على نغمات أغان فلسطينية، بدأ الراقص مهند بتحريك جسده بكامل أناقته وسط شارع عمومي في غزة، بخطوات منسجمة يوجه يديه مرة نحو اليمين وأخرى باتجاه اليسار، ثم ينزل على الأرض ليواصل رقصته المعاصرة، وكأنه يوجه رسالة ذات معنى، وفجأة يقف على تصفيق المارة الحار الذين اجتمعوا لمشاهدته.
شجع تصفيق الجمهور الذي يشاهد مهند، على مشاركة أعضاء آخرين من فريق "حي للرقص المعاصر" للدخول في رقصة جديدة، وبثبات وثقة أدى كل واحد منهم دوره المنوط به بحركات جسدية متناسقة في محاولة منهم للتعبير عن قضايا وتحديات مختلفة يواجهونها داخل مجتمع غزة، وإيصال رسائل مفادها أن حركات الجسد هذه تساعد على التفريغ النفسي وتضفي مزيداً من السعادة على وجوه المشاهدين.
مجتمع محافظ
في نهاية الرقصة تفاجأ فريق "حي للرقص المعاصر" من أعداد المارة الهائلة حولهم وإثارة انتباههم، فسكان غزة لم يشاهدوا عرضاً من قبل للرقص المعاصر بطريقة مباشرة، ومعظمهم كانوا يتفرجون عليه عبر مقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
اهتمام المارة بهذا النوع من الرقص لم يكن وليد الساعة، بل جاء بعد محاولات كثيرة منهم لإقناع سكان غزة بأنهم يمتلكون موهبة تستوجب التقدير، ففكرة الرقص المعاصر أمام الناس تعد غريبة على مجتمع غزة، الذي يصنف أنه محافظ، ويلتزم فيه السكان العادات والتقاليد، وبالعادة ينبذ الناس الرجل الذي يرقص إذ يعتبرون أن الرقص لا يليق بالرجال.
في البداية، لم يكن من السهل على مهند الرقص أمام الناس، إذ كان يتلقى نظرات سلبية وانتقادات حادة، ويقول "كنت أعلم أنني سأواجه من مجتمعي تعليقات موجعة، ولكن إصراري على المواصلة هو ما كنت أفكر فيه فقط، لذا لم أهتم للنظرة السلبية لغالبية الناس ولانتقاداتهم القاتلة بعض الأحيان".
ويضيف "الدخول في مجالات غريبة بعيداً من عادات وتقاليد المجتمع يحتاج إلى تحد وقوة لمواجهة المجتمع وكسر تقاليده، فالاستمرار في العمل مهم كثيراً من أجل البقاء، والاستسلام لقيل والقال يسقط الموهبة وينفيها في لحظات، خصوصاً في غزة المحافظة".
الرقص المعاصر ضروري لغزة
رفض مهند الذي يعد أحد رواد هذا الفن الاستسلام للانتقادات، وأخذ على عاتقه بذل كل جهد لتعريف "أهالي القطاع المنعزل عن العالم بالرقص المعاصر"، وبدأ يعلمه للهواة العاشقين له ويرغبون في ممارسته.
ويعتقد أن "الرقص المعاصر يحتاجه سكان هذه المنطقة بشدة على رغم انتقادهم له، ويجب أن يمارسوه، فهو يعد من أنواع الرقص التعبيري، ويتم استغلاله لتفريغ الطاقة السلبية وحل الضغوطات النفسية ومن خلاله يجري توظيف الطاقات لطرح الأفكار والمشاعر، وحلها بأساليب حركية معاصرة، وإذا لجأ له أفراد غزة قد يخرجون من مشكلات كثيرة متراكمة داخلهم".
تعليم ذاتي
لم يجد مهند في غزة من يتعلم منه مهارات الرقص المعاصر، فالقطاع يفتقر لمدربين خبرة في هذا المجال، فلجأ إلى مشاهدة عدد كبير من الفيديوهات لفنانين محترفين ليتعلم منهم أساليب الرقص، وركز على دراسة حركات أجسادهم مجرباً تقليدها أمام المرآة، وأصبح يبحث عن معنى وهدف كل حركة، وكيف يتم توظيفها لفهم اكتمال الرقصة التي تعبر كل منها عن موضوع ما.
ويضيف "كنت أقف أمام المرآة لمدة تتجاوز خمس ساعات يومياً من أجل تدريب نفسي وتطوير حركاتي، لقد كنت أركز كثيراً على حركات الفنانين وكيفية إتقانها من أجل الوصول إلى حالة الإبداع والرضا عن الأداء".
وقف الشاب ثلاث سنوات أمام المرآة، وبعدها قرر الخروج من بين جدران غرفته إلى الشارع وسط الناس، وبعد محاولات عدة بدأ يتقبله المجتمع ويرحب بفكرته ويشجعه، وبعد لمس تغيير في نظرة المجتمع عمل على تأسيس فريق "حي للرقص المعاصر"، الذي يعتبر أنه يعكس إصراره على نشر ثقافة الرقص داخل مجتمع غزة.
فريق وسط قيود
انضم إلى فريق مهند نحو 20 شخصاً من هواة الرقص المعاصر، ويقول "في هذا النوع من الرقص نعمل على توظيف لغة الجسد والمسرح الحركي لإيصال رسائل والتعبير عن قضايا مختلفة يعيشها سكان غزة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويدرب مهند الشباب والفتيات، لكن يجب أن تكون الإناث في سن الطفولة ويمنعن من ممارسة هذا الرقص عند تجاوزهن مرحلة عمرية معينة، ويشير إلى أن العادات والتقاليد لا تسمح لفتاة أن ترقص مع شاب في غزة، فضلاً عن منع وزارة السياحة الفتيات اللواتي تجاوزن 14 سنة من اعتلاء المسارح أو الرقص في الشارع.
وبسبب القيود الكبيرة التي تفرضها الجهات الحكومية على مهند، اضطر عدد كبير من أعضاء فريقه لمغادرة غزة بحثاً عن فرص أفضل يستطيعون فيها ممارسة هذه الهواية بحرية.
بلا مشاركات
في الواقع، يعد فريق مهند الوحيد في غزة الذي يمارس الرقص المعاصر، لكنه الفريق 17 في الأراضي الفلسطينية، إذ يوجد في الضفة الغربية 16 مجموعة لهذا الفن، تتمتع بحرية أوسع من تلك الموجودة في غزة، وكل سنة تنظم هذه المجموعات مهرجاناً للرقص يمتد إلى ما يقارب الأسبوع.
وبحسب مهند، فإن فريقه محروم من السفر إلى الضفة الغربية للمشاركة في مهرجان الرقص المعاصر.
وحول السبب يقول المدير التنفيذي للمهرجان في الضفة الغربية خالد عليان، "يحرم كل موسم عشرات الشبان من غزة من المشاركة في مهرجان رام الله للرقص المعاصر بسبب القيود المفروضة على حرية التنقل بين المحافظات الفلسطينية".
<script src="https://cdn.jwplayer.com/players/0DZbVv9U-7dch6U40.js"></script>