع، إذ إن هدفها الأساس هو تحقيق استقرار الأسعار والحفاظ على مستويات كافية من الاحتياطات الدولية.
التضخم يرتفع 100 في المئة
وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الخميس الماضي ارتفاع الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية (التضخم) إلى 137.2 نقطة لشهر أكتوبر الماضي، مرتفعاً بنسبة 2.5 في المئة على أساس شهري قياساً بشهر سبتمبر السابق، بينما ارتفع التضخم على أساس سنوي لإجمالي الجمهورية أيضاً خلال أكتوبر ليصل إلى 16.3 في المئة من 7.3 في المئة للشهر نفسه من العام الماضي 2021.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأرجع جهاز الإحصاء المصري ارتفاع مستويات التضخم إلى زيادة قسم الطعام والمشروبات بنسبة 3.2 في المئة بسبب ارتفاع أسعار مجموعة الخضراوات بنسبة 7.6 في المئة، ومجموعة الألبان والجبن والبيض بنسبة 5.7 في المئة، ومجموعة اللحوم والدواجن بنسبة 3.4 في المئة، ومجموعة منتجات غذائية أخرى بنسبة 3.2 في المئة، ومجموعة البن والشاي والكاكاو بنسبة اثنين في المئة، ومجموعة السكر والأغذية السكرية بنسبة 1.9 في المئة، ومجموعة الحبوب والخبز بنسبة 1.6 في المئة، ومجموعة الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 1.5 في المئة، ومجموعة الزيوت والدهون بنسبة 1.1 في المئة، في حين تراجعت أسعار مجموعة الفاكهة بنسبة 0.6 في المئة.
ارتفاع أسعار الطعام 24 في المئة
وحول ارتفاع التضخم على أساس سنوي، عزا الجهاز الارتفاع إلى الزيادة الحاصلة في قسم الطعام والمشروبات بنسبة 23.9 في المئة بسبب زيادة أسعار مجموعة الحبوب والخبز بنسبة 49.7 في المئة، ومجموعة الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 34.9 في المئة، ومجموعة الألبان والجبن والبيض بنسبة 34.5 في المئة، ومجموعة الزيوت والدهون بنسبة 34.2 في المئة، ومجموعة منتجات غذائية أخرى بنسبة 32.7 في المئة، ومجموعة السكر والأغذية السكرية بنسبة 28.2 في المئة، ومجموعة البن والشاي والكاكاو بنسبة 21.6 في المئة، ومجموعة اللحوم والدواجن بنسبة 17.8 في المئة، ومجموعة المياه المعدنية والغازية والعصائر الطبيعية بنسبة 17.6 في المئة، ومجموعة الفاكهة بنسبة 3.9 في المئة.
ولمعرفة عدم رضوخ مستويات التضخم المرتفعة لمسكنات البنك المركزي المصري برفع أسعار الفائدة كما حدث في واشنطن، استطلعت "اندبندنت عربية" مسؤولين ومحللين للوقوف على أسباب ذلك.
هدوء التضخم يحتاج إلى أشهر عدة
بداية قال مصدر مسؤول في البنك المركزي المصري، رفض ذكر اسمه، إن "البنك يستهدف بالفعل خفض مستويات التضخم برفع أسعار الفائدة"، مستدركاً "لكن بعضهم يعتقد أن هدوء مستويات التضخم يأتي مباشرة بعد رفع أسعار الفائدة، وهذا يخالف الحقيقة".
وأوضح المصدر أن "هبوط معدلات التضخم لمستويات ما قبل الحرب الروسية - الأوكرانية قد يحتاج إلى أشهر عدة، لأسباب أبرزها أن التضخم الحالي في البلاد مرتبط بالأحداث العالمية وليس شأناً داخلياً، علاوة على أن التضخم حصل على دعم كبير بسبب مؤشر الدولار الأميركي القوي في تلك الفترة مع ارتفاع أسعار الفائدة في واشنطن إلى مستويات عام 2008".
وبالرؤية نفسها قال المتخصص في شؤون الاقتصاد الكلي هاني توفيق إن "عدم استجابة مؤشرات التضخم لمكابح البنك المركزي وأبرزها رفع أسعار الفائدة يعود لأن التضخم لم ينتج من أسباب تتعلق بالشأن المحلي أو سياسات مالية داخلية، بل دخل البلاد عنوة مع السلع المستوردة من الخارج".
منع الدولرة
وحول جدوى رفع أسعار الفائدة التي لا تستجيب لها مستويات التضخم، يعتقد توفيق أن رفع أسعار الفائدة ليس عديم المنفعة، فإذا كانت النتيجة هي منع الدولرة (ارتفاع الطلب على الدولار للحفاظ على قيمة المدخرات وليس للتعامل) فهذا شيء جيد، كما أنه يسهم في التصدي لانفلات معدلات التضخم إلى أكثر من المستويات الحالية أو التي تصل إلى مستويات عام 2017 عقب قرار التعويم الأول عام 2016.
ووصلت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية في العام التالي لقرار تحرير سعر الصرف (التعويم الأول) في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، إذ تخطت حاجز الـ 30 في المئة خلال عام 2017.
وفي الجهة المقابلة يرى المحاضر في الجامعة الأميركية هاني جنينة أن "وصول معدلات التضخم في مصر إلى 16.3 في المئة يعود لتباطؤ البنك المركزي المصري في التعامل بقوة منذ بداية الحرب الروسية - الأوكرانية"، موضحاً أنه "في البداية قاوم المركزي المصري التضخم ببأس شديد في مارس الماضي عندما رفع أسعار الفائدة بمقدار واحد في المئة ثم اثنين في المئة خلال مايو الماضي"، مستدركاً "لكنه تمهل ستة أشهر كاملة قبل أن يعاود رفع أسعار الفائدة بمقدار اثنين في المئة خلال أكتوبر الماضي، وهو ما أطلق العنان للتضخم ليكسر الحدود الآمنة التي يستهدفها البنك".
تراخي البنك المركزي
ويستبعد جنينة نظرية أن التضخم مستورد من خارج البلاد مع السلع والمنتجات، إذ يعتقد أنه في بداية الحرب الروسية - الأوكرانية كان التضخم مستورداً من الخارج، لكن بعد ذلك تسبب تراخي البنك المركزي في رفع أسعار الفائدة في وصول معدلات التضخم إلى 16.3 في المئة على عكس ما حدث بالولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت تحصد ثمار سياسة التشديد النقدي منذ مارس الماضي بهبوط معدلات التضخم للمرة الأولى منذ يناير".
ويستهدف البنك المركزي المصري معدل تضخم يدور في فلك السبعة في المئة مع حرية الارتفاع بمقدار اثنين في المئة أو الانخفاض بالنسبة ذاتها، فتكون معدلات التضخم المستهدفة تتراوح بين خمسة إلى تسعة في المئة خلال الربع الأخير من 2022، وهو ما يشير إلى أن المعدل المستهدف تخطى تلك الحدود بنسبة تزيد على 100 في المئة.
هدوء التضخم في أميركا
وتشهد معدلات نمو التضخم في الولايات المتحدة الأميركية تباطؤاً على أساس سنوي، إذ سجلت خلال أكتوبر الماضي نحو 7.7 في المئة، وجاء الارتفاع بنسبة أقل من توقعات المحللين لشهر أكتوبر، وهذه هي المرة الأولى التي يسجل التضخم السنوي نسبة أقل من ثمانية في المئة منذ فبراير (شباط) الذي شهد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، بعد أن وصلت إلى ذروتها خلال يونيو 2022 بعد أن تخطى حاجز التسعة في المئة ضمن أعلى مستوى منذ أكثر من 40 عاماً.
وواجهت واشنطن مستويات التضخم المرتفعة برفع أسعار الفائدة ست مرات خلال 2022، أخرها مطلع الشهر الحالي بعد أن قرر مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي رفع أسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية 75 نقطة أساس للمرة الرابعة على التوالي لتصل إلى نطاق بين 3.75 في المئة وأربعة في المئة، وهو أعلى مستوى منذ أوائل عام 2008.
ويرى عميد كلية السياسة العامة بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية أندريس فيلاسكو أن دولاً مثل البرازيل وشيلي والمجر ونيوزيلندا والنرويج وبيرو وبولندا وكوريا الجنوبية رفعت أسعار الفائدة باكراً وعالياً، لكن حتى بعد زيادة بلغت في المتوسط ست نقاط مئوية خلال العام المنتهي في أكتوبر لا يزال التضخم في ارتفاع والنمو في تراجع، متسائلاً هل ارتكبت تلك الدول خطأ سياسياً؟ كلا بكل تأكيد.
الجائحة والحرب عمقتا التضخم
وأشار فيلاسكو إلى أن "الزخم الأولي لارتفاع الأسعار جاء مع انهيار سلاسل التوريد وندرة الغذاء بسبب أزمة أوكرانيا، وكانت الصدمة الثانية التي دفعت الكلف إلى ارتفاعات أكبر راجعة إلى قوة الدولار الأميركي، لافتاً إلى أن كل البلدان التي رفعت أسعار الفائدة باكراً وعالياً تطبق نظام أسعار الصرف العائمة (التعويم)، ومع ارتفاع قيمة الدولار إلى عنان السماء وهبوط قيمة عملات هذه البلدان ارتفعت الأسعار المحلية للواردات فتعمق التضخم".